السلبية والعنف: هل هما الخياران الوحيدان؟
مايكل ناغلر
بين
ليبيا التي تلقت مدنها ما يزيد عن ألفي قذيفة من قذائف الناتو، وبين
سوريا التي سقط في شوارعها حتى يومنا هذا أكثر من ألفي قتيل بنيران
قواتها الحكومية، نجد أن ردي الفعل التقليديين الذين يتصوران حاجة ملحة
للتدخل من قبل المجتمع الدولي، نجدهما يتجهان باتجاه خاطئ. إنها صورة
قاتمة حقًا (بين ليبيا التي غزتها القوات الأجنبية، وسوريا التي تخلى
عنها العالم)، وهو مشهد حزين يعكس فيما يعكسه ضعف الخيال البشري، على
الأقل عندما يحشر هذا الخيال عنوةً في الزنقات والأزقة الضيقة للـ
"الواقعية".
لحسن الحظ، فإن خيار "هوبسون"
هذا، والخطاب الذي ينتج عنه حول حدود الإبداع التي تؤطر عقولنا، ليس هو
في الواقع أفضل ما يمكن للبشرية أن تقدمه.
في عام 1922، هددت التوترات بين الهندوس والمسلمين بتقويض كل ما كان
غاندي يحاول بناءه في الهند. في ذلك الوقت، اقترح غاندي أن يذهب
متطوعون إلى القرى التي تشهد توترات وأعمال عنف للعيش هناك كنوع من
إقامة الطرف الثالث لتقديم المساعدة عند الحاجة. يعمل هؤلاء المتطوعون
على درء الشائعات (والتي لطالما كانت مصدر تصعيد النزاعات في هذا
المكان كما في كل مكان آخر في العالم)، وفي الحالات القصوى يلجؤون إلى
التوسط جسديًا بين الأطراف المتنازعة عندما يتأجج الصراع بينها. في هذا
السياق، دعا غاندي إلى عقد اجتماع هام لتأسيس هذه المؤسسة التي أطلق
عليها اسم "شانتي سينا" (جيش السلام)، وكان من المزمع إطلاقها في
فبراير 1948، إلا أن الأقدار شاءت أن يتم اغتيال غاندي، كما نعلم، قبل
أيام من تحقيق ذلك.
مع ذلك وجد جيش السلام طريقه في النهاية إلى حيز الوجود، وعلى الرغم من
المشاكل الكثيرة التي واجهته، كان له دور هام في عدد من المناطق
والنزاعات سيما حوادث التوغل على الحدود الصينية في عام 1962. لقد
انتشرت هذه الفكرة من هنا إلى جميع أنحاء العالم فتبنتها منظمات عديدة
وذات توجهات متباينة مثل "لواء السلام العالمي"، "كتائب السلام
الدولية"، منظمة "سواراج بيث" الهندية، بالإضافة إلى منظمة "عائلة قوس
قزح للنور الحي"، ومنظمة "الملائكة الحراس" المعروفة بنشاطها في مترو
الأنفاق في نيويورك لمنع الجريمة. لقد ترسخت هذه الحركة وتحولت إلى قوة
تملك فعليًا القدرة على اختراق الحدود: ليس فقط حدود المجتمعات
المحلية، وإنما حدود الدول في مختلف أنحاء العالم.
إن النمو غير المعلن الذي شهدته هذه الفكرة، والمؤسسات التي أخذت بها
على أرض الواقع، ربما يعد دليلاً على الطريقة التي يجب أن تنمو من
خلالها الأفكار الصحيحة في عالمنا الحديث: من القاعدة إلى القمة. فعلى
سبيل المثال، أسلوب "المرافقة للحماية"، والذي بات محط أنظار عدد من
المنظمات المعروفة مثل منظمة "الشاهد من أجل السلام"، ومنظمة كتائب
السلام الدولية (مع التنبيه إلى أن المنظمة الأولى هي منظمة ذات طالع
ديني صريح، والثانية غير دينية بالمرة)، هذا الأسلوب تبناه عدد قليل
جدًا من الأفراد، ولم يحصل على تمويل يذكر، وكانت التغطية الصحفية
إزاءه ضعيفة جدًا، ومع ذلك نجح في حفظ أرواح الناس من فرق الموت في
أميركا الوسطى، وكان له دور في نجاة البعض من إرهاب مشابه في سريلانكا
وأماكن أخرى من العالم. حتى أنه نجح في غواتيمالا في فرض الظروف
الملائمة لإطلاق عملية سلام حقيقية، بعد أن أنقذ الناشطون أعضاءَ من
أهم جماعات حقوق الانسان العاملة في البلد من عملية الاغتيال الممنهجة
التي كانت ستطالهم لولا وقوفهم معهم ليلاً نهارًا، وهنا سيتوجب على أي
شخص ينوي أذية هؤلاء القيام بذلك على مرأى ومسمع من العالم بأسره.
إن بصيص الأمل الضعيف الذي يوفره أسلوب "المرافقة للحماية" والأساليب
الأخرى المتبعة لحفظ السلام دون سلاح، نجح في النهاية في التحرك صعودًا
وجذب اهتمام بعض المؤسسات الرسمية: منها ما تمثل في العرف الدولي (الذي
لم يتحول بعد إلى قانون) المسمى بـ "مسؤولية الحماية"، والذي دخل حيز
التطبيق بعد العار الذي شعر به العالم من سلبيته في التعامل مع أزمة
رواندا. هذا العرف ينص اليوم على ما يلي:
عندما تعجز دولة ما عن حماية مواطنيها من الفظائع الجماعية، وبعد فشل
كافة الإجراءات والوسائل السلمية المتاحة لحمايتهم، عندها يتوجب على
المجتمع الدولي التدخل بثقله الدبلوماسي في البداية، ثم اتباع أساليب
أكثر حدةً، وكملاذ أخير، التدخل عسكريًا.
ومع أن هذا الخيار ليس لاعنفيًا، إلا أنه يفتح الباب أمام مزيد من
أنشطة التدخل السلمية دون سلاح وذلك من خلال اختراقه لعقبة "سيادة
الدولة" المطلقة التي تتذرع بها الحكومات. من جانب آخر، منحت منظمة
اليونيسيف مليون دولار أمريكي لمنظمة "قوة السلام اللاعنفية" وهي إحدى
أهم منظمات التدخل اللاعنفي، وذلك للمساعدة في تقديم ورشات تدريبية
لحماية الأطفال في جنوب السودان والفلبين.
يرى غاندي أن السلبية والعنف هما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة. فعلى
المستوى الروحي ينبع الخيار الأول من الخوف، والثاني من الغضب، وكلاهما
حافزه الذات الخاصة والمنعزلة. أما الوجه المختلف الآخر فهو اللاعنف،
أو المحبة المنظمة والغيرية (استلهامًا من عبارة مارتن لوثر كينغ).
إذًا فالخيار الوحيد الذي نملكه وله معنى حقيقي فعلاً هو ليس بين
التدخل (بقوة عمياء) أو عدم التدخل على الإطلاق، وإنما بين العنف
واللاعنف كمبدأ إرشادي.
أثناء كتابتي لهذه السطور، يتعرض الأفارقة السود للاضطهاد بقسوة في
ليبيا "الحرة" وغالبًا ما يحدث ذلك دون أدنى مبرر. لكن لا ينبغي أن
يدهشنا ذلك فهذا هو ديدن العنف: لا يسعه إلا أن يسير كالأعمى خلف أجساد
الضحايا. ولطالما حدثنا التاريخ عن ذلك. إن هذا يظهر لنا أيضًا، إذا
عرفنا أين ننظر ونبحث، أن اللاعنف يفعل عكس ذلك تمامًا: فهو يبذر خلفه
بذور الأمل والتسامح، ويوقف اضطهاد الأعداء إن لم يحولهم فعلاً إلى
أصدقاء. واليوم، وفيما تتلمس المؤسسات التي قامت على هذا المبدأ طريقها
ببطء، وتنجح في اختراق الحدود إلى عوالم كان يتعذر الوصول إليها سابقًا
إلا بوسائل القوة - أو الإهمال- أصبح بمقدورنا فعلاً أن نختار.
*
-
لواء السلام العالمي
World
Peace Brigade
-
كتائب السلام الدولية
Peace
Brigades International
-
سواراج بيث
Swaraj Peeth
-
عائلة قوس قزح للنور الحي
Rainbow
Family of Living Light
-
الملائكة الحراس
Guardian Angels
-
المرافقة للحماية
protective accompaniment
-
الشاهد من أجل السلام
Witness
for Peace
-
مسؤولية الحماية
Responsibility to Protect R2P
-
قوة السلام اللاعنفية
Nonviolent Peaceforce
6 أيلول/سبتمبر 2011
ترجمة: نورس مجيد
*** *** ***
*
مايكل ناغلر: أستاذ فخري بجامعة كاليفورنيا ببيركلي، ومؤسس
مركز ميتا للاعنف، ومؤلف الكتاب الحائز على جوائز وعنوانه
البحث عن مستقبل لاعنفي [الكتاب صدر عن دار معابر للنشر،
ترجمة غياث جازي، 2009].
[1]
خيار هوبسون: هو اختيار حر لكنه يقدم خيارًا واحدًا فقط. قد
يرفض الشخص القبول بهذا الخيار فيصير الاحتمال فقط القبول أو
الرفض. [المترجم]