عقيدة الشجعان: عبد الغفار خان وجيش اللاعنف الأول
نورس مجيد
كان
عبد الغفار خان خارجًا لتوه من اجتماع مضطرب لحزب المؤتمر عام 1928
عندما شاهد المهاتما غاندي للمرة الأولى وهو يتبسم أمام غضب رجل انهال
عليه باللوم والتقريع، وهذه كانت تلك تحديدًا اللحظة التي أدرك فيها
خان طبيعة هذا الرجل وقدرته على تحويل الغضب إلى عمل موجه وبنَّاء، وهي
اللحظة ذاتها التي شهدت بداية تعاون لاعنفي مذهل بين مناضل هندوسي
استثنائي، وقائد بشتوني مسلم كرس حياته لخدمة التعليم والتنمية وقضايا
المرأة ونبذ العنف.
لم يعتبر عبد الغفار خان نفسه يومًا ثائرًا على عدو خارجي يحتل بلده،
بل مناضلاً ملتزمًا ضد ثقافة العنف والتخلف والتبعية. ولد في بيشاور
عام 1890، وارتبطت سيرته بنضال غاندي اللاعنفي للتخلص من الاستعمار
البريطاني، وعرف بين الأفغان بأسماء عديدة منها الملك خان، بادشاه خان،
مفخرة الأفغان، وغاندي الجبهة، وقد ظهر كمصلح اجتماعي في أوائل
العشرينيات من القرن الماضي واهتم بنشر التعليم والإصلاح بين أفراد
قبيلته: البشتون.
ربما كان فشل عبد الغفار الشاب في استكمال تعليمه وحرمانه من قبل أهله
من الالتحاق ببعثة دراسية مرموقة، أحد الأسباب التي جعلته يكرس جزءًا
كبيرًا من حياته وهو شاب في مساعدة أقرانه على إتمام تعليمهم، ففي
بداية القرن العشرين، كان البشتون يقبعون في ظلمات بعضها فوق بعض من
فقرٍ واستعمارٍ وجهلٍ ونزاعاتٍ دامية، وكانت فرص التعليم محدودة إن لم
تكن شبه معدومة، حيث دأب الملالي والزعماء الروحيون على محاربة التعليم
وحث الأهالي على الابتعاد عن المناهج المدرسية الحديثة وتكفير من
يحاولون الترويج لها. في تلك الفترة، برزت جهود هذا الناشط الشاب الذي
أسس الحركة الأفغانية للإصلاح بهدف القضاء على الأمية ووأد الصراعات
التي عانت منها قبائل البشتون أكثر من أي منطقة أخرى في شبه الجزيرة
الهندية.
لطالما عرفت قبائل البشتون التي ولد من صلبها خان، باعتزازها بالحرب
والثأر والقتال، ولكن هذه القبائل نفسها هي التي ستنجب في غضون سنوات،
وبجهود هذا الرجل، جيشًا قوامه مئة ألف جندي، ولكنه جيش من نوع مختلف،
جيش منزوع السلاح، عقيدته الصبر على الأذى ونبذ العنف، أذهل العالم
بالتزامه وقدرته على التنظيم والتفاني في خدمة قضيته. في هذه الأثناء،
كان العالم الإسلامي غارقًا في مشاكله، ممعنًا في صراعاته بعد الانفصال
العضوي عن الأتراك وبروز جغرافيا التقسيم المذلة على يد الفرنسيين
والبريطانيين والهزيمة الثقافية والعسكرية تلو الأخرى، فلم تصله أنباء
جيش (خوديه خدماتغار) أو (خدَّام الرب) كما كانوا يعرفون في الهند
آنذاك.
ففي أمسية من أمسيات تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1929، وتحديدًا عشية
اليوم الذي وقعت فيه مجزرة (بازار كيسا خاني)، بدأت الحركة الإصلاحية
التي أسسها خان تتحول إلى كتيبة نظامية لمقاومة البريطانيين، وتم تأسيس
جيش خدَّام الرب ليصبح أول جيش لاعنفي نظامي عرفه تاريخ الإنسانية. جمع
خان أنصاره من خريجي المدارس التي قام بتأسيسها، فطاف المتطوعون من
الطلاب على القرى والمدن بزيهم الأبيض الموحد يدعون الشباب للانضام إلى
الحركة الوليدة، وسرعان ما قرر الشباب صبغ لباسهم الأبيض (لسهولة
اتساخه) باللون الأحمر، والذي شكل أولى العلامات الفارقة للتنظيم والذي
جعل المجموعة الجديدة تعرف بين الناس بـ (القمصان الحمر).
لعب جيش خدَّام الرب دورًا محوريًا في النضال ضد الاستعمار البريطاني،
وكان البريطانيون يحاولون استغلال تسمية (القمصان الحمر) لتبرير
إفراطهم في القمع بذريعة الخوف من الشيوعية والصراع مع الروس. لقد كان
هذا الجيش جيشًا بكل معنى الكلمة من حيث التزام جنوده وانضباطهم
ولباسهم الموحد، لكن سلاحهم بدا غريبًا جدًا وخصوصًا للبريطانيين
أنفسهم، الذي اعتادوا سماع أبواق الحرب وهدير المدافع وأزيز الرصاص في
تخوم معاركهم، لكنهم لم يعتادوا على قتل رجال بصدور عارية يتدافعون ليس
هربًا من رصاص المحتل، وإنما على العكس لاحتلال مكان في الصفوف
الأمامية بين من سيصبحون شهداء المستقبل، هذا هو تحديدًا السلاح الذي
تحدث عنه بادشاه خان:
سأقدم لكم سلاحًا فريدًا لا تقدر الشرطة ولا الجيش علي الوقوف ضده. إنه
سلاح النبي، لكن لا علم لكم به. هذا السلاح هو الصبر والاستقامة. ولا
توجد قوة على وجه الأرض تستطيع الوقوف ضده.
وفيما اعتقد الكثيرون بأن اللاعنف أقرب صلةً إلى ثقافة الهندوس منه إلى
عقيدة المسلمين التي كانت تدعو إلى الجهاد، كان الواقع يشير إلى أن
البشتون المسلمين كانوا أكثر التزامًا على الأرض بهذا المنهج من
الهندوس رغم تعرضهم للنصيب الأكبر من القمع البريطاني. وتفسير ذلك جاء
على لسان غاندي نفسه الذي قال:
اللاعنف ليس للجبناء، إنه للشجعان الجسورين. والبشتون أكثر شجاعة من
الهندوس، وهذا هو سبب تمكنهم من اللالتزام بمنهج اللاعنف.
دفعت سياسة القمع المفرط جهود الرجل الإصلاحي إلى تبني سياسة المقاومة
اللاعنفية لإنقاذ قومه من مهانة متواصلة كانوا يخضعون لها. ويصف مايكل
ناغلر رد البريطانيين على رفض قبائل البشتون الإذعان لممارسات الحكومة
البريطانية:
لقد هُدِّمت البيوت، وأُتلفت المحاصيل الزراعية، وتعرَّض الناس للضرب،
وتمَّت تعريتهم من ملابسهم، وجرِّهم في مجاري الصرف الصحي، ولأول مرة
في تاريخ البشرية يُقصَف المدنيون بالقنابل من الجو.
وأمام هذا القمع المفرط الذي فاق في سطوته أي مكان آخر في الهند، أدرك
خان بأن كل محاولة للتصدي للترسانة البريطانية بالوسائل العنفية كانت
تبوء بالفشل، ولكنه لم يعتبر قط إيمانه باللاعنف دخيلاً على إرثه
الإسلامي، بل كان يؤمن بأن عقيدة السلم أصيلة في دينه بينما ثقافة
الجهاد طارئة فيه:
ليس هناك ما يدعو للدهشة في مشاركة مسلم، أو أحد البشتون مثلي، في
العمل على مبدأ اللاعنف. فهو ليس بالمبدأ الجديد. لقد اتبعه النبي قبل
أربعة عشر قرنًا طيلة مدة وجوده في مكة... لكننا بقينا إلى الآن ننسى
هذا إلى درجة أنه عندما وضعه غاندي أمامنا ظننا أنه يحتضن مبدأ جديدًا.
كان على المتطوعين في الجيش الجديد أن يرددوا القسم التالي:
أنا خادم الله، والله لا تعوزه خدمتي، أؤمن بأن خدمة عباد الله هي خدمة
له أيضًا؛
أتعهد بخدمة الإنسانية في سبيل الله؛
أتعهد بالامتناع عن استخدام العنف وأتبرأ من اللجوء إلى الانتقام؛
أتعهد بأن أغفر لمن يظلمني أو يعاملني بقسوة؛
أتعهد بالامتناع عن المشاركة في النزاعات والصراعات العنيفة وأتعهد
بعدم إثارة العداوة والفتنة؛
أتعهد بأن أتعامل مع كل بشتوني كأخٍ وصديقٍ لي؛
أتعهد بالابتعاد عن العادات والممارسات المنبوذة في المجتمع؛
أتعهد بأن أعيش حياة بسيطة، وأن أتحلى بالفضيلة، والسلوك الحسن، وأبتعد
عن الإهمال والتسيب؛
أتعهد بأن أكرس ساعتين من وقتي يوميًا على الأقل لخدمة المجتمع؛
أتعهد بربط اسمي بالصدق والأمانة فأكون خادمًا حقيقيًا للرب؛
أضحي بمالي وحياتي وراحتي في سبيل حرية أمتي وأهلها؛
سوف لن أكون يومًا طرفًا في عمل يسعى إلى الانفصال والفتنة، أو سببًا
في اندلاع الكراهية والغيرة بين شعبي، وسأقف دومًا في صف المستضعف
لنصرته ضد المستكبر؛
سوف لن أصبح يومًا عضوًا في منظمة أو مؤسسة معادية أو منافسة، وأتعهد
بألا أنخرط يومًا في صفوف أي جيش؛
أطيع بأمانة جميع الأوامر المشروعة لجميع الضباط وفي كل الأوقات؛
أعيش وفقًا لمبادئ اللاعنف؛ أخدم كل مخلوقات الله على قدم المساواة،
وغايتي هي الحفاظ على حرية بلدي وديانتي؛
ألتزم بالحق والإحسان في كل عمل أقوم به؛
لا أبتغي أي مكافأة أو غنيمة على ما أقوم به في خدمة بلدي؛
أكرس كل جهودي لمرضاة الله، وأبتعد عن التباهي بالعمل والتكسب منه؛
كرَّس عبد الغفار خان حياته الطويلة لخدمة مبادئه، وأمضى جراء ذلك ثلث
حياته تقريبًا في عدد من السجون، ولم تكن تلك السنوات في ضيافة السجان
الأجنبي فقط بل كان له نصيب أيضًا في السجون الباكستانية إذ وقف خان في
مكانه الصحيح كعادته بين صفوف المعارضين لسياسة تقسيم الهند في 1947،
وتحدى منهجة العداوة بين أهل البلد الواحد الممزق، وواصل نضاله من أجل
حقوق البشتون في دولة باكستان الجديدة آنذاك. لقد ألهم الرجل بصلابته
والتزامه جيلاً كاملاً من المسلمين وأعاد تعريف قومه بالمعنى الحقيقي
للجهاد الذي أضاعه المسلمون لقرون طويلة:
عقديتي هي الحقيقة والمحبة وخدمة الله والإنسانية. كل ديانة على وجه
الأرض جاءت ومعها رسالة محبة وأخوة، أما أولئك الذين لا يكترثون لخير
ذويهم وسلامتهم، وأولئك الذين خلت قلوبهم من المحبة، فهم لا يدركون
أصلاً معنى الدين.
ترشح خان مرتين لنيل جائزة نوبل للسلام وتوفي في بيشاور عام 1988 عن 98
عامًا. ووفقًا لوصيته الأخيرة، دفن في جلال أباد شرق أفغانستان على أمل
أن يتحقق أمله يومًا في توحيد البشتون في أفغانستان وباكستان تحت سماء
بلد واحد.
قبائل البشتون، التي أنجبت عبد الغفار خان ومعه مئة ألف جندي من خدام
الرب، سوف تلعب بعد خمسين عامًا دورًا كبيرًا في طرد السوفييت في
أفغانستان، ولكن فقط بعد أن نكص الرجال إلى حمل السلاح، فتشرذمت على
إثر ذلك القبائل وفشل مشروع السلام في أفغانستان أمام ثقافة الحرب
والحديد والنار، وفشلت معه أحلام بادشاه خان في نثر بذور المعرفة
والثقافة في مجتمعه.
لكن رياح التغيير حملت هذه البذور إلى جزء مستضعف آخر من الكرة
الأرضية، لتثمر اليوم على شكل صرخات تشق حناجر ملايين الرجال هذه
المرة، خدام الرب الجدد، جنود عزل ينادون (سلمية سلمية)، (إن بسطت يدك
لتقتلني ما أنا بباسط يدي لأقتلك)، عراة الصدر يقفون تحت جحيم الرصاص
والاعتقال والتعذيب، في عالم مازال يقيم الحد على الضعيف ويترك القوي
دون حساب، ولسان حالنا اليوم، لله درك يا عبد الغفار خان لما قلت:
الأمة التي تتذكر أبطالها فقط بعد موتهم هي أمة ميتة أصلاً، فالأمم
الحية تكرِّم أبطالها وهم على قيد الحياة.
فلنتذكر نحن أيضًا أبطالنا وهم أحياء، ولنكرم نضال إخوتَنا خدام الرب
الجدد.
*** *** ***