الثقافة وتفسيرها التاريخي العلمي

 

وليد مهدي

 

الثقافة نظام تراتبي من المعان والرموز المتوارثة تاريخيًا، وهي مجموعة أدوات رمزية متحكمة بالسلوك يعرِّف من خلالها الأفراد عالمهم ويعبرون بها عن مشاعرهم ويصدرون عبرها أحكامهم.
كليفورد جيرتز

 

توطئة

مذ ظهر "الوعي" لدى الإنسان في هذه الأرض، حتى وجدت أولى المسؤوليات أمامه: فهم العالم الذي يحيط به. إيجاد تفسير لكل شيء في الكون. وقبل أن يعرف المرء من هو ومن أين جاء، ما هو هذا العالم ولم نحن فيه، شعر بالحاجة إلى معرفة الطريقة والأسلوب الأنسب للحياة في عالمه.

الثقافة، ما هي إلا واحدة من تلك الأساليب "المحكمة" التي تنوعت وتلونت لفهم وممارسة الحياة الاجتماعية للعيش ضمن الجماعة في هذا العالم. لكن، هل الثقافة قيمة بنيوية أصيلة في التكوين المعنوي البشري أم هي مجرد أسلوب حياة يمثل هوية طارئة سرعان ما تزول بحكم تقدم الجنس البشري بعمومه؟

أصوات تنادي بصراع الحضارات وأخرى تدعو إلى التحاور والتسوية، لكن يبقى للمرء أن يتساءل: إلى أين تمضي بنا الثقافات المختلفة في هذا العالم؟ وهل هناك ثقافة واحدة ستكون لها الغلبة والاستمرار، أم أن تنوع الثقافات البشرية قدر أو تكوين طبيعي مستمر ما استمرت الحياة؟

عبر مقال اليوم، سنحاول الإجابة على هذه التساؤلات بتبيان موقع الثقافة في خارطة التقدم البشري عبر التاريخ بتفصيل وتعريف آليات اشتغالها وتأثيرها وهياكلها العامة برؤية تحليلية عقلانية علمية تجريدية قدر المستطاع.

الثقافة والعقلانية

أداة الوعي في المعرفة والتفسير هي العقل، إلا أن مصادره التي تغذيه مختلفة متنوعة، فهي حسية تتعلق بالحواس الخمسة أو ادراكية تتعلق بانطباعات المرء عن الأشياء والحوادث. يقسم كارل بوبر، في كتابه أسطورة الإطار Myth of Framework، مصادر المعرفة إلى مصدرين لا ثالث لهما:

-       أسطورية-ثقافية تتعلق بالموروث الثقافي العام في الدين والتراث، وهي معرفة لايقينية غير قائمة على دلائل قاطعة، مع ذلك يتناقلها العامة على نحو يقيني كحقائق مطلقة غير قابلة للجدل (مقدسة في أغلب الأحيان).

-       عقلانية تتعلق بالعلم والمعرفة وخلاصة التجربة العلمية البشرية الرصينة، وهي معرفة مؤسسة على النقد Critique، حيث تتعرض الأفكار القديمة لنقد الأفكار الأحدث، فيجري عليها التعديل دائمًا إلى درجة أن العلم، كما عرَّفه فرنسيس بيكون، يصبح ككيان ومحتوى متجددًا متغيرًا بوتيرة أسرع وأقوى وأكثر ثباتًا من التبدلات البطيئة التي تحصل في بنية وتكوين الأسطورة والموروث الثقافي العام.

أمام هذا التصنيف والتفسير "المعرفي" للثقافة نجد بأن لها وظيفة معرفية بالإضافة لوظيفتها كـ "هوية" حسب أهم تفسير انثروبولوجي لها.

لا تزال هذه الوظيفة المعرفية تلعب دورها الهام في تحديد طبيعة تفكير الأفراد في بعض المجتمعات وتعتبر من أهم عوائق تقدمها. الوعي الجمعي الإسلامي العام، كمثال، وإلى هذه اللحظة، لم يتقبل مسألة أن الوظيفة المعرفية الأسطورية للثقافة هي وظيفة قديمة وبدائية وغير معصومة عن الأخطاء، لا بل هي عشوائية وتفاعلية كانعكاسات مع البيئة لكنها تتسلل إلى الفرد الذي جبل بوعيه على تحصيلها في حياته كـــ "علم".

فمنطقة التداخل بين العلم والدين في هذا الوعي ما تزال سميكة وواسعة ويصعب الفصل لدى شرائح واسعة في عالمنا الإسلامي لتقبل فكرة أن العلوم الإنسانية والصرفة لا توجد لها أية صلة بالدين والموروث الثقافي العام ويجب الفصل بينها للوصول إلى علم "موضوعي" حقيقي قادر على النهوض.

لذا، وفي موضوع اليوم، سنحلل الثقافة وتنوعها وسنناقش علاقتها بالإنسان وحياته بزاوية شاملة.

ما هي الثقافة؟

كما يورد آدم كوبر في كتابه الثقافة: التفسير الانثروبولوجي:

يفهم الكثير من الناس الثقافة على أنها الأدب الرفيع والفنون التي يتمتع بتقديرها وتذوقها قلة من "النخبة" التي تحسب في المجتمع أنها مثقفة. بعض النقاد من أمثال بيير بورديو يعتبر الثقافة وفق هذا المستوى من الفهم حيلة من حيل الطبقية، إذ إن تقييم الأعمال الفنية والأدبية لا يقدر عليه إلا الصفوة وهذه القدرة بحد ذاتها تعد امتيازًا.

لكننا في علم الأناسة (الانثروبولوجيا) وعلم الاجتماع ندرس الثقافة بعمومية أشمل من التعريف الشعبي البسيط أعلاه، فالثقافة كظاهرة انثروبولوجية، كما يراها تي إس إليوت:

هي أسلوب الحياة ممثلة بالقيم والعادات والتقاليد والدين والفنون التي تميز مجموعة من الناس أو شعب من الشعوب يعيشون مع بعضهم في مكان ما وزمن ما، والثقافة أكبر من مجرد أن تكون تلك القيم والعادات والفنون مجتمعة، لأنها أسلوب حياة ناتج من تفاعلها جميعًا.

لهذا السبب، رآها ماكس فيبر من زاوية "الأسلوب" في التعامل مع أحداث العالم حين قال:

الثقافة هي إسباغ المعنى والأهمية، من وجهة نظر جماعية، على جزء محدود من الأحداث اللامتناهية وغير ذات المعنى في العالم!

لكن، يبقى التعريف الذي افتتحنا به الدراسة والذي جمعه آدم كوبر من عدة صفحات لكتاب جيرتز تفسير الثقافة interpretation of culture هو الأكثر تجريدًا في توضيح ماهية الثقافة:

الثقافة نظام تراتبي من المعان والرموز المتوارثة تاريخيًا، وهي مجموعة أدوات رمزية متحكمة بالسلوك يعرِّف من خلالها الأفراد عالمهم ويعبرون بها عن مشاعرهم ويصدرون عبرها أحكامهم.

يبقى أن ننوه بواقع التماهي بين مفهوم الثقافة ومفهوم الحضارة، حيث يعتبر شبنغلر وتوينبي أن تاريخ العالم هو تاريخ لوحدات عضوية حية هي الحضارات، التي هي التجمعات البشرية ذات الثقافة المشتركة وما تنتجه من نتاج فني وعلمي وعمراني. أي، الحضارة إطار أشمل من الثقافة لكنها تنتج عنها، فهي محصلة جهد تجمع بشري يحمل ثقافة ما عبر تاريخ وحقبة زمنية معينة، وبلغة الفيزياء: الحضارة هي الهيئة رباعية الأبعاد للثقافة.

الحضارة بتجريد أدق تمثل البناء التحتي، الإنتاج. الحضارة جسد والثقافة روح في هذا الجسد.

الثقافة هي البعد الرابع للحضارة، الحضارة قد تتعرض للتراجع والانهيار، لكن الثقافة لا تموت إلا إذا ماتت "اللغة". الحضارة الإسلامية ربما في آخر مشاهد سقوطها اليوم مطلع القرن الحادي والعشرين، لكن الثقافة العربية الإسلامية لا تزال كما هي. (نناقش هذا الموضوع في نهاية الدراسة).

وظيفة الثقافة:

حسب رؤية كارل بوبر التي ذكرناها في المقدمة فإن الثقافة أدت دورًا بدائيًا في تعميم الخبرة الاجتماعية والمعرفة، سدَّ ذلك الفراغ العاطفي النفسي والعقلي لدى البشر لمعرفة العالم والإنسان وايجاد التفسير لكل شيء وبناء أنظمة سلوكية معينة تخدم الفرد والجماعة.

الثقافة لهذا السبب، من هذه الزاوية، هي "إشغال مؤقت" للوعي بمفاهيم تُوازِن في عقل الفرد البشري الواحد القلقَ الذي تسببه آليات التساؤل والاستفسار عن كل شيء. أي أن الأسطورة أدت دورًا كدور "الحليب" الذي يتناوله الرضع لحين تهيئة أمعائهم لهضم الطعام الصلب بعد شهور، وهو ما يقابل العلم الرصين النقدي العقلاني، الذي لابد أن يحتل مقام الثقافة في التاريخ البشري ولو بعد حين ليتداخل مع أسلوب الحياة والنظام، فلا تبقى الثقافة مبهمة الغاية غير منطقية الدلالة (كما سنتناولها بعد قليل).

وهذا يعني، أن عموم وظائف الثقافة هي "الإشغال المؤقت" كبديل عن العلم، والهوية التي تميز جماعة من الناس، كتعبير عن وجودهم وفق أسلوب معين يميزهم عن سواهم من الجماعات تمهيدًا لليوم الذي يتقبل فيه كل البشر مفهوم "وحدة النوع الإنساني" وخلق الحضارة البشرية الكلية.

وعمومًا، تبدو وظائف الثقافة مؤقتة، وتمثل انعكاسات المعرفة والتطور التقاني في فترة زمنية ما لشعب ما. ويمكن ملاحظة الثقافة الغربية المعاصرة وعلاقتها بالتطور التقاني والنظام الرأسمالي. لكن، كيف يمكن تفسير صمود بعض الثقافات التي تحمل رموزًا من العصر الحجري أو بدايات فجر التاريخ لتدخل قرننا الحادي والعشرين، قرن النانو تكنولوجي، وهي لا تزال تتمسك بمواريث قديمة تجد صعوبة بالغة في محاولة تكييفها مع الحضارة الحديثة؟ لماذا نجحت أمم بسرعة وما تزال أخرى تحاول للوصول إلى هذا التكيف؟ هذا ما سوف نناقشه في نهاية الموضوع في فقرة: كيف تنشأ الثقافة؟

الوعي والثقافة:

من ناحية علم الاجتماع، يتفق تالكوت بارسونز مع راي ماكس فيبر في تفسير الثقافة حين يصفها على أنها تعبيرات لا منطقية رمزية يحاول البشر تثبيتها وقبولها عبر تبريرها وفق أقرب موضوعية يمكن توفرها. لكن، وهنا سؤال نوجهه لبارسونز: لماذا تكون أغلب دوافع الناس وأهدافهم غير منطقية وغير ذات قيمة نفعية عبر الممارسات والتقاليد والعادات المحتواة في الثقافة؟

في الواقع، يوجد لدى الفلاسفة وعلماء اللغة والانثروبولوجيين وعلماء النفس والاجتماع قناعة بأن الثقافة ترتكز أساسًا على ما طوره الإنسان الأول للقدرات الرمزية والإبدال الخيالي. وهذا يعني ببساطة أن الإنسان الأول طوَّر أسس الثقافة اعتمادًا على "اللاوعي" أو اللاشعور حيث الباطن البشري هو المنتج للرموز، فكانت محاولة الإنسان الأول فهم دلالة "ما" متخفية وراء هذه الرموز.

فالثقافة تحتوي على نوعين من الرموز: الصورية ممثلة بالرؤى والأحلام ودلالات رموز الحيوانات والكائنات الأسطورية، والنوع الاخر هو الرموز اللغوية الصوتية وما تشكله من مفردات وتراكيب يتعامل بها مجموعة من الناس لإيصال أفكارهم لبعضهم البعض.

لكن لماذا ينتج اللاوعي الرموز أصلاً؟ لأن الرموز تمتلك قابلية الاختصار، اختصار مناقشة قضايا شائكة وبالغة التعقيد ليس بمقدور الفرد الأول تفكيكها وفهمها - كما سنأتي لتوضيح هذه الجزئية بعد قليل.

هذه الرموز اللغوية–الصورية هي ما تعامل معه الإنسان الأول بتحويلها من اللاشعور إلى الشعور الواعي الظاهري عبر "الثقافة". وأوضح الأمثلة عليها هو تطور اللغة المكتوبة من رموز صورية إلى رموز ذات دلالة صوتية وصولاً إلى الأبجدية، وهو اختصار لانتقال الرمزية من اللاوعي الصوري إلى الوعي ممثلاً باللغة الصوتية والمكتوبة.

ومثلما أن العاطفة Emotion تكمن في اللاوعي، تجد الثقافة لها مكانًا عميقًا في اللاشعور العاطفي للفرد، ولكونها تداولات لرموز مشتركة بين الجماعات، تصبح الثقافة بلا شك بمثابة عاطفة جمعية لاشعورية مشتركة لهذه الجماعة. والكثير ممن بحثوا في تفسيرات الثقافة تساءلوا:

هل الثقافة ذات كلية للجماعة؟

في الواقع، وبتحليل أكثر دقة، الثقافة هي العاطفة الجمعية للجماعة بصورتها الانفعالية المتحركة وليست المنطقية الجامدة، وبشكل أعمق أكثر تجريدًا، هي منظومة الرموز الخاصة بالجماعة ذات الدلالة اللاشعورية العاطفية المبهمة أحيانا والواضحة في أحيان أخرى في صيرورتها مع وقائع العالم.

وتشمل الرموز الصوتية المحكية (اللغة) والرموز الصورية ممثلة بالعلامات وما تثيره من انطباعات لاشعورية، كالصليب والهلال والنجمة والسيف والنسر والأجنحة والشمس... إلخ. حتى اللغة، ورغم دلالاتها المتعلقة بالوعي الظاهر (العقلاني)، تثير بعض كلماتها وتراكيبها انطباعات عاطفية سواء كانت سطحية متعلقة بحياة الفرد الواحد، أو اعماقية تتعلق بتاريخ الجماعة.

ويبقى السؤال: كيف نشأ الفرد بهذه الطريقة أسيرًا للجماعة، عبدًا للثقافة الجمعية؟ هذا الأمر، وبالرغم ما يكتنفه من غموض وتعقيد كونه يتعلق بتاريخ يزيد على ملايين السنين، لكننا في هذه المرحلة من العصر نمتلك إرثًا معرفيًا لابأس به يخبرنا باختصار: الفرد الأول كان ضعيفًا في قدرته البدنية والذهنية لاستيعاب التشكيل الاجتماعي الذي انتمى إليه وصنع الحضارة، فكان لابد من تحديد "دور" محدد له ضمن الأنساق، وكان لابد من "اختصارات" في المفاهيم تملأ الفراغ الذهني الذي يتولد من تساؤلاته الدائبة والمستمرة من هو وما هو مصيره؟ فأهم ما يميز عمليات اللاشعور والأحلام هو التكثيف والاختصار كما يتفق على هذا علماء النفس، لكن لماذا يكون اللاشعور رمزيًا مكثفًا؟ لكي يوازن بين الفهم السطحي الحسي البسيط للعالم من جهة وبين التراكم اللاشعوري الجمعي الذي يغذي الحافظة الفردية بهيئة رموز متداولة يوميًا في اللغة أو الدين أو الفلكلور الشعبي، كذلك الإدراك اللاحسي الباراسايكولوجي العابر للزمكان space – time من جهة أخرى، الذي يقدح - وإن نادرًا - في ذهن الفرد بين الحين والحين، والذي يحاول إخبار الإنسان منذ ظهوره بأن هذا العالم أعقد بكثير من تصوراته وتخيلاته.

الثقافة بالتالي خليط بين الفهم الجمعي–العاطفي للعالم، والفهم الفردي الشخصي العاطفي الخاص، وقد يتداخل معها الادراك اللاحسي الفائق Extrasensory Perception في بعض الأحيان، وهو إدراك مرتبط بالذاكرة الكونية التي شرح عنها كارل جوستاف يونغ كبنية من ذاكرة تحوي تاريخ الكائنات البيولوجية بأسره. فكلما تقدم بنا الزمن أصبحنا بعيدين عن رموز الذاكرة البيولوجية، لهذا نجد أشكال الحيوانات والبشر ذوي الرؤوس الحيوانية تملأ البنية الرمزية في الثقافات البدائية القديمة في الهند وافريقيا، بل انسحب الكثير منها إلى الحضارات الأكثر تقدمًا في سومر ومصر القديمة.

التكوين الهرمي للثقافة

في هذه المسألة نحن لا نتحدث عن البناء الفوقي للدولة، بل البناء الفوقي للحضارة/الثقافة. وهو بناء مختلف في طبيعته عن بناء الدولة لأنه أكثر ارتباطًا بالرمزية وأكثر وغولاً في أعماق التاريخ بشكل لا يقارن حتى.

بلا أدنى شك، يتربع الدين على قمة الهرم الثقافي من جانب تأثيره والدور الذي يلعبه في حياتنا الثقافية، وبقية التقاليد والأعراف تقع في الأسفل. فإذا كانت الثقافة ذاتًا أو عاطفة جمعية، ما هو موقع الدين فيها؟ هل الدين هو الجانب الصلب القاس من هذه الثقافة، بما يناظر المبادئ والمثل العقلية التي يتبناها الفرد؟ هل الدين فعلاً هو "عقل" الثقافة، أو بالأحرى، هل هو "عقل" جمعي (باعتباره قواعد تفكير/توجيه صارمة/مقدسة) ضمن نطاق أوسع نسميه الوعي أو المخيال الجمعي؟

هذا الافتراض قد يمثل إشكالية كبرى لأول وهلة، لأنه يتناقض تاريخيًا مع الدور الحالي التراجعي النكوصي للدين المضاد للعلم والعقلانية. لكن، عند الرجوع إلى مفهوم روح أو ذهنية العصر Zeitgeist لدى فيلسوف التاريخ بنديتو كروتشه والذي يعني أن مفهومًا ما في حضارة ما وبمرحلة تاريخية ما لا يحمل نفس القيمة والتأثير في زمان ومكان آخر، نفهم كيف "كان" الدين يومًا ثورة وعقلاً على مفاهيم وقيم سائدة تغرق بها ثقافة أمة من الأمم وإن لم تكن أدوات تلك الثورة هي أدوات العقل المعرفي المعاصر اليوم.

والدين، ولكونه يتجدد عبر حقب تاريخية عبر ثورات ثقافية تنتج ديانات جديدة أو طوائف منشقة عنه أو مذاهب متميزة عنه فهو بروح عصور مضت يمثل "تنويرًا" يختلف بالتأكيد عن التنوير الإنساني العقلاني ما بعد النهضة في أوروبا، لكنه بروح العصر، يمثل مستوى محدودًا من عقلانية تفرض نفسها بقيم مضادة لما هو سائد. الفارق بين الدين وعقلانية اليوم ونقدها المستمر هو أن الدين ثورة في المفاهيم والقيم تقوم بالتغيير لفترة وجيزة لكنها ترسخ لمدة زمنية طويلة، عكس العقلانية العصرية التي هي أكثر حياة وحيوية لما تقبله من نقد مستمر.

حين يكون الدين في قمة الهرم الثقافي ولا يحمل تأثيرًا على بقية المستويات الاخرى، كالعادات والتقاليد والفنون، يكون شكل هذا الهرم الثقافي أشبه ما يكون بتلة، أو جبل غير منتظم ذو قمة ناتئة تمثل الدين، كما هو الحال في اميركا اللاتينية اليوم، وبعض مناطق العالم المتمدنة في أوروبا وآسيا. لكن حين تكون القواعد الأخلاقية المنبثقة عن الدين صارمة ومتحكمة بالفنون والآداب والتقاليد مثل الإسلام وبدرجة أقل الكونفوشية (في الصين)، يكون شكل الهرم أكثر انتظامًا وبزوايا أكثر حدة وكأنه أهرامات هندسية.

وهذا التصوير الهندسي للثقافة بالغ الأهمية كونه يمنحنا الفرصة لرؤية جديدة للثقافة وتصنيفها حسب طبيعتها وعلاقة قمة الهرم بقواعده. لكن، هل الدين في القمة لدى كل الناس في نفس الحضارة؟

مثل أوروبا والولايات المتحدة، حيث تسود الفردانية بدرجة عالية ويسود التمسك بمفاهيم الليبرالية والعقلانية أكثر من سواها، تتفاوت الدول والمدن في هذه التصنيفات. فالدين في القمة، لكنه دين "الإنسان" والعقل، أي مفاهيم العصرنة والتمدن تحل لدى بعض الشرائح والفئات في تلك المجتمعات محل الدين في العالم الثالث.

وشكل الهرم الثقافي في لندن كمدينة مثلاً، وبما يتميز به البريطانيون من بيروقراطية والتزام "قد" يكون - على نحو افتراضي وليس قاطعًا - شكلاً هرميًا بمستوى معين من الدقة لكنه أكثر اتساعًا من الهرم في العالم الإسلامي، تتربع "قواعد" البيروقراطية فيه للأعلى بدلاً من الشريعة الدينية وكذلك بالنسبة للهرم الصيني. وبصورة عامة، نحن بحاجة إلى دراسات تشريحية واسعة وعميقة لتفاصيل بنية الثقافات كل على حدة مستقبلاً لتسهل دراستها منفصلة عبر تصنيفها وفق قواعد علمية ثابتة في التصنيف.

ومن هذا كله، وباعتبار "هندسة الثقافة" أدوات تجريد يمكنها أن تفسر لنا جانبًا معينًا من "الثقافة"، نستنتج بأن الوعي الجمعي الإسلامي إنما يقاوم بشدة التمدن والعصرنة لسبب كونه ينبثق من هرم ثقافي بالغ الدقة والحدود، ولأجل أن تستبدل "الشريعة" القابعة في قمة الهرم بالعقلانية والحداثة، لابد أن تكون العقلانية والحداثة منسجمة مع البناء الكلي الذي أسسه الإسلام خلال 1400 سنة.

وهو إلى حد الآن استنتاج افتراضي، يبدو بأنه لا يخلو من غرابة، لكنني أؤكد هنا بأن هذا الاستنتاج ممكن في ضوء دراسة أكثر عمقًا وتفصيلية على نحو تجريدي محض. فمثلاً من دلالات مثل هذه النتائج ميول الوعي الجمعي الإسلامي لإثبات توافق "القرآن" مع العلم الحديث.

يبقى أن نلفت إلى صورة من الوقائع العملية التي تشير إلى ذلك، فما بعد احتلال العراق في 2003 وبروز مشروع الشرق الأوسط الجديد، حاولت دوائر صنع القرار في الغرب صناعة "إسلام" معتدل ينسجم مع التحديث، أي القيام بتحديث قمة الهرم مباشرة كي يقوم بتغيير القواعد، فكانت النتائج عكسية، القواعد هي التي باتت تنتج التغيير وتعيد إنتاج النموذج الإسلامي الماضوي وتربعه في قمة الهرم "السياسي" بعد ما سمي بالربيع العربي الذي أذعنت له الإدارة الأمريكية بشكل مطلق وقررت دعم الحركات الإسلامية مما تسبب بتراجع شعبية هذه الحركات لما بين الغرب والوعي الجمعي الإسلامي من عداء تاريخي يتجاوز الحقبة الاستعمارية إلى الحقبة الصليبية في العصور الوسطى.

تراجع الإسلام السياسي لا يعني انحلال وتفكك الهرم الثقافي الإسلامي، لكنه يؤشر لبداية مرحلة حرجة وصعبة تشهد اليوم "فراغًا" في رأس الهرم الثقافي بسبب تهاوي وتآكل البناء التحتي المؤسساتي للنظم الحضارية في العالم العربي الإسلامي، وهذا ليس موضوع بحث اليوم.

علاقة الفرد بالثقافة

يقول كليفورد جيرتز Clifford Geertz  في كتابه تفسير الثقافة interpretation of culture (صفحة 5) متفقًا مع ماكس فيبر:

الفرد مثل حيوان عالق في شبكات من المدلولات webs of significance التي نسجت بواسطة وعيه، الثقافة هي شبكة المدلولات المنسوجة تلك، والتي هي نسيج من المعنى الذي يفسر من خلاله بنو البشر خبراتهم ويوجهون فعلهم.

ويرى جيرتز بأن البنية الاجتماعية هي الشكل الذي يتخذه الفعل الإنساني بدوافع فردية أو ثقافية، أي أن شبكة العلاقات الاجتماعية القائمة فعليًا مع الثقافة ما هما إلا نواتج لظاهرة واحدة: تفاعل الإنسان، الحامل للميول البيولوجية والثقافية معًا، مع البيئة في مكان ما بزمن أو فترة محددة من تاريخ الحضارة.

فالثقافة التي يحملها الفرد هي موروث لجماعة معينة من الناس وليست عامة للنوع الإنساني كما هو حال الموروث البيولوجي الجيني، يتلقفها بالتنشئة والتربية الاجتماعية تدريجيًا، وكما يقول آدم كوبر في كتابه الثقافة: التفسير الانثروبولوجي:

السعي وراء هوية هو نضال وجودي يائس، يهدف إلى وضع أسلوب للحياة يمكنه الاستقرار ولو لحظة قصيرة.

فالفرد الواحد يناضل من أجل استمرار أسلوب جماعة ما في الحياة والبقاء لأطول فترة ممكنة، وهكذا، من رحم الثقافات ولدت "الحضارات" باعتبارها أساليب وموروثات من القيم والانجازات في الحياة للجماعات البشرية الأولى التي شكلت، فيما بعد، الأمم.

يمكننا أن نشبِّه الثقافة عبر صور من تطور تاريخي مسرع مثل الأسماك التي تتحول إلى زواحف ومن ثم إلى الديناصورات التي تنقرض فجأة لتظهر الحياة بملامح الطيور، أو تحول الزواحف إلى لبائن من الرئيسيات العليا لتظهر لنا فجأة الصورة البشرية المتغيرة مع الزمن هي الأخرى. فلو كانت الحضارات كيانات مادية، فإن الثقافات أشبه بأشباح تاريخية. كأنما التنوع الثقافي موجه نحو "غاية" إنتاج الثقافة المتطورة من خلاصة هذه الثقافات.

كثير من الباحثين لا يفرق بين مفهوم الثقافة Culture والحضارة Civilization، لكون الحضارة هي "محصلة" لتجسيد الثقافة مع العلاقات الاجتماعية وما تنتجه عبر أجيال، الحضارة هي الإطار الأوسع من الثقافة، لكنها تعتمد بصورة أساسية على ما ينتجه الإنسان الفرد ماديًا ومعنويًا عبر الثقافة التي يحملها.

وبصورة عامة، وإذا أخذنا في الاعتبار راي جيرتز، الثقافة ليست غاية نهائية أو هدف مثالي تتطور نحوه البشرية، بل هي مرحلة يتوهم الذهن الإنساني كثيرًا عصمتها وقدسيتها وتوافقها مع العقل، بل وذلك الشعور الملازم بأنها "أزلية" مثل اسم الإنسان الذي يحمله ويعرفه الناس به.

وحسب مقولة جيمس كليفورد James Clifford كما يوردها آدم كوبر في كتابه الذي أشرنا له سابقًا:

الثقافة جدلية، وقتية... ومنبثقة.

الثقافة ليست قيمة أزلية مطلقة، بل هي "بديهيات" سلوكية وذوقية وانطباعية متعارف عليها ومحببة لا جدال فيها لكونها تتفق مع ميول وذوق عام. العقل البشري كعادته ينطلق من البديهيات Axioms، العقل البشري (للفرد الواحد) ليس أداة قياس معرفية محايدة كما يتصور الكثيرون بوهم العقلنة والاحتكام إليها.

العقل البشري الجمعي بمنهجه الأكاديمي هو أيضا عقل يمضي نحو التجرد من انحيازيته عبر النقد الدائم وتشذيب الأفكار حسب مذهب بيكون في نظرية المعرفة لكنه هو الآخر ليس محايدًا تمامًا، إلا أنه نسبيًا أكثر حيادية.

الثقافة لا يمكنها الخلاص من هذا الوهم بالعصمة، فتنطلق من بديهيات الموروث كنصوص أسطورية أو مرويات تأخذ صفة اليقينية كأمثال شعبية أو نصوص دينية أو حكم متوارثة عبر الأجيال، ومنها على سبيل المثال إيمان كل شعب بأنهم أفضل الشعوب في العالم انطلاقًا من بديهيات يقينية تلقى القبول "العقلي المنطقي" لدى الأفراد المنتمين لإطارها عبر تبريرات راسخة كحجج وبراهين لا يمكن مناقشتها.

لكنها في نفس الوقت، بديهيات جماعية وقتية لا تشكل بنية أساسية في هيكل ثقافة الجنس البشري Human beings، وهو الهيكل الذي تبنيه العقلانية وتنعكس منه ثقافة جامعة بشرية ملامحها تبرز بوضوح في الغرب كثقافة مجردة عن الحضارة الغربية الأم نفسها حتى أنه يمكن ملاحظة الفارق بين الثقافة الغربية و"العقلانية" الغربية التي تترعرع في رحم الثقافة الغربية الآن، والتي ستنجبها يومًا ما كثقافة جامعة حقيقية مجردة حتمًا، وهي التي قلنا عنها في البداية ثقافة النوع الإنساني الكلية الجامعة.

بالتالي، أطياف الثقافات العالمية وما تشكله من حضارات هي أطياف مؤقتة "عابرة" في التاريخ وليست غاية وهدفًا أساسيًا للتطور الاجتماعي البشري. لأنها لا تؤسس بناء قيمي ثابت دائم يدخل في تكوين الثقافة الشاملة الكلية للنوع الإنساني المشترك - سنفصل هذه الجزئية بعد قليل.

الثقافات والحضارات أشبه بمراحل تطور كائنات حية وتحولها إلى كائنات أخرى. وهذا يفسر أيضًا بأن من يعارضون هذا الراي هم من صنف أولئك المنكرين لنظرية التطور البيولوجية، من يعتقدون بقداسة الجنس البشري عبر فرادة وجوده في الطبيعة لا انتمائه لمراحل تطور كائناتها، هم أنفسهم المؤمنين بفرادة ثقافاتهم "المقدسة" لا بمرجعيتها لوحدة النوع الإنساني. فما يحضرهم اللحظة أثناء قراءة مثل هذه الرؤى هي "البديهيات" الثقافية الثابتة التي تصدر حكمها مسبقًا.

كيف تنشـأ الثقافة؟

في هذه الدراسة نحاول اثبات حقيقة أن الثقافة غير مرتبطة بالعرق كما أكد على هذا الكثير من علماء الانثروبولوجيا مثل ادولف باستيان وعالم الانثروبولوجيا الأميركي فرانز بواس Franz Boas الذي يعتبر "أبو" المدرسة الانثروبولوجية الأميركية، وأن الاختلافات الثقافية هي تجربة صرفة للـ "نوع" الإنساني الكلي وإن كانت تجارب هذا النوع مختلفة بتفاعلها حسب واقع الزمان والمكان (البيئة). لكن، وعبر متابعة أهم شروط نشوء الثقافات والحضارات المنبثقة عنها سنجد صورة، وإن كانت ضبابية بعض الشيء، لأهم المسالك أو "القوانين" التي يجري عليها التاريخ الثقافي.

والثقافة حين تكون تقاليد وأعرافًا وفنونًا وآدابًا مشتركة بين الجماعة نسميها "ثقافة"، لكن ماذا لو كانت خاصة بفرد واحد فقط، أو أسرة واحدة بسيطة؟ تسميتها حينئذ تكون أقرب لمفهوم "العادة" الفردية أو "التقليد" العائلي. حين تنجح العادات والتقاليد في التحول إلى موروث يتداوله تجمع بشري ضخم، هنا يمكننا أن نقول تخلقت "ثقافة".

لكن، ما هي الشروط الأساسية لتوافق التجمعات البشرية على تكوين ثقافة؟ من البديهي أن الاحتراب بين العوائل الكبيرة والأسر الأصغر لا يؤدي إلى خلق قيم وعادات مشتركة، لكن التوافق على قوانين وسنن محلية هو الذي يؤدي إلى خلق الانسجام و"اللغة" والثقافة المشتركة.

ودون أن نستغرق في تفاصيل وحيثيات العلاقات الاجتماعية ومسارات تكون الجماعة وما يوحدها من لغة وثقافة، نراجع نظرية فردنان دي سوسير عن اللغة في كتابه المعروف علم اللغة العام، حيث قرر بأنها نظام رمزي مثل سائر الأنظمة الرمزية في علم الإشارات Semiology وكذلك علم الدلالة semantics  كفروع من علم النفس الاجتماعي (حسب ما جاء في صفحة 34).

وبالتالي، اللغة رمزية شأنها شأن الرمزية المحتواة في الفنون العامة والدين والنظم السياسية والمواريث الشعبية الفلكلورية لأي شعب أو جماعة. وحسب هذه النظرية تبادل الرموز كوسيلة للتواصل بين الجماعات هو الذي يعزز وحدة الجماعة ويضفي عليها طابع التفرد كثقافة مميزة.

لكن، وكما ذهب دي سوسير، اللغة أهم نظام رمزي تتداوله الثقافة، وقد يوازي العملة النقدية في تحريك وبناء الاقتصاد لدولة من الدول.

اللغة في الحقيقة "جينات" للثقافة إلى حد ما.

فمثلما تقوم الموروثات في الحامض النووي الدي ان ايه DNA بنقل الصفات الوراثية الجسمية للأجيال، تقوم اللغة، باعتبارها نظام رمزي يحتوي جزيئات (كلمات – أصوات – مفاهيم) للبنى والتراكيب في الإطار الرمزي الأشمل في الثقافة، بنقل الثقافة نقلاً ذريًا إلى الأجيال عبر التنشئة الاجتماعية التي تعيد بناء النسق الذري إلى بنى كلية مرة أخرى.

وسنرى كيف أن هذا الاستنتاج المستوحى من نظرية دي سوسير عن رمزية اللغة سيقودنا إلى تفسير نشوء الثقافات واستمراريتها (كما ولدت أول مرة) بتوفر عوامل استمرار اللغة والثقافة.

عمر الثقافة وولادتها

كثير من الباحثين تساءل: لماذا لا تزال ألهة العصر الحجري ماثلة في الحضارة الهندية حتى اليوم، وبعض الناس لا يزال هناك يعيش بأساليب الحياة الأولى على الصيد والالتقاط؟ ولماذا لا يزال المسلمون يعيشون بقيم وعادات البيئة البدوية الصحراوية والتي بعضها يخالف حتى الشريعة الاسلامية مثل جرائم الشرف؟ لماذا تطورت أوروبا وتخلت عن موروثها، وكيف آل للأمة الأمريكية مختلفة الأعراق والثقافات أن تنصهر لتكون الدولة العظمى الأولى في العالم؟

في المادية التاريخية لكارل ماركس، مستوى تطور وسائل الإنتاج يحدد نوع الثقافة، وحضارة الهند الباكرة ما قبل الآرية تشير بقاياها إلى الحقبة الاقتصادية المشاعية القائمة على الصيد والالتقاط.

هذه الحضارة، والمكتشفة حديثًا والتي وجدت لها صلة بالحضارة الباكستانية المعروفة باسم "حضارة هرابا" Harappa civilization والتي يعتقد أنها نشأت في جنوب الهند القديمة ما قبل الآرية بآلاف السنين، لم يتبق منها سوى الشعب الدراويدي Dravidian people وهم سكان جنوب الهند حاليًا، سكان شبه القارة الأصليين ما قبل الغزو الآري.

وبإجراء مقارنة بسيطة بين الفيدية الآرية والهندوسية القديمة الدراويدية نستنتج أن الحضارة الهندية العصرية تلاقح بين الآريين وأسلاف قدماء بقي منهم الدراويديين، والآلهة الحيوانية وأساليب الحياة المشاعية و"الطوطمية" Totemsim هي قيم حضارية أصيلة للهند قبل الغزو الآري.

تلك القيم والآلهة والأيقونات الحيوانية المقدسة تعكس حياة الاقتصاد المشاعي الذي عاشته الهند تلك الفترة وبقيت أصداءه مسحوبة حتى يومنا هذا بسبب "اللغة" و"الحضارة" التي ورثت للأجيال لتصل حتى يومنا هذا بكل آلهتها وما تبثه من نسيم العصر الحجري في الحاضر.

تجمعات بشرية كثيرة على الأرض مرت بتلك المرحلة، وعاشت الطوطمية، لكنها لم تستطع توريث قيمها لتصل إلى الحاضر بتلك القوة التي في حضارة الهند لأسباب كثيرة يمكن حصرها وتوقعها بالآتي:

عندما يفلح تجمع بشري بإنشاء "ثقافة" مشتركة ممثلة بمنظومة رمزية تتضمن أيضًا لغة مشتركة، وفي حقبة زمنية معينة ومرحلة تاريخية معينة من تطور النظام الاقتصادي، فإن بصمة وطابع ذلك العصر تبقى منسحبة للعصور التالية بسبب استمرارية الرمزية الموروثة باللغة أو عبر التقاليد والدين التي تحافظ عليها الأجيال، ولعل اللغة هي العامل الأهم في الحفاظ على تلك المواريث كونها جينات ذرية للثقافة واستمرار اللغة واللهجة الدراويدية في الهند منذ أكثر من خمسة آلاف عام يفسر وصول آلهة العصر الحجري للقرن الحادي والعشرين بعد الميلاد. (يقابله انسحاب آثار الوثنية السومرية الأكادية البابلية على المذهب الشيعي في جنوب العراق بسبب تداول العادات إضافة إلى بعض المفردات والتراكيب اللغوية القديمة رغم انمساخ اللغة بالتعريب والتتريك والتفريس).

الثقافة واللغة إذا ما تمت المحافظة عليها من الانمساخ تبقى فاعلة ومؤثرة وحاملة لبصمة العصر الذي "ولدت" فيه مهما تقدم الزمن، والحضارة الباكرة في الهند كمثال والتي يعتقد بأنها نشأت في الجنوب وشملت كل الهند والباكستان حاليًا حمتها تضاريس جغرافية في أقصى جنوب الهند، ما تسبب في استمرار شريان العصور القديمة في الجنوب بالتأثير في الشمال طيلة هذه المدة وخلق الحضارة الهندوسية الحالية المختلطة.

نفس الحال ينطبق على الثقافة الطاوية–الكونفوشية في الصين، استمرار اللغة لأكثر من ثلاثة آلاف سنة دون تغييرات جوهرية جعل الحضارة الصينية حاملة للبصمة الطبقية العبودية التي ولدت في ظلها قبل الميلاد بألف سنة تقريبًا، والحال نفسه ينطبق على الحضارة العربية وبسبب استمرارية اللغة كجينات ذرية للثقافة وبوجود الدين الإسلامي وتعاليمه الصارمة، لا تزال الثقافة الإسلامية تحمل البصمة العبودية–العسكرية التي تميز بها المجتمع البدوي، والتي انعكست في اقتتال وصراع مذهبي داخلي بعد أن توقفت فتوحاتها وانتشارها للخارج بعد التأخر الحضاري والتقاني الذي عاناه العرب والمسلمون منذ مطلع القرن الماضي.

إن الحقبة الزمنية التي تولد فيها اللغة بين تجمعات واسعة متنوعة من البشر في جغرافية معينة وأزمنة محددة هي لحظة ولادة "الثقافة" وبداية شروع لإنشاء الحضارة. ومن الصعب جدًا الفصل بين لحظة ولادة لغة وثقافة تلك اللغة، الفصل بينهما يفقد المعنى والقيمة العملية لكليهما.

نظرية التحكم الثقافي

الحضارة حينما تنشأ تصبح بمثابة لقطة تصوير للحقبة Era Pictorial snapshot، تجمع كل ملامح العصر ومستوى التطور الاقتصادي الذي بدأته، وإن أفلحت بالاستمرار، تبقى حاملة لموروث الأزمنة الغابرة.

ومن خلال هذه "الفرضية" أو النظرية يمكن اعتبار طابع "العبودية" المتجلي في الثقافة الإسلامية في رسم العلاقة بين الله الرب والإنسان هو لقطة Snapshot للمرحلة الاقتصادية الإنتاجية التي ولدت فيها اللغة العربية والثقافة العربية، وهي مرحلة عبودية واسترقاق أسرى وسبايا الحروب والغزوات التي ميزت المجتمعات البدوية التي كانت في احتكاك دائم مع المجتمعات الأكثر تحضرًا في وادي الرافدين والنيل وبلاد الشام. ورغم نجاح "العرب" في إقامة مجتمعات متحضرة لابدوية في شمال الجزيرة أو شبه بدوية، لكن بوجود المنظومة الرمزية اللغوية الثقافية التي حافظ عليها العرب باستماتة، تسللت العبودية كرموز وطابع على كل مظاهر الحياة الإسلامية العربية حتى يومنا هذا مع أن طبيعة البدوي التكوينية البنيوية الأصيلة تأبى الخضوع، وهي عملية مسخ تاريخية للقيم الأولى بعد تطور البيئة.

أما الكونفوشية، فهي تبدو بتراتبيتها أن لحظة ولادة الثقافة واللغة الصينية حملت بصمة غريبة جدًا، وهي بصمة "الدولة الامبراطورية" ذات النظم والقوانين العسكرية والمدنية المختلطة، وهي كادت أن تكون كالعبودية العربية الإسلامية لولا وجودها الجغرافي المنعزل وتميزها بظهور "حرف" وصناعات بدائية انعكست على الثقافة الصينية المنتجة، ولو تمتعت بابل وسومر بنفس الجغرافيا، كنا وجدنا في تاريخنا المعاصر حضارة بابلية تشبه إلى حد بعيد الحضارة الصينية، لكن السهل الرسوبي المنبسط أتاح للغزاة من كل مكان تدمير ومسخ الثقافة واللغة للسكان الأصليين في وادي الرافدين، خصوصًا الغزو (أو الفتح) الإسلامي الذي تميز بالتعصب إلى لسانه العربي المبين المقدس ما أدى إلى "قتل" الحضارة الرافدينية التي راكمتها حضارات قبل الإسلام لأكثر من خمسة آلاف عام.

فاللغة هي مفتاح التغيير التاريخي في أية بيئة جغرافية، وإذا كان غاليلو اعتمد الكتلة والزخم لأي جسم للتنبؤ بموقعه في أي لحظة في خريطة الكون، ففي هذه الدراسة نقول: (يمكن التحكم في ثقافة أي شعب على المدى البعيد بمجرد الهيمنة والسيطرة على لغته).

تأريخ التحول الثقافي:

ولكي تكون هذه النظرية محكمة، لابد من اسقاطها على واقع تطور الثقافات والحضارات عبر التاريخ، ويمكن أن نقول بأن الحضارة الهندية تحمل بصمة الحقبة المشاعية، لذا تكون مع الابورجينز في استراليا هي أكبر الحضارات الحية عمرًا، تليها الحضارة الصينية التي تحمل طابع الإنتاج العبودية–الاقطاعية المختلطة بالرق والأقنان ضمن هيكل وجسم "الدولة"، تترادف معها بالعمر الحضارة العربية التي تتميز بطابع العبودية المطلقة، تليها الحضارة اليونانية التي تتميز بولادتها في حقبة "الإقطاع" ثم الحضارة الغربية التي ولدت في الغرب الأوروبي في الحقبة الرأسمالية.

فبعد أن لاحظنا "عبودية" المسلم للخالق، نلحظ "سيادة" السيد على الرعية في العالم المسيحي اليوناني الروماني، فالمسيح الرب أرضي ذو صفات بشرية، وليس مطلقًا ذا صفات كونية كما هو الإله العربي والعبري، هو السيد المسيح Lord وهي كلمة لاتينية متوسطية بامتياز، ولقب اللورد يحمل رمزية الأسياد الإقطاعيين الذين انتشروا منذ الحقبة اليونانية والرومانية وصولاً إلى العصور الوسطى وما بعدها، فإذا كانت الثقافة الإسلامية تحمل لقطة الحقبة العبودية، فالثقافة المسيحية كانت تحمل لقطة الحقبة الإقطاعية.

وبعد النهضة في أوروبا وظهور الثروة في الغرب الأوروبي وأميركا، وبولادة النظام الرأسمالي أصبح من البديهي تغير الثقافة الإقطاعية في المتوسط إلى ثقافة رأسمالية في الغرب، فكانت الثقافة الجديدة هي "الحرية" Freedom بدلاً من الولاء والطاعة الصينية والعبودية الإسلامية والسيادة الربوبية المسيحية.

يمكننا أن نلاحظ أيضًا أن ثقافة الولاء والطاعة الصينية ولدت في وادي الرافدين، تدل عليها أساطير الإينوما إيليش وجلجامش، لكنها شبت وترعرعت في الصين، وحدث العكس في العصر الإسلامي حين نشأت العبودية في الحجاز ونجد لتشب وتترعرع على أنقاض الحضارة البابلية والمصرية البائدة في العراق والشام ومصر ولتصبح هذه المناطق منطلق إشعاع هذه الثقافة.

وفيما ثقافة "الأسياد" ولدت في اليونان لكنها انتشرت من روما وقلب أوروبا، فإن الحضارة الغربية وثقافة الحرية التي نشأت في غرب أوروبا، هي اليوم شبت وترعرعت في الولايات المتحدة الأميركية.

إلا أن الأهم هو مفاجأة هذه النظرية التجريدية عن الحضارة التالية والثقافة الجديدة ما بعد الحرية الغربية–الأميركية!

ولادة نمط الإنتاج الجديد ما بعد الرأسمالي، وبخلاف ما توقعته الماركسية بأنه النظام الاشتراكي، هو في الحقيقة يولد الآن في رحم الأقاصي من آسيا، اليابان وكوريا واندونيسيا وماليزيا والجنوب الشرقي الساحلي الصيني.

فالثقافات التي حملت بصمات التطور من الهند واستراليا مرورًا ببابل ومصر واليونان وانجلترا وأخيرًا أميركا، يبدو أنها تكمل لفتها الكاملة حول الكرة الأرضية وتعاود البزوغ في أقصى آسيا عائدة قافلة إلى الصين والهند واستراليا.

النظام الاقتصادي الذي سبق وكتبت عنه في دراسة مراجعة لإشكالات في النظرية الماركسية هو "التكنوقراط" كنظام اقتصادي ما بعد النظام المالي–الرأسمالي الحالي الأمريكي، والثقافة التي تنعكس عنه ستكون ثقافة ما بعد الحرية ويصعب تحديد ملامحها حاليًا سوى أن نقول بأنها ثقافة تتأثر كثيرًا بالنانوتكنولوجي، سيكون رحم تربيتها الحاضن عموم الأقصى من آسيا والصين والهند، لكن ترعرعها وبزوغها الأكبر سيكون في أرض فارغة خصبة كما كانت أميركا بالنسبة للغرب، ستكون هذه الأرض على الأرجح هي القارة الاسترالية.

الحضارة الاسترالية ستنشر ثقافة ما بعد الحرية، وباعتقادي، ستكون آخر ثقافة وحضارة في التاريخ البشري الحضاراتي، وما بعدها ستذوب كل الثقافات منصهرة في ثقافة كلية شاملة مبنية على قناعة راسخة علمية معرفية بوحدة النوع الإنساني ووحدة ثقافته وهويته مهما كانت الألوان والأعراق البشرية التي لن تبقى لها بعد ذلك أية قيمة تذكر.

الأمة الإسلامية وتعثر النهوض الحضاري

من أسرار نهوض الصين وروسيا وفق هذه النظرية، هو تبني ثقافة إنسانية أممية شاملة وإن تعثرت في روسيا وبان تراجعها الواضح في الصين، لكنها، أي الشيوعية، شكلت لمحة من الصورة المستقبلية للثقافة الكلية الشاملة ولا أقول إن الثقافة الإنسانية الكبرى ستكون شيوعية، لكنها قد تشابهها في كثير من الجوانب خصوصًا من جانب تذويب الثقافات في ثقافة إنسانية مشتركة.

ومن أسرار الإخفاق الإسلامي هو العودة لذهنية القرن السابع بسبب زراعة الغرب لكيان مستوحى ثقافيًا من الألف الأول قبل الميلاد.

تراجع التاريخ ممثلاً بولاية الفقيه في إيران ودولة طالبان ومملكة نجد والحجاز إنما كان مسحوبًا ومكرسًا بولادة دويلة يهودية قومية ينتمي سكانها حسب ادعائهم إلى أسرة وقبيلة واحدة هي أولاد يعقوب – اسرائيل.

وكما يقول هيجل، لا توجد عدة عوامل تحرك التاريخ، وافتراض تظافر العوامل هي محاولة يائسة للهروب من البحث عن العامل الحقيقي المسبب لظاهرة ما.

والعامل الحقيقي المتسام للصحوة الإسلامية هو ولادة دولة ماضوية وإن تلبست لبوس العصرنة وهي اسرائيل. تلاشي اسرائيل التوراتية وبقاء اسرائيل حديثة مدنية متصالحة مع جيرانها ذات حدود معترف فيها بمجلس الأمن قد يؤدي تلقائيًا لزوال الصحوة الإسلامية وتحول العرب للحداثة التي كادوا أن يدخلوها في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي لولا نكبة 1948 وما تلاها من حوادث أدت الى وصولنا للقرن الحادي والعشرين على جمال القرن السابع.

ومثلما أسهمت الثقافة الاشتراكية والشيوعية في القفز بالمجتمعات الشرقية فوق تاريخها، الأمة الإسلامية بحاجة إلى ثقافة أممية إنسانية شاملة عابرة للقوميات والأديان كي تدخل القرن الحادي والعشرين كأمة ناهضة.

نحتاج إلى اعتبار اللغة الانجليزية لغة رسمية بعد العربية، فتصبح لغة العامة والشارع كما هي الحال في دولة الامارات العربية المتحدة، حيث بدأت اللغة الانجليزية تأخذ دورها توًا في تحديث المجتمع وإن كانت الحداثة لا تزال في بواكيرها، فهي إن لم تجلب المجتمع الصناعي والإنتاجي لن نقول بأنها وطئت الحداثة، مع هذا، الامارات العربية في الطريق إلى الحداثة.

وإذا أخذنا في الاعتبار تحرك التاريخ نحو الغرب والتفافه خلف الأرض للشرق الأقصى وعودته للهند واستراليا، يمكن للأمة وبما تمتلكه من ميراث أن تلعب دور المركز الإنساني الذي سيأتي بعد قرنين أو ثلاث حيث لن تبقى ثقافة وهوية سوى الهوية الإنسانية الجامعة الكبرى.

وباعتقادي، فرصة اللغة الانجليزية وما أنجزته من رصيد هي الأكبر لتكون اللغة الكونية الإنسانية الشاملة، إلا إذا بادر العرب لنهوض سابق للتاريخ وعابر فوق حتمياته كما فعلت الصين الحديثة (انظر للكاتب في الهامش: سقوط الحتمية)، حينها قد تتحول العربية إلى لغة إنسانية كونية وسطى بين الغرب والشرق والشمال والجنوب، وهو احتمال ضعيف.

*** *** ***

مراجع

-       كارل بوبر، أسطورة الإطار، ترجمة يمنى طريف الخولي، عالم المعرفة، الكويت، 2003.

-       آدم كوبر، الثقافة: التفسير الانثروبولوجي، ترجمة تراجي فتحي، عالم المعرفة، الكويت، 2008.

-       جميل موسى النجار، فلسفة التاريخ: مباحث نظرية، المكتبة العصرية، بغداد، 2007.

-     Interpretation of culture , Clifford Geertz , basic book ,new york , 1973.

-       فردنان دي سوسير، علم اللغة العام، ترجمة يوئيل يوسف عزيز، آفاق عربية، بغداد، 1985.

-       وليد مهدي، مراجعة لإشكالات في النظرية الماركسية، http://www.doroob.com/?p=25734.

-       وليد مهدي، سقوط الحتمية، http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=386294.

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني