|
كم ثمن الحرية؟
ليس لنا غير حرية واحدة هي حرية النضال من أجل الحرية.
أيقونة أخرى للحرية التونسية في عيد ميلادها... يبدو أنَّ السؤال عن الحرية لم يعد ممكنًا في لغة المفاهيم الناعمة من قبيل "ما هي الحرية"؟ أو "أين تبدأ حريتك وأين تنتهي"؟ أو"الحرية: هل هي معطى طبيعي أم مكسب مدني"؟ إلخ من أنواع الأسئلة التي تعوَّد التقليد الفلسفي والأكاديمي والنظري على إتيانها. في هذا السياق التاريخي الذي نحن فيه الآن في البلاد العربية بعد ثورات الربيع العربي، ربما من الأنجع أن نأتي سؤال الحرية من وجهة مخصوصة: فنتحوَّل عن سؤال "ما هي الحرية"؟ إلى سؤال "ما ثمن الحرية"؟ ويبدو أنَّ ثمن الحرية في ثقافتنا هو ثمن باهظ جدًا تراوح في كلِّ مرَّة بين الاضطهاد والاغتيال، وبين سجون الطغاة والقتل غدرًا برصاصات لا تفكِّر بأسئلتنا العفوية بل تعمل بضغط عاجل من أجل قتل فاجع... كلُّ الذين استشهدوا من أجل الحرية قد دفعوا دمائهم ثمن إمكانية إبداع شكل أكثرًا عدلاً من الحياة المشتركة... كل من وقع اغتياله في معارك الحرية قد دفع روحه ثمن وجه أجمل للوطن... كلُّ اغتيال للحرية هو لحظة حداد عليها. نيتشه يسأل: "ما هي علامة الحرية" ويجيب: "علامة الحرية هي ألا يخجل الإنسان من نفسه". وكنفيوشيوس يقول: "حين تفقد الكلمات معانيها يفقد البشر حريتهم". أمَّا بريكلاس فيقول: "ليس لنا غير حرية واحدة هي حرية النضال من أجل الحرية". وهناك أيضًا "حرية فارغة، هي حرية الظلال تلك التي لا تكمن إلا في تغيير شكل السجن...". وحينما نتكلَّم عن ثمن الحرية فنحن نستحضر بالضرورة قائمة المبدعين الذين دفعوا أرواحهم وأجسادهم ثمنًا لأصواتهم المدافعة عن صوت الحرية. وهنا لا يقتصر الإبداع على الإبداع الفني فقط بوصفه أرقى تعبير عن الإبداع نفسه وأقصى درجة في اختراع إمكانيات الحرية بل نتكلَّم أيضًا عن الحرية التي ترتبط بالدفاع عن صوت الحقِّ والكشف عن كلِّ أشكال الظلم والحيف والهيمنة على حقوق البشر من طرف الدول مهما كانت طبيعتها... وحينما نضع الحرية والإبداع في زوج مفهومي فإنَّ السؤال الذي يحرجنا ههنا هو التالي: ما هي كمية الحرية المسموح بها في ثقافة لا زالت لم تحسم بعدُ علاقتها مع الهوية؟ أي أيُّ المعارك علينا خوضها في ثقافتنا اليوم: معارك الحرية أم معارك الهوية؟ لقد تقطَّعت بنا السبل ولم نعد ندرك من أين سندخل في هذا الوطن. هل نحن مستعدون كفاية للدخول إلى باحة المعارك الكونية أم نحن انقسمنا إلى حدٍّ لم نعد فيه شعبًا قادرًا على السير برمَّته على الطريق الصحيح للمدنية؟ سوف نبدأ مقالنا بجملة من الملاحظات: 1. إنَّ الإبداع لا ينتعش بالضرورة في عصور الحرية بل قد لا يزدهر الإبداع إلا في عصور الاضطهاد والعبودية. من بنى الأهرام والمساجد والأسوار التاريخية العظيمة هم العبيد. لكن التاريخ لا يذكر غير أسماء الطغاة. 2. إنَّ الحياة الإبداعية هي ضرورة حيوية وليست رفاهًا أو ترفًا أرستقراطيًا. نحن لا نحتاج إلى الخبز فقط بل نحتاج إلى الحرية من أجل عيش كريم. إنَّ شعبًا بلا مبدعين هو شعب مريض ولا يرقى إلى مقام التاريخ ومقارعة الأمم الأخرى. وإنَّ شعبًا لا يتقن احتضان مبدعيه ومحبَّتهم غير قادر على انتماء إيجابي وصحِّي إلى الإنسانية الكونية. 3. الإبداع ليس ملكًا لأيَّة عبقرية ولا لأيِّ جهاز هووي أو سلطوي بل هو ملك الشعوب وهو علامة على عافية شعب ما وقدرته على الحلم بالمستقبل الكفيل باحتضان أحلام أبنائه. 4. إنَّ شعبًا بلا مبدعين هو شعب غير قادر على الفرح ومحبة الحياة. 5. الحرية لا تُعطى بل تُفتكُّ وتُخترع في كلِّ أفعالنا وأقوالنا النابعة عن إرادة مستقلة. إنَّ إشكالية الإبداع والحرية تخفي في عمقها ثلاث إشكاليات أساسية: 1. هل نبدع كي نتحرَّر؟ 2. هل ينبغي أن نكون أحرارًا سلفًا حتى نبدع؟ 3. هل نبدع دومًا من أجل الحرية فقط أم ثمَّة معارك أخرى أمام المبدعين؟ سننطلق من تحديد مؤقت لمفهوم الحرية. المعنى الأولي للحرية هو الإنسان الحرُّ أي ذاك الذي ليس ملكًا لإنسان آخر. الحرُّ هو من ليس عبدًا لأحد. ودعنا نستحضر هنا قولاً مأثورًا عن عمر بن الخطاب في ثقافتنا "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا". صرخة ضدَّ العبودية التي لم يقع الإعلان عن نهايتها إلا بشكل متأخر جدًا في تاريخ الإنسانية. روسو في بداية العقد الاجتماعي يقول: "يولد الإنسان حرًا وهو في الأغلال حيثما كان". وكانط يقول: "إنَّ الحرية هي الجوهرة الوحيدة المتبقية لنا في زحمة الضغوطات اليومية". ويقول كانط محدِّدًا مفهوم الحرية بشكل دقيق: "إنَّ الحرية هي القدرة على أن يبدأ المرء شيئًا ما بذات نفسه". والمقصود هو أنَّ الحرية هي معطى طبيعي في الذات الإنسانية. وبالتالي كل ما ينبع من لدُن ذواتنا العميقة من أفعال وقرارات حرَّة دونما أيِّ شكل من الوصاية الخارجية. لا أحد يعلم إذًا ما تستطيع ذاته العميقة. حينما كان نيتشه يومًا يقول: "كُن ما أنت" فقد كان يقصد أن لا أحد منا يعلم من هو، أي ما هو اقتداره الحقيقي، ولا أحد منا قادر على أن يكون هو هو دومًا. ذلك أنه "نادرًا ما يصير الإنسان شخصًا". كثيرًا ما يكون الواحد منا غيره: فتراه يريد أن يصير إسلاميًا مثل جاره، أو ليبيراليًا كصديقه في الخمَّارة أو يساريًا مثل زميله في الجامعة. كلٌّ منا يريد أن يكون ما كانه شخص آخر بل نحن لسنا أنفسنا كفاية أو لسنا أنفسنا أصلاً. والغريب هو أنَّ الواحد منا يريد أن يصير مستقبلاً ما كان آخرون في ماضي قد انتهى زمانه. وبوسعنا أن نقول "كلُّنا سلفيون بشكل ما". إنَّ المطلوب إذًا هو أن تكون حرًا بمقدار ما تحمل من حرية طبيعية فيك حتى وأنت لا تملك الوعي الكافي بذلك. نحن لا نستجدي الحرية من أحد. ليس ثمَّة حريَّات تُعطى على طبق من ورد. ثمَّة نضالات من أجل الحرية. دولوز يقول: "الحرية لا توجد... ينبغي اختراعها". إنَّ الحرية كما نصطلح عليها اليوم لم تكن موجودة في المجتمعات القديمة القائمة على نظام العبودية. فلدى أرسطو مثلاً: الإنسان؛ الذي يعمل ليس حرًا بل هو عبد... وحده الإنسان الذي يفكِّر يتمتع بالحرية. ومع ظهور الدِّين التوحيدي في المسيحية مثلاً سيقع الاعتراف بأهمية العمل وقيمته. لكن الحرية ستظهر في معنى سلبي بوصفها سببًا في الخطيئة الأصلية وسيظلُّ الإنسان يعمل طيلة حياته للتكفير عن ذنوبه وعن إثمه الأول. أمَّا في الثقافة الإسلامية فقد وقع التشجيع على تحرير العبيد لكن لم يقع تحريم العبودية. وينبغي أن ننتظر الثورات الحديثة الإنجليزية (1668) والأمريكية (1776) والفرنسية (1789) كي يقع منع نظام العبودية بشكل كوني ونهائي (1848). وكما نعلم فإنَّ الإعلان العالمي عن حقوق الإنسان (1948) يميِّز بين نوعين من الحرية: الحرية السلبية: وتعني أن يكون الإنسان حرًا من وصاية الآخرين في كل أفعاله وقراراته. والحرية الإيجابية: أي أن يكون الإنسان حرًا من كل العوامل المعرقلة لحريَّته كالجوع والمرض وعدم الأمان والفاقة والاحتياج. وبصفة عامة نميِّز عادة بين نوعين من الحريات: 1. الحريات الأساسية وهي حرية التعبير وحرية الحركة وحرية التفكير أي كلُّ أشكال الحريات الفردية التي تضمن استقلالية الفرد عن جهاز الدولة... 2. الحقوق الفعلية: الحقُّ في الشغل وفي الصحَّة وفي السكن وفي الأمن وفي الثقافة... وكلُّها حقوق ينبغي على الدولة أن توفِّرها لمواطنيها. لننتقل الآن إلى مفهوم الإبداع: لا أحد يملك وصفة سحرية لماهية الإبداع. كانط كان يقول "إنَّ العبقرية تقوم في إبداع ما لا يمكن إعطاء قاعدة محدَّدة له... ذلك أنَّ المرء يمكنه أن يتعلَّم كل ما عرضه نيوتن في كتابه الخالد: مبادئ فلسفة الطبيعة"، مهما كان اكتشاف ذلك ليقتضي من قدرة بالغة في ذلك الرأس، لكن لا أحد يستطيع أن يتعلَّم كيف ينظم قصائد مملوءة بالروح مهما تكن جميع تعليمات فن الشعر مسهبة والنماذج عنه ممتازة. لا هوميروس ولا فيلاند، شاعر ألماني معاصر لكانط، قادر على أن يبيِّن كيف تنبثق أفكاره الغنية بالخيال والحبلى بالمعاني. لأنه هو نفسه لا يعرف ولا يستطيع أن يُعلِّم ذلك للآخرين[1]. ويقول كانط أيضًا: إنَّ الروح في العمل الفني هي المبدأ؛ الذي يشيع فيه الحياة. وفي الفقرة 49 يقول كانط: إنَّ العبقرية ليست نموذجًا للتقليد بل هي تراث نموذجي لعبقرية أخرى يوقظها ذاك التراث إلى الشعور بأصالتها الخاصة ويدفعها إلى ممارسة استقلالها وتصير هذه العبقرية هي بدورها نموذجًا للإلهام. غاية الإبداع إذًا ليست المحاكاة بل ولادة إمكانات إبداع آخر. غاية الإبداع هو المساهمة في الحياة الروحية لشعب ما. شعب بلا إبداع هو شعب بلا روح جماعية. من هو المبدع؟ هو كلُّ من استطاع أن يصير هو نفسه، أي من أدرك أنَّ ذاته هي اقتدار على الحرية. إنَّ المبدع هو من اقتدر على أن يحوِّل حريته الجذرية إلى أثر فني. إنه من استطاع أن يخترع من حريته الطبيعية حرية مناسبة لكينونة ممكنة في المستقبل. إنَّ كلَّ أثر فني وكل إبداع إنما يخترع الحلم بالمستقبل على نحو ما. يقول مارلوبونتي: إذا لم يكن بمقدورنا أن نتحدَّث في الرسم عن تقدُّم ما فما ذلك لأنَّ قدرًا ما قد يجذبنا إلى الوراء وإنما لأنَّ أول الرسوم كانت بمعنى ما قد توغلت بعيدًا في عمق المستقبل. ويقول أيضًا: إذا لم تكن الإبداعات الفنية نهائية فما ذلك لأنها تمضي فحسب، وإنما كذلك لأنَّ لها تقريبًا كلَّ حياتها أمامها. كلُّ إبداع هو فضاء حرية، بل إنَّ الإبداع هو اللحظة القصوى من الحرية. وعليه فالفنُّ لا يسيء إلى أحد لأنه ليس حكرًا على أحد وليس ملكًا لأحد. هل نبدع كي نخترع الحرية فقط؟ هل ثمَّة للفن رسالة محددة؟ ثمَّة معركة عن علاقة الفنِّ بالالتزام. كلُّ التقليد اليساري يعتبر أنَّ ثمَّة فنٌّ ملتزم وفنٌّ مبتذل. فنٌّ يغيِّر العالم وفنٌّ يبرِّر الاضطهاد. فنٌّ للحرية وفنٌّ للاغتراب وتمييع القضية. ثمَّة من المفكِّرين من تجاوز هذا التصنيف. أدرنو أهمُّ أقطاب الجماليات في القرن العشرين يقول: ليس للفنِّ أيَّة رسالة. والفنُّ لا يصلح لا للتواصل ولا للتأويل ولا للمتعة إنما يصلح فقط لفضح نظام الهيمنة. سارتر يقول في كتابه ما هو الأدب؟: "الفنُّ الملتزم هو فنٌّ سيء". ليوتار يسأل: "لأي شيء تصلح كتابة الجُمل"؟ ويجيب: "من أجل جملة أخرى لإنصاف جملة وقع إسكاتها ظلمًا". ورورتي يُسأل: "لأيِّ شيء تصلح القصيدة"؟ فيجيب "من أجل قصيدة أخرى". أمَّا نيتشه فقد قال قبل الجميع: "لا أريد أن أتخيَّل قارئي إلا في شكل غول فظيع". سنتوقَّف هنا عند طرح مغاير: يتعلَّق الأمر بطريقتين في معالجة إشكالية علاقة الفنِّ بالحياة المشتركة وذلك من خلال تصوُّرين: يذهب التصوُّر الأول إلى أنَّ كلَّ إبداع وكلَّ عمل فني إنما يخترع شكلاً من المساواة الجمالية بين الناس، مساواة تعجز عن تحقيقها الدول وتعطُّلها الطغاة. وذلك عبر اختراع فضاءات للمشترك ليست بالفضاءات الهووية ولا الحزبية الأيديولوجية، بل هي فضاءات أصدقاء الفنِّ. ويسمِّيهم رنسيار صاحب هذا التصوُّر بالفلانيين القادرين على أن يكونوا كونيين فقط. أمَّا التصوُّر الثاني فيذهب إلى أنَّ الإبداع هو فعل جماعي للتحرُّر قادر على خلق المشترك، ونعثر عليه لدى طونيو نيغري المفكِّر الإيطالي الذي يذهب في رسائل حول الفنِّ والجموع، إلى أنَّ الإبداع هو "تدفُّق حيوي للوجود"، بل إنَّ الفنَّ هو الجموع حيثما تسلك هذه الجموع على نحو إبداعي. خاتمة: 1. ليست الحرية معطى جاهزًا أو هدية تمنحها لنا الحكومات، لأنَّ الأحرار لا يستجدون أحدًا ولا يساومون على حريتهم. بل إنَّ أكثر الحكومات والدول إنما هي أجهزة لصنع الرعاع والعبودية والهشِّ بعصا الذلِّ على أغنامهم. 2. لا شيء يهدِّد الإبداع لأنَّ الحرية نفسها هي لحم الإبداع. ليس الإبداع بنية لزجة بل هو الصمود والمقاومة لأشكال تدجين الناس واستبلاههم والسطو على عقولهم وأجسادهم. سبينوزا يقول: "بوسعهم أن يسيطروا على أجساد البشر لكن ليس بوسعهم أن يسيطروا على عقولهم". 3. ليس الأثر الإبداعي خاطرة شخصية ولا مزاج نرجسي للعبقرية، بل هو شرخ تحدثه الكلمات والألوان والنغمات في وجه كلِّ أشكال الاضطهاد والهيمنة، الإبداع هو قدرة غامضة على النفي واختراع عوالم مغايرة من العيش المشترك في عالم يتَّسع للجميع. 4. كلُّ الآثار الإبداعية هي لحظات قصوى من الحرية، هي فائض الحرية، أي هي فائض للوجود وفائض للحلم، وفائض للفرح ومحبَّة الحياة. هي حرية وحلم وفرح ومحبة لا تبالي بتطفُّل المؤوِّلين ولا بضجيج السياسيين ولا بغطرسة الأيديولوجيين... 5. كيف بوسعنا أن نجعل البشر يتمتَّعون دومًا بمشاعر الفرح؟ تلك هي مهمَّة الإبداع الرئيسية. 6. كلُّ عملية اغتيال للحرية هي واقعة فشل لثقافة ما على احتضان كمية الحرية التي بحوزة أبنائها... 7. كلُّ قمع للحرية من طرف دولة ما يعني أنَّ تلك الدولة هي أصغر من الفكرة وأنها أقلُّ حجمًا من خيال مبدعيها... *** *** *** الأوان، الثلاثاء 5 آذار (مارس) 2013 [1] الفقرة 47 من كتاب نقد ملكة الحكم، ترجمة غانم هناء.
|
|
|