لا أرسم الإنسان
فيزيولوجيًا بل أجسد همومه وطموحاته ورغباته
حوار مع التشكيلي السوري الراحل غسان السباعي
الفنان غسان
السباعي من مواليد مدينة حمص عام 1939 درس التصوير الزيتي في
كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية وتخرج منها عام 1964 تابع دراسته
الأكاديمية في باريس، حيث حصل على شهادة الدكتوراه في فن الغرافيك عام 1975
شارك
في العديد من المعارض الفنية داخل القطر وخارجه. وأعماله موزعة
في الكثير من الدول العربية والأجنبية شغل منصب رئيس قسم الغرافيك
في كلية
الفنون الجميلة بدمشق... التقيناه وأجرينا معه حوارًا حول تجربته
الفنية
ورؤيته للفن التشكيلي
وحيد تاجا
***
وحيد تاجا: هل لك
أن تحدثنا عن بداياتك؟
غسان السباعي:
شغفت
بالرسم وأحببته منذ طفولتي،
بالرغم من وجودي في جو شبه مغلق (مدينة حمص)،
حيث لم تكن
هناك متاحف أو معارض فنية في تلك الأيام. واتجهت مع العديد من
الزملاء إلى نسخ بعض الأعمال الفنية ولا أخفيك بأنني قد أخفقت في هذا
العمل
فقد كنت غالبًا ما أتصرف في
الألوان وفي درجاتها وربما كان هذا السبب وراء
اتجاهي إلى
رسم الطبيعة وفيما بعد، أخذت أهتم كثيرًا بالإنسان، وبتقاطيع
وتعابير الوجه الإنساني تحديدًا وكانت مرحلة النضوج الفني بعد دراستي
الأكاديمية في الإسكندرية، ومن ثم في فرنسا، وأخذت محاولاتي في رصد
جماليات الواقع الإنساني بالعمق وأخذت أرسم الحياة من حولي... العائلة،
الحي، وجوه الناس، وذلك بصيغة واقعية تكشف عن رغبتي في امتلاك مظاهر
الحياة
وتوشيحها بما هو ذاتي من انطباعات وانفعالات.
و. ت.: قسَّم
النقاد تجربتك
الفنية إلى ثلاث مراحل: دراستك في الإسكندرية وتأثرك بالفن الفرعوني ثم
نكسة يونيو 1967 ثم دراستك في فرنسا، فهل يمكن لك أن تحدثنا عن هذه
المراحل؟
غ. س.:
الفترة التي قضيتها في الإسكندرية شكلت مرحلة النضوج والوضوح
الفني فقد أزالت الكثير من المفاهيم الخاطئة التي كانت عالقة في ذهني
حيث
كنت أنتمي في سوريا إلى أولئك
الفنانين ذوي الموقف السياسي والفكري الذي
كان غالبًا
ما ينعكس على العمل الفني ويطغى عليه، مما يضعفه ويدني من
مستواه الفني
وفي مصر التقيت بمحمد حامد عويس وكانت موضوعاته منصبة على
العمال والفلاحين في مصر وكنت قريبًا منه في مفاهيمه الفكرية والسياسية
وقد
علمني عويس كيف أزيل الشعارات
السياسية من اللوحة الفنية... ولما كنت لا
أزال أملك
مفاهيم ساذجة عن رسم الإنسان فقد تعلمت منه أيضًا كيف أرسم
الإنسان ومن
ناحية أخرى فقد تأثرت كثيرًا بالفن الفرعوني القديم والطريف في
الأمر أنني كنت أكره هذا الفن وأعتبره فنًا جامدًا، ولكن بعد أن رأيته
في
أماكنه الأصلية، الأقصر، أسوان،
تغيرت هذه الفكرة، وتأثرت به بشكل كبير
وهذا واضح في
معظم أعمالي حتى الآن أما نكسة يونيو فقد تركت جرحًا بليغًا
في جميع
الفنانين العرب، وكانت صدمة لكل أفكارنا وأحلامنا إلا أن تعبيرنا
عن هذا الزلزال الكبير جاء ساذجًا وكان عذرنا أنها كانت تجربة مفاجئة
وجديدة ويمكن القول: إنها فترة
الفن السياسي السوري، وكانت مرحلة فيها
الكثير من
الصخب والضجيج والحماس على حساب الجودة الفنية والمستوى الفني
أما أعمالي
تحديدًا فقد انعكست الهزيمة في عدة عناصر، وأخذت لوحاتي تحفل
بالرموز المختلفة، وخاصة الأطفال فرسمت لوحة العرب الصغار، وهي تمثل
مجموعة
من الأطفال وبأيديهم أسلحة أكبر
منهم لا يعرفون كيف يحملونها أو أين
يسيرون فيها
كما رسمت الأطفال المعلمين وهي تمثل حالة سردينية وأيضًا رسمت
لوحة (شق في
الجدار)، والتي صورت طفلاً مصلوبًا على جدار قديم فيه شرخ
عميق... لم
يكن سوى شق في الجدار العربي الذي كان متماسكًا وقويًا وقد صلبنا
عليه جميعًا ولكن الملفت للنظر في هذه المرحلة أنه ورغم الهزيمة المرة
التي لم يكن هناك يأس بل برز
الأمل عند الجميع... وربما كان هذا هو سبب
ظهور
المقاومة الفلسطينية بعد 1967. أما في فرنسا فقد اطلعت على تجارب
العالم القديم والعالم المعاصر ورأيت جميع المدارس الفنية بشكلها
الأصلي
بعد أن قرأت عنها كثيرًا، وقد
تركت هذه المرحلة آثارها على الصعيد التقني
في أعمالي،
حيث مارست خلال أربع سنوات فن الحفر والغرافيك والمعروف أن فنان
الغرافيك مسؤول عن كل مليمتر واحد في القطعة المعدنية التي يحفرها،
ولهذا
أقول : إن فن الحفر علمني، من
جديد، فن التصوير الزيتي.
و. ت.: هل نستطيع
القول إنك تنتمي إلى مدرسة فنية معينة؟
غ. س.:
لقد استفدت من مدارس فنية عديدة، الفن المصري القديم وفن ما بين
النهرين والفن المصري مشكل بطريقة حسابية دقيقة جدًا، إن صح التعبير،
وهو
فن معماري منظم فضلاً عن كونه
فنًا ميتافيزيقيًا أي لا يعبر عن حالة واقعية
وهو فن مادي
ولكنه غير محسوس، فأنت ترى حالة أقرب إلى الصمت. هذه الأمور
انعكست بقوة في لوحاتي، لذلك يقال: إنني تأثرت بالمدرسة الميتافيزيقية،
ومن المعروف أن هذه المدرسة تلح على الإنسان وعلى الأشياء التي تحيط به
للوصول إلى عمق الأفكار حول غربة الإنسان المعاصر واستلابه عن طريق
أبسط
الأشكال الفنية وأكثرها عادية
وألفة أنني أهتم بالجانب المعماري في تكوين
اللوحة،
وبإلغاء التفاصيل، التفاصيل بالعمل الفني هي شوائب تؤذي اللوحة ما
أريده في النهاية هو الوصول إلى التعبير المطلوب بأبسط الخطوط وأبسط
الألوان
و. ت.: وماذا عن
توظيف الأشكال الهندسية في أعمالك؟
غ. س.:
الشكل
الهندسي في اللوحة له وظيفتان:
الأولى: أنه يفيد في تكوين اللوحة
وبنائها
وعمارتها على الصعيد الهندسي؛ والثانية: إمكانية تحميل الأشكال
الهندسية الكثير من المضامين الفكرية والفلسفية مثل التناقض بين الخط
المنحني والخط المنكسر، الخط الأفقي المعبر عن السكوت والصمت، الدائرة
كحلقة محكمة، المربعات وأشباه
المربعات، كما في لوحة الأطفال المعلبة.
و. ت.: الصفة
الشمولية أو العالمية في أعمالك هي الغالبة الأمر الذي يدفعنا إلى
سؤالك عن المحلية والعالمية في الفن؟
غ. س.:
الرؤية الشمولية في أعمالي لا تنتفي المحلية فيها، فالمحلية في تجربة
أي فنان قائمة من خلال معايشته لواقعه المحلي، ولها عمقها التاريخي
والتراثي. والفنان هو ابن واقع
له امتداده الحضاري وتطلعاته المستقبلية
وعندما يعبر
الفنان عن عصره بوعي وعمق وبموقف فلا بد أن يرتبط ذلك بشكل أو
بآخر بحالة لها استمراريتها وشموليتها.
و. ت.: ذكرت أن
مرحلة ما بعد يونيو أثرت في زيادة استخدامك للرمز في اللوحة. فهل يمكن
أن تكلمنا عن تطور الجانب الرمزي في أعمالك؟
غ. س.:
الرمز، كما أراه، أقرب إلى الصورة الواقعية أحاول ألا أغوص فيه لدرجة
الغموض، وفي الوقت نفسه، لا أتعامل مع بقية العناصر بصيغة مباشرة،
فهناك
حالة انسجام وتآلف وحوار بين
العناصر الواقعية والرمزية في أعمالي فأنا
ألمِّح ولا
أوضح، ولا بد في النهاية لجميع العناصر الواقعية والرمزية أن
تخدم فكرة العمل الفني.
و. ت.: العنصر
الإنساني هو العنصر الأساسي في لوحتك
ويمثل دائمًا مركز اللوحة ومحور تعبير فيها. فما هي الفكرة التي
تسعى إلى
تجسيدها من وراء هذا؟
غ. س.:
أنا لا أرسم الإنسان بالمعنى الفيزيولوجي، فما أسعى إليه من خلال
تصويري له هو تجسيد همومه وطموحاته ورغباته، أي
تصوير عالمه
الداخلي، تصوير الإنسان المعاصر في حالاته المتنوعة في صراعه
مع الزمن... في سقوطه وانتصاره، في نفيه وعودته... موته وولادته...
صمته
وصراخه... عذابه وأحلامه... رقته
وقسوته. الإنسان الذي أرسمه هو إنسان
المجتمعات
الاستهلاكية في هذا العالم وبطبيعة الحال فإن الإنسان العربي هو
جزء من هذا العالم... وعالم الإنسان العربي الداخلي مليء بالهموم
الخاصة
والعامة.
و. ت.: من الملاحظ
أنك دائم التشاؤم في أعمالك؟
غ. س.:
لا أتفق
معك في هذا، صحيح أنه لا يوجد
فرح في لوحاتي ولكنني لست متشائمًا نحن ننتظر
لحظة كآبة،
فكما رسمت لوحة العرب الصغار... ولوحة شق في الجدار، رسمت لوحة
الشهيد ولكن أريد أن أسأل بدوري: من أين يمكن للفرح أن يظهر في أعمالي
في
ظل الظروف التي تمر بها الأمة؟!
و. ت.: ما هو هدف
الفن في رأيك؟
غ. س.:
هدف الفنان هو خلق عالم أو تشكيل أكثر توازنًا وأكثر جمالاً... نحن
نعيش في
عالم مليء بالهموم والأحزان والطموحات، ونتعامل مع متناقضات لا حصر
لها وهدفي هو تذليل هذه الصعوبات
والتناقضات والوصول إلى عالم أكثر
انسجامًا
واستقرارًا وتوازنًا.
و. ت.: في
استخدامك للون يلاحظ اهتمامك بتدرجاته أكثر من اللون نفسه، فما رأيك في
ذلك؟
غ. س.:
هذا صحيح والسبب في ذلك تأثري بفن الحفر والغرافيك وهو الفن الذي يعتمد
على الأبيض والأسود بشكل أساسي، كما هو معروف.
و. ت.: سؤال أخير
حول تجربتك في الرسم للأطفال ما هي خصائص رسالة الأطفال في رأيك؟
غ. س.:
في البداية لا بد أن تكون تكوينات رسام الأطفال بسيطة وغير معقدة، وأن
يمتاز بروح الفانتازيا كما لا بد أن تكون ألوانه دائمة الفرح، جذابة
غير
منفرة، حتى ولو رسم، أبشع
الحيوانات أو الوحوش فلا يوجد في قاموس الأطفال
فن كئيب أو
حزين وعلى صعيد تجربتي الخاصة فلا أنكر أنني أنسى أحيانًا أنني
أرسم للصغار فأرسم كما أرسم للكبار ولهذا أقول: إن رسومي للأطفال ليست
كلها على سوية واحدة، فمنها
الجيد ومنها السيئ.
أجرى الحوار: وحيد تاجا
*** *** ***