قصتان
نور دكرلي
-1-
في عام 1923 قامت انتفاضة شعبية في حيِّنا، على "ذِمَّة" جدتي التي
كانت تروي لي حكاية تلك الانتفاضة قبل النوم.
بدأت الحادثة عند صلاة الجمعة حين خرج "أبو الطش" من المسجد ولم يجد
حذاءه الذي كان قد تركه أمام باب المسجد.
أبو الطش كان رجلاً عجوزًا، وكان معروفًا عنه في الحي بأنه من أصحاب
الكرامات أو "مبروكًا"، يعيش متشردا ويقضي يومه يمشي في الشوارع وفي
الليل كان ينام في المسجد، كان يقطع مسافات طويلة مشيًا بلا وجهة معينة
أو هدف ودون أن يشعر بالتعب.
أحدهم قال مرة بأنه قد صادف أبو الطش يمشي في دمشق، وآخر أقسم بعد
عودته من الحج بأن أبو الطش كان يطوف حول الكعبة. والكثير من القصص
المماثلة حيكت حول رحلات أبو الطش سيرًا على الأقدام، ربما لهذا السبب
كان لحذاء أبو الطش تلك الأهمية.
المهم، خرج أبو الطش من المسجد قبل انتهاء خطبة الجمعة بعد أن أنهكه
الجلوس الطويل، فلم يجد حذاءه أمام باب المسجد، فأسرع إلى داخل المسجد
ووقف في منتصفه وفتح عينيه وفمه وكأنه يريد ابتلاع الجموع، وبقي لمدة
دقيقة على هذا الحال وكأنه نسي ما يريد قوله، ثم صرخ بكلمة واحدة:
-
حذااااااااائي....
صرخة كانت كفيلة بتحويل المسجد إلى خلية نحل، حتى خطيب المسجد قطع
خطبته مسرعًا بقوله: "تؤجل الخطبة إلى الجمعة القادمة". ونزل مسرعًا من
على المنبر.
ثم بدأ البعض بتهدئة روع أبو الطش، وآخرون تولوا مهمة البحث عن الحذاء،
وأحدهم جلس في زاوية المسجد وغطا وجهه بكفيه وبدأ يبكي: يا حرام أبو
الطش يا حرام...
أخبرتني جدتي بأن أهالي الحي لم يعرفوا النوم في ذلك اليوم، وانتشروا
في الحي علَّهم يصادفون حذاء أبو الطش، حتى جدة جدتي التي كان عمرها قد
قارب المائة عام، كانت تسرح في الشوارع وتبكي كأنها فقدت ولدها
متمتمةً:
-
ولاد الحرام، صرماية أبو الطش!؟ لك ليش... الله ع الظالم.
وفي اليوم التالي، عمَّ الحزن والحداد كل بيوت الحي وأغلقت الدكاكين،
حتى أبو رمزي صاحب ملحمة الحي أغلق دكانه وعلق لافتة على بابها، كتب
عليها: "أنأكل اللحوم وحذاء أبو الطش مفقود!؟".
صاحب محل بيع الأحذية قام بإحراق محله وما فيه من أحذية تضامنًا مع أبو
الطش.
أمَّا أبو الطش فقد تابع حياته ورحلاته المعتادة حافيًا هذه المرة،
وبعد شهر كانت قدميه قد امتلأت بالقروح، حتى أن أهالي الحي كانوا
يعرفون موعد عودته إلى الحي من الخط الأحمر الذي ترسمه جروح قدميه
خلفه.
لم يحتمل أهالي الحي هذا الأمر الذي أدمى قلوبهم، فقاموا بإنشاء مشفى
صغير مهمته الوحيدة الاهتمام بقدمي أبو الطش ومداواة تقرحاتها وجروحها.
لكن ذلك لم يجد نفعًا، ففي الشتاء التالي أصيب أبو الطش بالغرغرينة، ثم
مات بعد شهرين من ذلك.
حينها نفذ صبر أهالي الحي وقاموا بحمل أبو الطش على الأكتاف في جنازة
مهيبة، وتوجهوا إلى مبنى البلدية في المنطقة، وأعلنوا بأنهم لن يقوموا
بدفن أبو الطش قبل أن تتحمل الحكومة مسؤولياتها، معلنين غضبهم من
استهتار الحكومة... لكن لم يعرهم أحد أي اهتمام.
فقاموا بنصب الخيام، وقرروا بأنهم لن يغادروا إلا بعد حل مشكلتهم،
ورفعوا لافتات كتبوا عليها بعض الشعارات مثل:
"أبــــــو الـطش... في البال ولم تغبِ"
"حذاء أبو الطش تاج على رؤوسنا... لا يراه إلا الحفاة"
"أبو الطش... لم ولن ننساك يومًا"
وبعد ثلاثة أشهر من المفاوضات بين الحكومة وأهالي الحي تم التوصل إلى
حل بأن عرضت الحكومة إنشاء مصنع للأحذية تعود أرباحه إلى أهالي الحي،
وتخصيص زوج من الأحذية شهريًا لكل فرد من أهالي الحي، وبذلك انتهت
الانتفاضة وتم دفن أبو الطش.
كانت جدتي تختم حكايتها دائمًا بقولها:
-
للأمانة أهالي الحي لم يوافقوا على ذلك إلا بعد أن استجابت الحكومة
لشرطهم الوحيد... وهو أن تقوم بصنع حذاء من الذهب يوضع فوق قبر أبو
الطش تكريمًا له.
***
-2-
أتخيلها
أينما كنت، وأصدق ذلك، حبًا بها أو كرهًا بالوحدة. لا أعلم.
في الباص
مثلاً، أتخيلها جانبي، وأقوم بدفع أجرة راكبين، وأسخر من ابتسامة
السائق الساخرة مني، معتقدًا بأنها ابتسامة حسد لحبنا.
أرفض أن تجلس
امرأة عجوز بالقرب مني مدَّعيًا بأن المقعد لا يتسع لثلاثة.
يغضب السائق
والركاب والعجوز محاولين اقناعي بأن لا أحد بجانبي، أنظر إليك ونضحك من
ركاب باص المجانين هذا.
يقوم السائق
باجباري على النزول من الباص.
أخاف أن أفقدك فأركض خلفه متوسلاً إليه ليوقف الباص ويقوم بإنزالك.
أركض لساعات وأنت تحدقين بي من النافذة... خائفة وكأنك مختطفة.
أحاول أن أطمئنك بأني لن أتوقف عن الركض... ولكن لا أنت تسمعين من خلف
الزجاج ولا نفسي المتعب يساعدني على إكمال كلامي.
أتوقف أخيرًا وقد غاب الباص عن نظري، أجلس على مقعد الحديقة لكي ارتاح
قليلاً، أطلب من فتاة بجانبي أن أشرب من زجاجة المياه التي في يدها،
وما أن تمد يدها لتناولني الزجاجة حتى اكتشف بأنها أنت.
أمسك بيدك وبينما أقترب لأقبلها، توقظني صفعة منها. أهرب قبل أن تدب
النخوة في الشباب الذين تجمعوا حولنا، وأعود إلى المنزل لأفاجئ بك
تنتظرين عودتي.
وتبدأين الأسئلة: أين كنت؟ لم تأخرت؟ أنت لم تعد تحبني.
أقص لك ما حدث فلا تصدقين... وتنامين حزينة وأسهر متأملاً نومك.
أنام بجانبك مقنعًا نفسي بأن هذا السرير الصغير اتسع لنا نحن الاثنين
من شدة حبنا.
حتى في نومك تعرفين بما أفكر فتبتسمين ساخرة من رومانسيتي...
أستيقظ فلا أجدك بجانبي، يصرخ قلبي مذعورًا: "ابحث عنها... لا تفقدها".
أهدهده كطفل صغير، وأسمعه صوتك تدندنين
أغنية في المطبخ وأنت تعدين فطورنا.
أعود وأخرج بعدها بلا وجهة ما. أسير في
الشوارع، أركب الباص مرة أخرى. أدخل السينما، المحلات، المشافي. اتأمل
البحر، غروب الشمس...
في كل هذا تكونين برفقتي... أتخيلك وأصدق ذلك لدرجة أني أخاف أن
أفقدك... فأفقد نفسي.
*** *** ***