نحو بلاغة خاصة:
النص الشعري ومرتكزات التحليل البلاغي
مصطفى الغرافي
يشكل
كتاب في بلاغة النص الشعري القديم جهدًا نقديًا توخى من خلاله
صاحبه الدكتور محمد الأمين المؤدب الإسهام في بناء بلاغة نوعية خاصة
بالنص الشعري. وتنصب هذه البلاغة كما قرر الباحث على وصف وتفسير
"الكيفية التي يتم بها تشكيل الشعر" (ص: 9). ولما كانت البلاغة التي
تفرزها النصوص الشعرية تتسم بسمات مائزة، فقد جاءت الدراسة تعبيرًا عن
طموح الباحث إلى إرساء بلاغة نوعية تراعي الفروق الأسلوبية والبلاغية
التي تميز نصًا من نص ونوعًا من نوع وشكلاً من شكل. فما هي معالم
المنهجية التحليلية التي اهتدى بها الدارس في مقاربة نماذج مختارة من
شعرنا القديم؟ وما هي أهم مرتكزات التحليل البلاغي؟ وكيف أسهمت في
الكشف عن بلاغة النص الشعري القديم؟ وإلى أي حد وفق الباحث في وضع اليد
على خصائص هذه البلاغة؟
يظهر النظر الدقيق في كتاب بلاغة النص الشعري القديم أن الباحث
توخى مقاربة نماذج من الشعر العربي القديم استنادًا إلى مجموعة من
الأسس المنهجية المشتقة من النص والمقدودة من طبيعته النوعية
والبلاغية. وقد بدا لنا أنه من المفيد محاولة استخلاص أهم المرتكزات
التي يقوم عليها التحليل البلاغي للنصوص الشعرية كما جسدته قراءة
الباحث لنماذج مختارة من شعرنا القديم. ويمكن حصر هذه المرتكزات في
المنهج والسياق والغرض والتلقي والوظيفة.
1-
المنهج:
لعل إشكال المنهج أن يكون أهم معضلة تواجه الباحث في الشعر القديم؛ كيف
السبيل إلى فهم طبيعة هذا الشكل التعبيري العتيد في ثقافتنا العربية؟
ويستدعي هذا الإشكال زمرة من الأسئلة المتعلقة بالتراث والحداثة،
والذات والآخر والتقليد والتجديد. مما يعني أن إثارة سؤال المنهج يلقي
بالدارس في قلب الجدل الفكري المعاصر بسبب ارتباطه بالهوية الثقافية
والحضارية للأمة العربية.
أثار الباحث سؤال المنهج في المدخل الذي افتتح به دراسته، حيث رسم
الخطوط العامة للأفق الثقافي والأدبي الذي يصدر عنه تحليله لنصوص الشعر
العربي القديم. لقد صدر الباحث في دراسته عن وعي تام بأن إشكال النص
الشعري القديم هو إشكال تلقيه؛ فالدارس العربي اليوم يقف على مادة
علمية هائلة في مجال الدراسات الأدبية كما جسدتها اجتهادات البنيويين
والأسلوبيين والسيمائيين والإنشائيين، ولكنه في نفس الوقت لا يستطيع أن
ينقاد لإغراءات المرتكزات التحليلية التي تعرضها بسخاء المناهج النقدية
المعاصرة حيث يتملكه الارتياب في مدى قدرة هذه المناهج على تعميق
معرفتنا بجماليات تراثنا الشعري، وإن كان لا يستطيع تجاهلها تماما
بالنظر إلى ما أثبتته من فاعلية ونجاعة في تحليل نصوص متباينة من حيث
الأشكال والأنواع والصيغ والأنماط. وعلى الرغم من ذلك استشعر الباحث أن
هناك صنوفًا من الصياغة الأدبية في تراثنا الشعري لا يفيد معها
الانتفاع المباشر بالنتائج التي تقدمها التحليلات المنهجية المعاصرة.
انطلاقًا من وعيه بالتحدي الذي يطرحه وصف وتفسير التراث الشعري في ضوء
المناهج الحديثة، طرح الباحث جملة من الأسئلة هي عند التحقيق إشكالات
جديرة بالنظر المتأمل من قبيل ما السبيل إلى النص؟ كيف نقرأه بعيوننا
وبوحي من أنفسنا في غير انغلاق أو تقوقع أو استلاب؟ وهل لنا من قراءة
أو قراءات من شأنها أن تعمل على تطوير مناهجنا من الداخل اعتمادًا على
النصوص أولاً واستنادًا إلى الأصول النظرية والضوابط المنهجية ثانيًا؟
لقد فحص الباحث طبيعة وخصائص المناهج النقدية التي يتوسل بها الدارسون
المعاصرون في وصف وتفسير النصوص الأدبية فاستخلص أن كثيرًا منها يتبنى
منهجا بعينه ويسعى إلى تطبيق نتائجه تطبيقًا حرفيًا ما وسعه ذلك مما
يجعل النص يتحول في كثير من المناولات النقدية المعاصرة إلى مجرد شاهد
يستدعى من أجل الاستدلال على فاعلية المنهج المعتمد ونجاعته في مقاربة
الظواهر الأدبية وكأن المنهج هو الغاية والدراسة هي الوسيلة.
إذا كانت هذه المنهجية التحليلية لم تحظ برضى الباحث فإنه أبان عن
انحياز واضح لمقاربات تحليلية أخرى اتسمت كما وصفها بالتميز الناتج عن
تصور نظري ناضج ورؤية نقدية واعية وخلفية تراثية عميقة (ص: 17). وقد
تجسدت المطارحة النقدية التي رضي عنها الباحث وأشاد بها في أعمال طه
حسين ومحمد النويهي وشكري فيصل ومحمود شاكر وهي مطارحات تميز أصحابها
بالجمع بين الخلفية الثراثية وبين الانفتاح على المناهج النقدية
الحديثة. ولذلك احتكموا في قراءاتهم للتراث الشعري إلى العمل الأدبي
قبل الاحتكام إلى الأصول النظرية والقواعد المنهجية. وقد ظهر أثر هذه
القراءات لاحقًا في مقاربة جيل من الدارسين تصرفوا في النظريات
والمناهج تصرفًا واسعًا كما تظهر قراءات مصطفى ناصف وادريس بلمليح
ومحمد لطفي اليوسفي ورجاء بن سلامة.
إن تنويه الباحث بهذا الصنف من الدراسات، في معرض تحديده لمعالم الأفق
الثقافي والأدبي الذي يصدر عنه تحليله لنصوص الشعر العربي، يكشف عن
انحيازه للمقاربة التي تجعل من النص المنطلق والمآل مع الانتفاع كلما
اقتضى الأمر بالأدوات التحليلية التي توفرها المناهج النقدية الحديثة.
وترجع أهمية هذا الاختيار المنهجي إلى كونه يجعل النص مركزًا لا هامشًا
ومخدومًا لا خادمًا (ص: 21)؛ فالنص هو مناط القراءة والنقطة التي ينبغي
أن ترتكز عليها الدراسة. ولا سبيل إلى ذلك ما لم تكن المفاهيم النقدية
والمرتكزات التحليلية منبثقة من النص ومقدودة من خصائصه النوعية
والبلاغية.
2-
السياق:
يمثل السياق مرتكزًا أساسًا من مرتكزات التحليل البلاغي للنصوص
والخطابات. ذلك أن السياق الذي يندرج ضمنه العمل الأدبي يمكِّن من
تحقيق فهم أعمق للجماليات التي يجترحها النص ويقترحها على متلقيه.
فالنصوص مهما تغايرت من حيث الأشكال والأجناس والأصناف تتحدد بوصفها
أفعالاً لغوية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمقام الأداء ممثلاً في سياقه
التاريخي والاجتماعي والثقافي الذي يحدد له معناه ويوجه دلالته.
تنطلق فكرة مراعاة السياق في تلقي النص الأدبي من تصور بلاغي ونقدي
ينظر إلى الظاهرة الأدبية باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من الفعل التواصلي
بشكل عام. وفي التواصل الأدبي يشكل السياق أهمية قصوى لأن لكل عصر
أشكاله التعبيرية الخاصة. وقد نص الباحث على ضرورة مراعاة السياق في
تلقي نصوص الشعر العربي القديم لما له من دور مهم في تحديدي دلالتها
ورصد بلاغتها المخصوصة. يقول: "لما كان النص الشعري القديم نتاج سياق
ثقافي معين... لزمنا أن تكون القراءة وفق رؤية سياقية نسقية" (ص: 23).
وتتطلب الرؤية النسقية النظر إلى النص الشعري القديم من خلال سياقات
ثلاثة:
-
سياق تاريخي: يستحضر فيه المحلل البلاغي كل ما يتعلق بحياة الشاعر
وظروف القول وتطور الدرس الأدبي في شتى مراحله وتجلياته، لأن صورة
الأدب إنما تتشكل إنتاجًا وتلقيًا في ضوء السياق التاريخي والثقافي
الذي تفاعل معه النص وانبثق عنه.
-
سياق إبداعي: استحضر الدارس في تلقيه للنص الشعري القديم علاقة النص
بسياقه الشعري والإبداعي. يتعلق الأمر بمجمل التراث الشعري الذي يتفاعل
معه النص وفق جدلية الثبات والتحول أو التماثل والمغايرة.
-
سياق نقدي: يختص بالعدة النقدية والمعرفية التي يتوسل بها الدارس من
أجل الكشف عن بلاغة النصوص والخصائص الفنية والجمالية التي تنطوي
عليها.
لقد بدت فاعلية السياق واضحة في قراءة الباحث لسينية ابن الآبار في ضوء
الظروف والملابسات التاريخية التي تفاعل معها الشاعر. فقد شكل السياق
التاريخي أداة نافعة ساعدت الدارس على توضيح فكرته المتعلقة بجدلية
الأصل والفرع في شعر الاستصراخ، حيث بين أن الأحداث التاريخية الفاجعة
التي شهدها الغرب الإسلامي بصفة عامة والأندلس على نحو أخص أسهمت بقسط
موفور في ظهور هذا الغرض الشعري الذي ارتبط برثاء المدن التي كانت
تتساقط واحدة تلو الأخرى بعد انفراط عقد الأندلس وانشطاره إلى ممالك
صغيرة.
يظهر مما سبق الأهمية القصوى التي يكتسيها معيار السياق في تفسير
النصوص وتأويلها اعتمادًا على المقام التواصلي الذي تتحقق على صعيده
العلاقة التفاعلية التي تجمع بين المؤلف والنص والقارئ؛ فالمعرفة
بالسياق التاريخي والثقافي الذي تم فيه إنتاج النصوص تمكن القارئ من
التفاعل معها وفق أفق انتظار محدد يتولى توجيه عملية القراءة والتأويل.
3-
التلقي:
يشكل فعل التلقي مرتكزًا جوهريًا من مرتكزات التحليل البلاغي للنصوص
والخطابات. ولما كان جهد الباحث منصبًا على وصف وتفسير النص الشعري
القديم من منظور بلاغي، فقد عني بتحديد أنماط المتلقين الذين تفاعلوا
مع الأفق الذي تفتحه نصوص الشعر القديم. استقصى الباحث أهم القنوات
التي كان يتم من خلالها تلقي هذه النصوص وتكشف هذه القنوات عن ردود فعل
المتلقين وطبيعة تواصلهم مع البلاغة المخصوصة التي تفرزها نصوص الشعر
القديم. وهو ما يسمح بعد كل واحد منها مستوى من مستويات التلقي. وقد
تمثلت أهم قنوات تلقي الشعر العربي القديم في:
-
جمهرة العرب أفرادًا وقبائل. ويتخذ فعل التلقي في هذا المستوى شكل ردود
أفعال إزاء النص الشعري كما تتمثل في إصدار أحكام إيجابية أو سلبية.
-
رواة الشعر: الذين اتخذ تواصلهم مع نصوص الشعر العربي تجليات مختلفة
تمثلت في تنقيح الروايات وإصلاح ما بها من خلل.
-
أصحاب الاختيارات: ما من شك أن اصطفاء طائفة من النصوص الشعرية كاملة
أو مجزأة وتصنيفها في أبواب مظهر من مظاهر التلقي يعكس ذائقة صاحب
الاختيار.
-
أصحاب الشروح: لقد تباينت مستويات تلقي النص الشعري القديم نبأ حسب
ثقافة الشراح أو اختلاف اتجاهاتهم والغايات التي وجهت شروحهم.
وقد اتخذ الباحث من قصائد المتنبي المعروفة بـ "الكافوريات" أنموذجًا
لتلقي النص الشعري القديم، حيث أوضح أن قراء ابن حسام لكافوريات
المتنبي قراءة جديدة تمثل استجابة لأفق التلقي المخصوص الذي تفتحه
الكافوريات. وهو أفق تميز بمرونة كبيرة تجعل نصوص المتنبي قابلة للتعدد
الدلالي والتأويلي لاحتمالها وجوها من القراءة وصنوفًا من التأويل. لقد
تفاعل ابن حسام مع كافوريات المتنبي تفاعلا يمكن وصفه بالجدة والتميز
والفرادة كما يستشف من عنوانها رسالة في قلب كافوريات المتنبي في
المديح إلى الهجاء. وإذا كان هذا الملمح واضح في الكافوريات تنبه
إليه عديد من قراء المتنبي مثل ابن جني والمعري، فإن قراءة ابن حسام
تميزت بالتوسع والشمول. إذ لم تقف عند بعض الأبيات فقط، ولكنها تتبعت
المدائح الكافورية قصيدة قصيدة مستقصية ما تضمره من معاني الهجاء وإن
كان ظاهر اللفظ يوهم المديح.
لقد كشفت دراسة الباحث لمكونات القراءة في رسالة ابن حسام أن عملية
التلقي تفاعل شاق ومبدع مع النصوص لما تستلزمه من عدة معرفية ومنهجية
لاسيما إذا كان القارئ يصدر عن وعي بأنه يتفاعل مع نص قابل لأكثر من
قراءة وأكثر من تأويل ما دام تحقق النص الشعري لا يمكن أن يكون
نهائيًا، لأن تلقيه يتحقق عبر صيرورة تاريخية تتعدد تبعا لتعدد وضع
القراء وحاجاتهم ومصالحهم؛ فالقارئ غالبًا ما يبحث في النصوص عن أجوبة
لأسئلة معينة من دون أن يعني ذلك أن الأجوبة المحصل عليها تجسد مقاصد
المؤلف، ولكنها نتيجة التفاعل بين أفق النص وأفق القارئ مما يؤكد أن
المعنى المحصل عليه هو نتيجة العلاقة التفاعلية بين المتلقي والنص.
ولذلك كان النص الأدبي لا يستجيب فقط لأفق انتظار القراء المعاصرين له،
ولكنه يستجيب أيضًا لآفاق انتظار مختلفة وغير متوقعة تلائم قراء
المستقبل.
ويرجع ذلك إلى انفتاح النص وقابليته لأكثر من قراءة وأكثر من تأويل.
ولذلك لا ينبغي أن تستغرب اختلاف ردود الفعل إزاء نصوص الشعر القديم
وتباين القراء في فهمها وتفسيرها. إنه مظهر من مظاهر الغنى الجمالي
والثراء الدلالي الذي اتسمت به هذه النصوص. ذلك أن النصوص الجيدة تقاس
بمدى رحابة الآفاق التأويلية التي تفتحها أمام قارئها. وما من شك أن
تعدد القراءات مرتبط بفاعلية القارئ في تلقي النص وتأويله، فالمتلقي
كما نص على ذلك الباحث "يظل فاعلاً أساسًا في خلود الآثار وضمان
استمراريتها لذلك كان الحرص على جذب انتباهه قصد إشراكه في تقبل العمل
الأدبي وإعادة إنتاجه ضمن ما يسمى بانفتاح النص أو البث المتجدد للنص"
(ص: 100). إن النص ذخيرة تحتاج إلى من يقدح زنادها ويساعدها على
الانطلاق والفعل.
4-
الغرض:
يشكل الغرض مقياسًا بلاغيًا يتيح استثماره بناء تصور فعال لجمالية
القصيدة العربية القديمة. وقد فحص الباحث طائفة من النصوص الشعرية في
ضوء الغرض الذي تنتمي إليه وتندرج ضمنه. ولا يخفى أن تحديد الغرض عملية
تجنيسية تصنف النصوص استنادًا إلى جملة من المكونات والسمات التي
تتضافر فيما بينها لتكسب النص خصوصيته النوعية وفرادته الأسلوبية. وقد
اتخذ الباحث من الغرض معيارًا موجهًا في وصف وتفسير شعر "الاستصراخ"
الذي يقوم على بكاء المدن ورثائها كما شاع في الأندلس.
انتهى الباحث من استقرائه لقصائد "الاستصراخ" في ضوء معيار الغرض إلى
رصد سمة أساس تميز هذا الصنف من الشعر تتمثل في تداخل الأغراض، فقصائد
الاستصراخ تتميز بأنها لا تستقل بغرض خاص، ولكن تتداخل فيها أغراض
شعرية مختلفة، حيث تفرض مقتضيات شعر الاستصراخ مديح الملوك والأمراء من
أجل حثهم على نجدة المدن. وبالمقابل يكون هجاء العدو المغتصب مطلبًا
أساسًا في هذا الشعر.
يحضر في شعر الاستصراخ، إلى جانب المديح والهجاء، غرض شعري آخر هو
النسيب الذي يقوم على إظهار الحنين والتعلق بالأماكن المفتقدة. أما
حضور الحكمة والوصايا في شعر الاستصراخ فيرجع إلى كون هذا الغرض الشعري
متفرعًا عن الرثاء. وتتمثل الغاية من إيراد الحكم والوصايا، في ثنايا
قصائد شعر الاستصراخ، إلى رغبة الشعراء في إسداء النصح وإفادة العبرة
والتخفيف من هول الفاجعة.
يشكل التداخل بين الأغراض سمة رئيسة في شعر الاستصراخ، حيث تتداخل في
هذا الصنف من القصائد الاستصراخ طائفة من الأغراض الفرعية التي تتضافر
فيما بينها لكي تشكل الغرض الأكبر ممثلاً في الاستصراخ الذي يشكل نسقًا
وإطارًا عامًا. وقد تناول الباحث في موضع آخر من دراسته "الافتنان" في
الأغراض باعتباره سمة تكوينية في بلاغة القصيدة العربية القديمة
ولاسيما القصيدة المادحة التي تقوم على أكثر من غرض مثل النسيب والمدح
ووصف الرحلة والحكمة. ويبدو أن الشعراء راعوا في شعرهم مبدأ تعدد
الأغراض باعتباره مظهرًا من مظاهر القدرة على التصرف في فنون القريض
بالإضافة إلى دوره في استمالة المتلقي واجتذابه للتفاعل مع المضامين
الدلالية والقيم البلاغية التي تنطوي عليها القصيدة.
تتجلى فاعلية الغرض في كونه معيارًا موجهًا في قراءة النص وتفسير
بلاغته، لأنه يسمح بوضع النص المقروء في سياق تقليد شعري محدد. ذلك أن
الشاعر يخضع في عملية الإنتاج الإبداعي لتقاليد الغرض كما رسخها
السابقون. وهو ما يجعل الغرض يتحول في عملية التلقي إلى مقولة وصفية
تساعد المحلل البلاغي على تعيين السمات الجمالية التي تميز بلاغة النص
الشعري القديم.
5-
الوظيفة:
تشكل الوظيفة مرتكزًا رئيسًا من مرتكزات الدراسة البلاغية، حيث ارتبط
الشعر القديم بأغراض تداولية جعلته يتحول في كثير من الأحيان إلى خطاب
إنجازي آمر يطلب الفعل ويحث عليه؛ فالشعر صناعة معقدة تقوم على "ضروب
من الوشي وأنماط من النسج" (ص: 31) ولذلك انطوت على كثير من أسرار
الجمال ودلائل الإبداع جعلت هذا الصنف من الخطابات الأدبية يتميز من
غيره من أصناف المخاطبات الأخرى بسمات جمالية وبلاغية مخصوصة. ويمثل
الافتنان أبرز سمة تميز بلاغة الشعر من صنوف البلاغات الأخرى؛ فإذا كان
الافتنان سمة من سمات كلام العرب نجدها في الخطبة والرسالة والمقامة
فإنها تبدو أظهر ما تكون في الشعر منها في غيره من أنواع الخطاب
الأخرى.
لقد ربط الباحث سمة الافتنان في الشعر بغاية وظيفية تداولية تمثلت في
مراعاة أحوال المتلقي، فالافتنان أداة ناجعة يتوسل بها الشاعر من أجل
استمالة القارئ والتأثير فيه تأثيرًا تداوليًا يضمن استجابته للمضامين
المعرفية والجمالية التي تنطوي عليها القصيدة. إذ غاية الشعراء من
الافتنان في قصائدهم "إرضاء شهوة الناس" (ص: 37).
في معرض تحليل الباحث لنصوص الشعر القديم في القسم التطبيقي من الكتاب
رصد بعض أوجه البعد الوظيفي في هذه النصوص باعتباره مظهرًا من مظاهر
بلاغتها المخصوصة. فقد توقف عند طائفة من القصائد التي تنضوي ضمن هذا
الغرض الشعري ليبين أن شعراء الاستصراخ، كانوا يعمدون إلى "مديح ذوي
النجدة من الملوك والأمراء وسواهم ممن يمكن أن يساعد على النصر وإعادة
الحق لأهله وإلى هجاء العدو المغتصب الذي يهتك الأعراض والحرمات ويعبث
بالقيم والمقدسات، بهدف استحضار القيم الخيرة مثل الشجاعة والجود،
والهدف البعيد من ذلك كله تحقيق تلك القيم قصد النهوض لنصرة المسلمين
وهزيمة الكفار" (ص: 82). ولما كان شعر الاستصراخ مرتبطًا برثاء المدن
الأندلسية التي سقطت في أيدي العدو بعد النكبة فقد وجه هذا الغرض
الشعري لخدمة غايات وأغراض عديدة من طبيعة وظيفية تداولية في مقدمتها
التوجه إلى المتلقي لإفادة العبرة وإسداء النصح والتخفيف من هول
الفاجعة.
تكشف قصائد الاستصراخ عن تعلق شعراء الأندلس بوطنهم. ولذلك طغى على هذه
القصائد التعبير عن لواعج التعلق بالأماكن المفتقدة وإظهار حرارة
الحنين إليها وصدق العاطفة تجاهها. وقد اقترن ذلك عند شعراء الاستصراخ
كما أظهر الباحث بالرغبة في "إثارة المتلقي نحو الفعل الذي هو إجابة
الداعي ونجدة المستغيث" (ص: 83). وفي معرض تحليله لهاشميات الكميت كشف
الباحث عن البعد التداولي الوظيفي في قصائد هذا الشاعر الذي يتداخل في
شعره البعد الوجداني والبعد الفكري أو الوظيفة الأدبية الجمالية
والوظيفة الحجاجية الإقناعية في هاشميات الكميت، حيث يرتقي المقوم
الوجداني في بعض شعره إلى ما يشبه "الوجد الصوفي" كما يحضر الجانب
الفكري الذي يتوخى الإقناع استنادًا إلى مقومات الجدل الحجاجي والمنطق
الجدلي.
خلاصة:
لعل أهم نتيجة بلورها كتاب بلاغة النص الشعري القديم أن تتمثل
في أن بناء معرفة متعمقة بقضايا النص الشعري القديم يتطلب "قـراءة
نصيـة" تستطيع النفاذ إلى جوهره والكشف عن دقائقه وأسراره. وقد ظهرت
معالم القراءة النصية واضحة وجلية في مختلف فصول الدراسة؛ فهي ماثلة في
الفصل الأول الذي فحص فيه الباحث بلاغة الافتنان في النص الشعري حيث
رصد أهم تجليات هذه السمة الجمالية في النص الشعري. فقد توقف عند
الافتنان في الأغراض، والافتنان في المعاني الشعرية لفظًا وتركيبًا
وتصويرًا انطلاقًا من نصوص شعرية تجسدت فيها ظاهرة الافتنان بشكل واضح
وجلي، كما برز التحليل البلاغي النصي بشكل واضح في المباحث التي كرسها
الدارس لوصف وتفسير ظواهر أدبية وبلاغية في نصوص الشعر القديم على نحو
ما تجسد في تحليلات الباحث لقضية تماسك النص الشعري وقضية المعنى
الشعري وأشكال التحول. وهو ما أتاح للباحث الاستدلال على الفائدة
العظيمة التي تنطوي عليها مقاربة نماذج من شعرنا القديم استنادًا إلى
مقتضيات التحليل البلاغي النصي.
*** *** ***
الأوان، السبت 15 آذار (مارس)
2014
محمد
الأمين المؤدب، في بلاغة النص الشعري القديم- معالم وعوالم،
منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، تطوان، 2010.