مجموعة قصائد: تموزيات
نمر سعدي
ذابَ معناكِ فيَّ
غصبَ عني حببتُكَ يا أيها المتصعلكُ
تهمسُ لي في رسالةِ هذا المساءِ فأهجسُ
بل رغمَ قلبكِ... أو رغمَ أنفكِ هذا الجميلْ
غصبَ عني حببتُكِ والآخرونَ
على بابِ أحلى القصائدِ
حُجَّابُ هاويتي الميِّتونْ
غصبَ عن زهرةِ اللوزِ
تلكَ التي احترَقَتْ في العيونْ
غصبَ عن لغةِ الطيرِ والنهرِ والمستحيلْ
نجمتي اندثَرَتْ في الثرى
ذابَ معناكِ فيَّ
انتهى قمري في السرابِ
فماذا تريدينَ من صخرةٍ في فمي أن تقول؟
*
صورةٌ بمجلَّدات من الشِعر
لي أكثرُ من ألفِ بوست
ولكنها للأسف لم تحصد (مجتمعةً) من اللايكات
قدر ما حصدت صورة واحدة لكِ
وللعلمِ أنها ليست أجملَ صوركِ ولا أشهاها إلى ذئابِ الشعرِ
ولا أنقاها غيمًا يحفُّ بياضكِ النافرَ من نيلوفرِ الماءِ...
فتبًّا لكل بوستاتي مجتمعةً ويا للعبث إذن...
تُرى هل كانَ هوميروس يكتبُ الياذتهُ أو أوديسته
لو شعَّ وجهك الممطرُ في برِّيَّةِ عينيهِ المظلمة أو في يقظةِ
حلمهِ...؟
هل كانَ شكسبير يكتبُ مسرحياتهِ الانسانية لو عاصرَكِ؟
أفكِّرُ أنَّهُ كانَ سيكتبُ كلَّ شعرهِ على طرازِ سونيتات الحبِّ.
*
هيلين
تنشقُّ طرواديَّتانِ من النساءِ وراءَ خطوَكِ
من عُواءِ البحرِ... من زبَدِ التردُّدِ
تقتفي الريحُ الحرونُ أصابعَ الرملِ الرقيقةَ
إذ تمدُّ إليكِ أشباحُ الخرافةِ يا هيلينُ
يدَيْ باريسَ من الظلامِ أو السنينِ
لتستريحا من هواياتِ الفظاظةِ والتجمُّلِ
أو هشاشةِ عاشقٍ نسيَ الطريقَ إلى أولمبَ
ولم يجدْ شفَتيهِ حينَ تمرَّدَ الرُمَّانُ...
لا تقفي بنصفِ الحبِّ يا هيلينُ
بل شُقِّي ملاءاتِ البحيرةِ كلَّها
وتدَّفقي كحديقةٍ قمريَّةٍ عندَ المصبِّ
ولا تُراعي حُرمةَ الرغوِ الوحيدةَ يا هيلينُ...
فكلُهنَّ يكِدْنَ من فرطِ الأنوثةِ والجنونِ
لما حملتِ من الينابيعِ الصغيرةِ في ثيابكِ
أو حفيفِ خريفكِ السحريِّ في قلبي
وقمصانِ احتراقِ الياسمينْ.
*
يا برَدى امتحِنْها
لا تنقري قلبي كعصفورٍ عنيفِ الحُبِّ
واتحدِّي بأعضائي
فإنَّ مزاجَكِ العصبيَّ لا يُجدي ولو خمشَتْ خطاكِ دمي
اذهبي في الماءِ
لا تتردَّدي كالنهرِ في الصحراءِ
حينَ يمرُّ في خرَزِ انكساركِ أو رمالِ الظَهرِ...
أبكي ياسمينَ دمشقَ
فلَّ الزرقةِ الأبديَّ في شريانكِ الكحليِّ
أهذي آه...
يا نارَ الجحيمِ تدفَّقي برْدًا على آلاءِ فتنتها
ويا برَدى امتحِنها وامتحِنْ ندَمي على الجنَّاتِ...
حقدُ الطائراتِ أحالَ عاليها أسافلَها
أنا بالروحِ لا بالجسمِ ثمَّ أُقاتلُ الطاغوتَ دونَكِ
فاحملي روحي على كفَّيكِ حينَ تموتُ
أو تخضَّرُ في الملكوت.
*
نكاية
نكايةً بكِ أو بقلبي الآنَ
سوفَ أشيرُ بالإعجابِ في كُتبِ الوجوهِ
لكلِّ من حقَدت عليكِ
أو اشمئزَتْ منكِ
أو حسدَت جمالَكِ
أو بلا سببٍ لغَتْ أطيارَ لثغتكِ الفريدةِ
من خيالِ النايِ والأشجارِ
أو كادَتْ لوردتكِ الصغيرةِ
أو لمزمورِ النصاعةِ في اجتراحِ الغيمِ
والعدَمِ المطوَّقِ بالذئابِ...
أقولُ تلكَ نكايةٌ لا غيرَ...
رومانسيةٌ... شفَّافةٌ... بيضاءُ... ناعمةٌ... وكاذبةٌ
فلا تتأسَّفي لي مرَّةً بأنوثةٍ عطشى وأسطوريةٍ
لا تحملي قمرًا بلا ماءِ المجازِ
ولا تحيدي عن خصالِكِ
كُلهنَّ يغَرنَ من صخَبِ الهدوءِ لديكِ
حينَ تمسِّدينَ يديكِ بالصفصافِ
ليسَ لهنَّ طاقةُ زهرتينِ على احتمالكْ.
*
يا ميراثَ أنكيدو من الخسران
إذهبْ وطرْ عني انسحبْ من قطرةِ الماءِ الأخيرةِ...
كن سرابَ الظلِّ... طلِّقني... اغتربْ عني...
اسكنْ المريِّخَ أو زحلَ
احترِقْ عني بعيدًا في مجرَّاتِ الحليبِ أو الترابِ
أرِحْ من الوخزِ الرهيبِ دمي المضرَّجَ بالضبابِ
مصارعَ الثيرانِ كُنْ في أرضِ إسبانيا
وقاطفَ نبتةِ الشايِ الشفيفةِ في سهوبِ الصينِ
سرًّا لاخضرارِ النارِ في الأنديزِ
موَّالَ الأرُّزِ وطينَهُ في الهندِ
حزنَ النايِ في الأوراسِ
زمَّارَ الرصيفِ بأورشليمَ وكوبنهاجنَ
راعيًا في الهملايا
سائحًا في كاليفورنيا
أيها المجنونُ حِلْ عني
فقد أدميتَني حبًّا وشعرًا عاريًا في الريحِ
يمشي فوقَ جمرِ الشوكِ
يا شفقَ انخطافِ رؤايَ... يا شَغفيِ الذي أطَّرتهُ بيديَّ
يا قلَقَ القصيدةِ في النهاياتِ الوحيدةِ
يا مرايا المبتلى بجمالهِ نرسيسَ
يا شبقَ المحارةِ في المغارةِ
قُدتَني بغنائكَ الجنيِّ من قلبي
إلى أقصى تلابيبِ الأنوثةِ...
من دمي حتى استداراتِ السفرجَلِ في الصدورِ
ومن فمي حتى غواياتِ القرنفلِ
أو وصايا الماءِ والشهدِ الصغيرةِ
قُدتَني بغبائكَ السحريِّ مثلَ فراشةٍ صفراءَ في تشيلي
تشاغبُ نجمةً مائيَّةً في الطينِ
قدتَ خطايَ نحوَ اللامكان...
رجوتُ روحكَ... بُستُ أخمصَ قلبكَ المشبوبِ بالعذريَّةِ السوداءِ
دعني... لا تذُبْ فيَّ... انسحبْ...
لا تقترِبْ مني
أريدُ الآنَ أن أحيا حياتي كلَّها
وعلى هوايَ وكيفَ شئتُ
فلا تقيِّدني بصلصالِ النساءِ الناظراتِ إلى سدومَ
ولا تعذِّبني بما يرثُ السرابُ من الرتابةِ
والإشاراتِ الخفيفةِ في الكتابةِ والبنفسجِ
يا أنايَ المدلهمِّةُ... يا دمي... يا ما اشتهى نرسيسُ منهُ...
وما انتهى في الفضَّةِ الحمراءِ... يا ضلِّيلُ...
يا ميراثَ أنكيدو من الخسرانِ
يا أيقونةَ القدِّيسِ أو أيقونةَ الزنديقِ
يا ليمونةً في القلبِ
يا عصَبَ الندى
يا شاعري
يا آخري...
يا......
*
تانغو
التانغو الذي كانَ مخبوءًا في مشيتكِ...
التانغو العفويُّ المجرَّدُ الفسيح الواضح كعينِ الأفعى...
الأزرقُ كبكاءِ دمِ البحر...
الفقيرُ كغناءِ السمكِ الهائجِ...
التانغو الذي كانَ يختصرُ كلَّ أمجاد كرة القدم البرازيلية
كانَ لحظةً بيضاءَ بأعمارٍ شتَّى من الشعرِ
حينها نسيتُ أن أسألكِ
هل تسيرينَ في السنينَ إلى الوراء
أم إلى الأمامْ؟
*
وشمُ طائرِ النورس
أيتها الأنثى العنقاء... كيفَ خرجتِ من الرماد أيتها الجميلة...؟
كيفَ لملمتِ شباكَكِ البنفسجيَّةَ وحبالَ الشمسِ من جسمي... كيف؟
كيفَ هصرتِ ذرَّاتكِ الذهبيَّة على جبيني؟
كيفَ تمسَّحتِ بالغاباتِ الذهبيَّةِ السكريَّةِ الماطرةِ؟
وتركتِ أجنحتكِ في أشجار الصوَّانِ والزنزلختِ الشاهقةِ
كعصفورٍ مائيٍّ صغير؟
كيفَ قطَّرتِ روحَ شاعرٍ في هواءٍ آخرَ
كما يُقطَّرُ الوردُ ليُستخرجُ منهُ العطرُ النفَّاذ
ثمَّ حوَّلتها بلا مبالاةٍ إلى نجمةٍ يتيمةٍ... كيف؟
أقودُ أسرابَ النحلِ وعصافيرَ الدوريِّ في قلبي بألف لغة
لأقاسمَكِ شهد الطيور والشِعر
وأوزِّعَ فقاعاتِ القصائدِ الملغيَّة على مدِّ الفضاءِ
بينَ كرملِ حيفا ومدينة ريوديجانيرو
وأنتِ تتظاهرينَ بالعبثِ وتردِّينَ بعبارتٍ سريعةٍ ومقتضبة
كأن ليس لديكِ وقتٌ لشبكِ شعركِ بغيمةٍ حجريَّةٍ
أو بدبُّوسٍ صغيرٍ على هيئةِ أفعى
أو ربمَّا لتحسُّسِ وشم طائرِ النورس على ظاهرِ عنقكِ
ليسَ لديكِ وقتٌ لنطقِ عمتَ مساءً أو شقاءً.
*
طريقُ إرَمْ
كيفَ يحنو عليها... يُدلِّلها...
يحتفي بأظافرها حينَ تخمشُ عينيهِ بالنزَقِ الأنثويِّ
وحينَ تقُدُّ لهُ قلبَهُ؟
كيفَ يغمرُ كشرتها بمياهِ أغاني الرعاةِ
وبالزعفرانِ المجفَّفِ؟
أو كيفَ يحملُ ما خفَّ من سكَراتِ الندَى
عن تلابيبِ أنفاسها
وهيَ توسعهُ بالشتائمِ
تمطرهُ برخيصِ السِبابِ...
تصُبُّ عليهِ سياطَ العذابِ؟
يُكلِّمها بالزهورِ... يقولُ لها قطَّتي
هل شراسةُ عصفورةٍ فيكِ أم أنني لا أرى؟
وهيَ ترشقُهُ بالشقيِّ الغبيِّ وأجهلِ كلِّ الورى
العربيِّ الذي ليسَ ينقصُ حزني...
وينسى شتائمها كلَّها
هل تدينُ بدينِ الهوى بعدُ
يا أيُّها الوغدُ؟
يا ليتهم قد أبادوا سماءَكَ
حِلْ عن سمائي...
يقولُ لها إنَّ شمسَكِ مرميَّةٌ في دمائي
وفي عصبي
والطريقُ إلى إرَمٍ قد تطولُ
الطريقُ إلى إرَمٍ قد تطولُ
بعينينِ ذابلتينِ يُقبِّلها
ثمَّ يسندها بيديهِ على حائطٍ مائلٍ
في مدائنَ منسيَّةٍ في أعالي البحارِ
يقولُ لها تشبهينَ فتاةً خلاسيَّةً كنتُ أحببتها
قبلَ عامٍ وخمسينَ صخرة حبٍّ على أضلعي
تشبهينَ فتاةً يهوديةً من أقاصي الشمالِ
فتاةً تزيِّنُ صرختها بالنبيذِ الفرنسيِّ أو خصرها بالهلالِ
تقولُ إذن أنتما تشبهانِ حذائي العتيقَ
ولا تتوَّرعُ في الشتمِ
يا جاهليُّ ابتعدْ عن خطايَ
ويا عربيُّ الذي ليسَ ينقصني
أكملْ النومَ تحتَ جبالِ الرمالِ
التي دفنتْ قومَكَ العربَ البائدةْ
أريدُ اللجوءَ إلى غيمةِ النومِ لكنَّ حزنكِ يمنعني
والقصيدةُ هذي سأكملها بعدَ دهرٍ طويلٍ يقولُ لها
فتقولُ لهُ أيهذا اليهوديُّ حِلْ عن دمائي
أريدُ المنامْ
فمثلكَ لا يستحقُ الكلامَ
ولا يستحقُ الغرامْ
على عتباتِ سدومَ خذي جسدي مائدةْ
لتشتعلَ الوردةُ الحجريَّةُ في الشاهدةْ.
*** *** ***