|
بحثًا عن الحل: الملحق رقم 3: الجذور المذهبية والسياسية والإثنية لولاية الفقيه
وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى * ثم اجْتَباهُ رَبُّّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى توطئـة: كانت الأمة الإسلامية في عهد الرسول (ص) وبعد وفاته، وخلال العقود الأولى من تاريخها، تؤمن بنظام الشورى وحق الأمة في اختيار وُلاتها. كان أهل البيت في طليعة المدافعين عن هذا الإيمان والعاملين به. وعندما أُصيبت الأمة بتسلط الحكام الأمويين بالقوة وتداولهم للسلطة بالوراثة وإلغائهم لنظام الشورى، تأثر بعض الشيعة الموالين لأهل البيت بما حدث، فقالوا ردًا على ذلك بأحقية أهل البيت بالخلافة من الأمويين، وضرورة تداولها في أعقابهم. لكن هذه النظرية لم تكن نظرية أهل البيت أنفسهم ولا نظرية الشيعة في القرن الأول الهجري. وإذا ألقينا نظرة على الروايات التي يذكرها أقطاب الشيعة الإمامية، كالكليني والمفيد والمرتضى، فإننا نرى أنها تكشف عن عدم وصية الرسول (ص) للإمام عليّ بالخلافة والإمامة، وتَرَكَ الأمر شورى، وهو ما يفسر إحجام الإمام عليّ عن المبادرة إلى أخذ البيعة لنفسه بعد وفاة الرسول، بالرغم من إلحاح العباس بن عبد المطلب عليه بذلك، حيث قال له "أُمدُدْ يدك أُبايعُكْ، وآتيك بهذا الشيخ من قريش (يعني أبا سفيان)، فيقال إن عم رسول الله بايع ابن عمه فلا يختلف عليك من قريش أحد، والناس تَبَعٌ لقريش"، فرفض الإمام عليّ ذلك"[1]. وبالرغم من أن عليًا امتعض من انتخاب أبي بكر في البداية، إلا أنه عاد فبايعه عندما حدثت الرِدَّة. ومما يؤكد كون نظام الشورى دستورًا كان يلتزم به الإمام عليّ بن أبي طالب وعدم معرفته بنظام الملكية العمودية في أهل البيت، هو دخوله في عملية الشورى التي أعقبت وفاة الخليفة عمر بن الخطاب، ومحاججته لأهل الشورى لفضائل عثمان ودوره في خدمة الإسلام وعدم إشارته إلى موضوع النص عليه أو تعيينه خليفة من بعد الرسول. وما يؤكد ذلك أيضًا هو الرواية التي وردت في كتاب سليم بن قيس الهلالي، حيث يقول الإمام عليّ في رسالة له: الواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يُقتل... أن لا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثًا ويقدموا يدًا ولا رِجلاً ولا يبدؤوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إمامًا عفيفًا عالمًا ورعًا عارفًا بالقضاء والسنَّة[2]. كما كان الإمام عليّ (ع) ينظر إلى نفسه كإنسان عادي غير معصوم، ويطالب الشيعة والمسلمين أن ينظروا إليه كذلك، ويحتفظ لنا التاريخ برائعة من روائعه التي ينقلها الكليني في الكافي، والتي يقول فيها: إني لست في نفسي بفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي، إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني[3]. وقد تابع ولدا الإمام عليّ، الحسن والحسين رضي الله عنهما، سيرة والدهما في الالتزام بمبدأ الشورى وفي عدم ادعاء أولوية أهل البيت وكذلك في عدم ادعاء العصمة[4]. وهم في ذلك إنما ساروا على نهج الرسول (ص) الذي لم يَدَّعِ العصمة لنفسه يومًا: إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وأقضي له على نحو ما أسمع، من حق له أخيه شيئًا، فلا يأخذ، فإنما أقطع له من النار[5]. ولم تكن مسألةُ عصمة الرسول المطلقة موضع بحث بين العلماء، لكن منهم من قال بعصمته عن "الكبائر" فقط وذهب آخرون إلى أن (الرسول معصوم فيما يُبَلِّغُ عن الله فقط) ومنهم من نفى أي عصمة له، مستندًا إلى الآية الكريمة: "يا أيها النبي لمَ تُحَرِّم ما أحل الله لكَ تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم"[6]. ودللوا على صحة رأيهم هذا بجملة المعاتبات الإلهية للنبي (ص)، كعتابه بشأن أسرى بدر وعتابه بشأن زواجه من زينب وعتابه في عبد الله بن أم مكتوم وغيرها، ومن منطلق أن العتاب لا يكون إلا بسبب وقوع خطأ منه (ص). النظرية الكيسانية: يسجل مؤرخو الشيعة الإمامية الأوائل (النوبختي والأشعري والقمِّي والكشي) أول تطور ظهر في صفوف الشيعة في عهد الأمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب على يد المدعو عبد الله بن سبأ الذي كان يهوديًا وأسلم، والذي يقول النوبختي عنه: إنه أولُ من شَهَر القول بفرض إمامة علي، وكان يقول في يهوديته بيوشع ابن نون وصيًا لموسى فقال كذلك في إسلامه في علي بعد رسول الله، وأظهر البراءة من أعدائه وكاشف مخالفيه وأظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة[7]. وقد أنفق المحقق الشيعي السيد مرتضى العسكري لاحقًا سنوات طويلة من عمره كي يثبت في مجلدين أو ثلاثة أن عبد الله بن سبأ أسطورة وهمية اختلقها بعض المؤرخين لكي يتهموا الشيعة بأخذ نظرية الوصية في الإمامة من الإسرائيليين، كما بذل جهودًا مضنية، ودرس عشرات الكتب التاريخية لكي ينفي قصة وجود عبد الله بن سبأ ودوره في الفكر الشيعي، لكنه لم يبذل واحدًا بالمائة أو بالألف من تلك الجهود ليبحث حقيقة وجود الإمام الثاني عشر، أو يدرس تلك الروايات التي تُحدِّثُ عن ولادته، ولم يتوقف عندها في كتاب من كتبه، وهو الذي اكتشف وجود مائة وخمسين صحابيًا مختلقًا[8]. عمومًا فقد كان القول بفرض إمامة علي ضعيفًا ومحصورًا في جماعة قليلة من الشيعة في عهده، وقد رفَضَهُ الإمام نفسه بشدة وزجر القائلين به، إلا أن ذلك التيار وجد في تَولِيَةِ معاوية لابنه يزيد من بعده أرضًا خصبة للنمو والانتشار، لكن المشكلة الرئيسية التي واجهته هي عدم تبني الإمامين الحسن والحسين له واعتزال الأمام علي بن الحسين عن السياسة، مما دفع القائلين به إلى الالتفاف حول عمِّه محمد بن الحنفية باعتباره وصيَّ أمير المؤمنين أيضًا، خاصة بعد تصديه لقيادة الشيعة في أعقاب مقتل الإمام الحسين، وقد اندس السبئية (نسبة إلى عبد الله بن سبأ) في الحركة الكيسانية (نسبة إلى كيسان، صاحب شرطة المختار) التي انطلقت للثأر من مقتل الإمام الحسين بقيادة المختار بن عبيدة الثقفي. ادعى المختار الذي كان يقود الشيعة في الكوفة أن محمد بن الحنفية قد أمره بالثأر وقتل قتلة الحسين، وأنه الإمام بعد أبيه. ولم يكن المختار يكفِّر من تقدَّم عليًا من الخلفاء كأبي بكر وعمر وعثمان، ولكنه كان يكفِّر أهل صفين وأهل الجمل[9]. بالرغم من سقوط دولة المختار بعد فترة قصيرة، إلا أن الحركة الكيسانية التي التفت حول قائدها الروحي محمد بن الحنفية، أخذت تقول "إن الإمامة في ابن الحنفية وذريته". ولما حضرت الوفاة محمد بن الحنفية ولَّى ابنه عبد الله (أبا هاشم) من بعده وأمره بطلب الخلافة إن وجد إلى ذلك سبيلاً، وأعلم الشيعة بتوليته إياهم، فأقام عبد الله بن محمد ابن علي وهو أمير الشيعة[10]. كانت هذه الأحداث السياسية المتلاحقة مفصلاً أساسيًا سجَّلت، ولأول مرة، تطور القول بالوصية، من وصية النبي (ص) العادية والشخصية إلى الإمام علي، إلى القول بالوصية السياسية منه إلى ابنه محمد بن الحنفية ومن بعده إلى ابنه أبي هاشم عبد الله، وهو ما أدى إلى اختلاف الفصائل الشيعية المتعددة فيما بينها وادعاء كل منها الوصية وحصر الشرعية فيه[11]. قرب نهاية القرن الأول الهجري خاض الإمام محمد بن علي الباقر معركة مريرة لانتزاع قيادة الشيعة من ابن عمه أبي هاشم وأتباعه وتثبيتها للفرع الفاطمي والبيت الحسيني معتمدًا في الدعوة إلى نفسه، باعتباره أولى من الجميع، للثأر من مقتل جده الإمام الحسين، وبالتالي قيادة الشيعة لتحقيق هذا الهدف. وقد أنكر عليه مسعاه عبد الله بن الحسين بن الحسن لأنه كان ينكر حصر الإمامة في البيت الحسيني ويقول: وكيف صارت الإمامة فيُولَّى الحسين دون الحسن وهما سيِّدا شباب أهل الجنة؟ وهما في الفضل سواء، ألا إن للحسن على الحسين فضلًا بالكبر، وكان الواجب أن تكون الإمامة إذًا في الأفضل[12]. لكن الباقر كان يحاجج في طرح إمامته بحق "وراثة المظلوم" وأن جده الحسين أورثه سلاح رسول الله، وأيضًا وراثته الكتب من أبيه، وهذه الأخيرة استخدمها في وجه أخيه زيد بن علي[13]. وقد انقسم شيعة ذلك الزمان بين موالٍ للباقر ولأبي هاشم ولعبد الله بن الحسين بن الحسن ووالى فريق منهم زيدًا بن علي وذهب فريق آخر لموالاة محمد بن عبد الله بن الحسن (ذي النفس الزكية) بينما ذهب آخرون وراء الإمام جعفر بن محمد الصادق. في خضم هذه الانقسامات والخلافات والصراعات المتوالية ظهر الإمام الصادق واستطاع أن يثبِّت إمامته وجدارته في قيادة الشيعة بما كان يتمتع به من خلق رفيع وعلم غزير ومحتد كريم، ولذا فلم يكن بحاجة ماسة للوصية أو الإشارة إليه لكي يتبوأ ذلك المقام الذي احتله في المجتمع والتاريخ[14]. العصر العباسي: في العام 132 للهجرة تمكن أبو العباس السفاح من إنهاء الحكم الأموي وترسيخ الدولة العباسية. وأدى ذلك إلى انسحاب العباسيين من الفكر الشيعي القديم وتعديل نظريتهم السياسية عبر إعادة صياغة مصدر الشرعية لنظامهم الوليد استنادًا على أولوية جدهم العباس بن عبد المطلب في وراثة الرسول من ابن عمه علي بن أبي طالب. وقد أكد لاحقًا المهدي محمد بن أبي جعفر المنصور ذلك بتثبيته الإمامة بعد رسول الله للعباس بن عبد المطلب و إن أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا وكل من دخل في الخلافة وادعى الإمامة بعد رسول الله غاصبون متوثبون بغير حق[15]. على هذا، وفي نهاية القرن الأول الهجري تشعبت الحركة الشيعية، التي قامت أساسًا ضد تفرد الأمويين بالحكم والخلافة، إلى عدة فرق حيث أخذ كل فريق يدعي الوصية عن أبي هاشم، مما أدى إلى حدوث صراع داخلي كبير في صفوف أهل البيت الذين انقسموا إلى عباسية وعلوية وطالبية وفاطمية وحسنية وحسينية وزيدية وجعفرية. لكن التطور الأهم الذي حصل في بدايات القرن الثاني الهجري تمثَّل في حصر الإمامة في البيت الحسيني وتعيينه في واحد منهم هو الأكبر من ولد الإمام السابق، وإثبات صفة العصمة والتعيين له من الله[16]. فلسفة العصمة: كانت فلسفة العصمة تقوم على مفهوم الإطلاق في الطاعة لوليِّ الأمر وعدم جواز أو إمكانية النسبية فيها، وذلك مثل الرد على الإمام ورفض طاعته في المعاصي والمنكرات لو أمر بها، والأخذ على يده عند ظهور فسقه وانحرافه. هذا المفهوم الذي كان الحكام الأمويين يدأبون على ترويجه ومطالبة المسلمين بطاعتهم طاعة مطلقة في الخير والشر على أساسه. وهذا ما أوقع فلاسفة الشيعة والمتكلمين في شبهة التناقض بين ضرورة طاعة الله الذي يأمر بطاعة أولي الأمر في الآية الكريمة (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)[17]، وضرورة طاعة الحكام بصورة مطلقة حتى في المعاصي والمحرمات. من هنا قال أولئك المتكلمون الإمامية بضرورة أن يكون الإمام، مطلق إمام، معصومًا من الله حتى لا يأمر بمعصية، ولا يقع المسلمون في حرج التناقض بين طاعته في ذلك وعصيان الله، أو معصيته وعصيان الله الذي يأمر بطاعته. من هذا المفهوم، أي "العصمة" ومن مفاهيم أخرى، كالأفضلية في العلم والشجاعة والسخاء وعدم جواز إمامة غير المعصوم أو الجاهل أو المفضول، وهو ما لا يوجد طريق للتعرف عليه سوى إرشاد الله إليه، يقوم الفكر الإمامي بإسقاط الشورى طريقًا لاختيار الإمام، ويحل محلها النص أو الوصية أو المعاجز الغيبية (المعجزات) التي تميز الإمام المختار من قبل الله تعالى عن غيره من البشر، ثم حصرها في الأئمة المعصومين من أهل البيت، بدءًا من الإمام علي بن أبي طالب والحسن والحسين ثم الأئمة من ذرية الحسين "الذين نصَّبهم الله تعالى قادة لخلقه إلى يوم القيامة". لكن المشكلة الكبرى التي واجهت الفلاسفة الإمامية في عملية بناء نظرية الإمامية الإلهية وتركيبها على أئمة أهل البيت تكمن في موقف أهل البيت أنفسهم من نظرية العصمة حيث كانوا يرفضونها أشد الرفض، ويصرحون أمام الجماهير بأنهم أناس عاديون قد يخطئون وقد يصيبون وأنهم ليسوا معصومين من الذنوب، ويطالبون الناس بنقدهم وإرشادهم واتخاذ موقف المعارضة منهم لو صدر منهم أي خطأ، أو أمروا بمنكر، لا سمح الله. لكن الإمامية حاولوا الالتفاف على ذلك، وقاموا بتأويل الروايات الثابتة، والنافية للعصمة، بأنها صادرة عن الأئمة في مقام التعليم لعامة الناس، أو أنها صادرة عن "تقيةٍ"، وقاموا إلى جانب ذلك برواية مجموعة من الروايات التي تدعي العصمة بصراحة وتشترطها في الإمام أو الأئمة من أهل البيت، وهي روايات ضعيفة وغامضة وغير ذات دلالة[18]. مما يجدر التنويه به كذلك أن هذه النظرية لم تكن شائعة ومعروفة في أوساط الشيعة وأهل البيت أنفسهم في القرن الأول الهجري، ولم تكن لها رائحة في المدينة، وإنما بدأت تدب تحت الأرض في الكوفة في بداية القرن الثاني، وكان المتكلمون الذي ابتدعوها يلفُّونها بستار من التقية والكتمان. ويعترف المتكلم أبو جعفر الأحول الملقب بمؤمن الطاق، الذي يُعتبر من أعمدة النظرية الأوائل، أنها كانت سرية ولم يكن يعلم بها حتى زيد بن علي، وقد فوجئ بها واستغرب أن يكون الإمام السجاد قد أخبر مؤمن الطاق ولم يخبره[19]. التقيـة: هي تفسير لظاهرة التناقض بين أقوال الأئمة من أهل البيت وسيرتهم العلنية القائمة على الشورى والعلم الطبيعي، وبين دعوى الإمامة الإلهية القائمة على النص والتعيين والعلم الإلهي الغيبي التي كان الإماميون ينسبونها إلى أهل البيت سرًا، ولما كان أهل البيت يتشددون في نفي تلك الأقوال المنسوبة إليهم كان الإماميون والباطنيون بصورة عامة يؤوِّلون كلامهم، ويتمسكون بادعاءاتهم المخالفة لهم تحت دعوى شدَّة التقية. ومن هنا كان الالتزام بمبدأ التقية ضروريًا جدًا لتمرير نظرية الإمامة وإلصاقها بأهل البيت[20]. التطور الإثني عشري: إذا ألقينا نظرة فاحصة على تاريخ الشيعة في القرنين الثاني والثالث، وتعاطفهم وتجاوبهم مع الثورات المختلفة التي كان يقودها الأئمة من أهل البيت، كثورة الإمام زيد وابنه يحيى وابنه عيسى وثورة محمد بن عبد الله (ذي النفس الزكية) وأخيه إبراهيم، وثورة الحسين شهيد فخ، وثورة محمد بن القاسم وغيرهم، لوجدنا أن عامة الشيعة وجماهيرهم كانت تلتف حول أهل البيت ولكن دون تحديد الإمامة في سلسلة معينة، أو الإيمان بالنص من الله حول واحد منهم، فضلاً عن تسلسلها في أبناء الحسن أو الحسين، أو بشكل عمودي وراثي إلى يوم القيامة؛ ولوجدنا الشيعة بصورة عامة بعيدين عن نظرية الإمامة الإلهية التي كان يقول بها بعض المتكلمين سرًا ويلصقونها بأهل البيت الذين كانوا يتبرؤون منها في الحقيقة وفي الظاهر. ولو ألقينا نظرة على تراث الإمامية خلال ذينك القرنين (الثاني والثالث) لوجدنا النظرية الإمامية مفتوحة وممتدة إلى يوم القيامة، وأنها لم تكن محصورة في عدد محدد من الأئمة، أو فترة زمنية خاصة، ومع أنها وصلت إلى طريق مسدود عند وفاة الإمام الحسن العسكري في سنة 260 للهجرة، دون أن يخلف ولدًا تستمر الإمامة فيه، ودون أن يشير أو يوصي إلى أي أحد من بعده، فقد اعتقد الذين آمنوا بوجود ولد مكتوم له، في البداية، أن الإمامة ستستمر في ذرية ذلك الولد المخفي إلى يوم القيامة، ولم يعتقدوا في البداية، أنه الإمام الأخير، وأن الأئمة إثنا عشر فقط[21]. ميلاد النظرية الإثنى عشرية: نظرًا لوصول نظرية الإمامة إلى طريق مسدود، بعد وفاة الإمام الحسن العسكري من دون ولد ظاهر، والقول بوجود ولد له في السر وغيبته عن الأنظار، وعدم ظهوره لفترة طويلة جدًا... فقد شهد القرن الرابع الهجري تطورًا جديدًا في النظرية الإمامية هو بروز الإثني عشرية، وهي نظرية حدثت في صفوف الشيعة الموسوية وخاصة الجناح المتشدد منها الذي كان يؤمن بقانون الوراثة العمودية، وتم تحديد أسماء الأئمة، وعددهم إثني عشر إمامًا، على النحو التالي: - علي بن أبي طالب: مدة إمامته 28 سنة (633-661) م. - الحسن بن علي بن أبي طالب: مدة إمامته 10 سنوات (661–669) م. - الحسين بن علي بن أبي طالب: مدة إمامته 11 سنة (669–680) م. - علي بن الحسين (زين العابدين): مدة إمامته 35 سنة (680–713) م. - محمد بن علي (الباقر): مدة إمامته 19 سنة (713–743) م. - جعفر الصادق بن محمد: مدة إمامته 34 سنة (743–765) م. - موسى بن جعفر الكاظم: مدة إمامته 35 سنة (765–799) م. - علي بن موسى الرضا: مدة إمامته 20 سنة (799–818) م. - محمد بن علي الجواد: مدة إمامته 17 سنة (818–835) م. - علي بن محمد الهادي: مدة إمامته 33 عامًا (835–868) م. - الحسن بن علي العسكري: مدة إمامته 6 سنوات (868–874) م. - محمد بن الحسن بن علي العسكري (874-...) م. وكان الهدف الأساسي من وراء ذلك إثبات وجود الإمام الثاني عشر (محمد بن الحسن بن علي العسكري)، هذا الوجود الذي كان محل شك ونقاش في صفوف الشيعة الإمامية. ولكي ينسجم عدد الأئمة السابقين مع هذه الروايات، فقد لجأ الإثنا عشريون إلى حذف الإمام زيد والإمام عبد الله الأفطح والإمام احمد بن موسى، الذين قال بإمامتهم كثير من الشيعة الإمامية الفطحية في السابق، كما رفضوا الاعتراف بإمامة جعفر بن علي الهادي، وأضافوا اسم الإمام محمد بن الحسن العسكري، ونظموا قائمة جديدة بأسماء تسعة من أولاد (ذرية) الحسين واحدًا بعد واحد، وقالوا بأن هؤلاء الأئمة قد نص عليهم الرسول وأعلن أسماءهم من قبل، وجاؤوا على ذلك بعشرات الأحاديث التي نسبوها إلى الرسول (ص) والأئمة السابقين. وقد أورد الكليني في مطلع القرن الرابع الهجري، في كتابه الكافي، سبع عشر رواية تتحدث عن الإثني عشرية، بينما ذكر الشيخ محمد بن علي الصدُّوق، بعد ذلك بنصف قرن، خمسًا وثلاثين رواية حول الموضوع في كتابه إكمال الدين، وأكملها محمد بن علي الخزَّاز، في أواخر القرن الرابع، في كتابه كفاية الأثر في النص على الأئمة الإثني عشر إلى مائتي رواية. وقد اضطرت النظرية الإثنا عشرية إلى إلغاء التاريخ الشيعي والإمامي، وإهمال قضية الغموض في النص والوصية وحيرة الإمامية في التعرف على الأمام الجديد، وتجاوز مسألة البداء التي حدثت مرتين في عهد الإمام الصادق والإمام المهدي، والادعاء بأنها كانت موجودة منذ عهد الرسول (ص)، بالرغم من اعتراف الجميع بولادة النظرية الإمامية في مطلع القرن الثاني الهجري على أيدي هشام بن الحكم ومؤمن الطاق وهشام بن سالم الجواليقي. ولقد بُنيت النظرية الإثني عشرية على أشد النظريات الإمامية تصلبًا، كتلك التي تشترط الوراثة العمودية، حتى لو كان الإمام طفلاً صغيرًا، وألقت جانبًا النظرية الإمامية المعتدلة (الفطحية) التي كانت تجيز إمامة الأخوين، إذا كان الأمام الأول عقيمًا أو كان ابنه صغيرًا، وذلك بسبب أن الإثنى عشرية نشأت بعد عصر الأئمة من أهل البيت بعشرات السنين، ولم تكن حاضرة مع الأئمة، كما كان الشيعة السابقون، لكي تتفاعل معهم وتدرك مدى قدرتهم على التفاعل في أيام الطفولة. لكن مشايخ النظرية اصطدموا بالقرآن الكريم الذي يوصي بالحَجْر على الأطفال حتى بلوغهم سن الرشد، لكنهم ردُّوا على ذلك بقولهم بأن روح القدس الموكل بالأئمة يوفِّقهم ويسددهم ويربيهم بالعلم. فلما كان بعد أربعين يومًا ردَّ الغلام وكان يمشي كأنه ابن سنتين وأن أولاد الأنبياء والأوصياء إذا كانوا أئمة ينشؤون بخلاف ما ينشأ غيرهم، وأن الصبي منا إذا كان أتى عليه شهر كان كمن أتى عليه سنة، وإن الصبي منا ليتكلم في بطن أمه ويقرأ القرآن، ويعبد ربه، وبعد الرضاع تطيعه الملائكة وتنزل عليه صباحًا ومساء. وعلى هذا، وبحسب رواية عن حليمة (عمَّة الإمام الحسن بن علي العسكري)، أنها لم تزل ترى ذلك الصبي في كل أربعين يومًا، على أن رأته رجلاً قبل مضي والده أبي محمد (الإمام العسكري) بأيام قلائل فلم تعرفه، وقالت لابن أخيها من هذا الذي تأمرني أن أجلس بين يديه؟ فقال لها "هذا ابن نرجس، وهذا خليفتي من بعدي، وعن قليل تفقدونني فاسمعي له وأطيعي"[22]. يمكن القول، عند هذا المنعطف التاريخي في منتصف القرن الثالث للهجرة، أن نظرية الإثني عشرية قد بدأت تترسخ لدى قسم من الشيعة الإمامية، متمحورة حول المفاهيم والطروحات التالية: - إقحام البعد السياسي في مسألةٍ، هي بالأصل ذات طبيعة دينية/فقهية، من حيث إعطاء دورٍ سياسي للإمام يتمثل في قيادة الأمة، بوحيٍ وتفويضٍ إلهيين، لا دور فيه للمسلمين سوى الطاعة العمياء. - إسقاط الشورى طريقًا لاختيار الإمام، وحَلَّ محلها النص أو الوصية أو المعاجز الغيبية التي تُميِّز الإمام المختار من قبل الله تعالى عن غيره من البشر (الإمامة الإلهية). لم يعد عدد الأئمة مفتوحًا إلى نهاية الزمان، وإنما تم حصرهم بإثني عشر إمامًا فقط، وتم حل إشكال الإمام الثاني عشر عن طريق افتراض وجود ابن للإمام الحادي عشر (الحسن بن علي العسكري) وهو محمد، الذي افترضت النظرية أيضًا "غيابه القسري" عبر غيبتين "الغيبة الصغرى والغيبة الكبرى" ومنحته صفة الخلود كي تبرر عودته اللاحقة، في القادم من الزمان، ليقود الأمة ويصلح حالها ويملأ الأرض قسطًا وعدلاً، واصطُلِح على تسميته كذلك بالإمام الغائب والإمام القائم والمهدي المنتظر[23]. تم اعتماد شرط الوراثة العمودية في تعيين الإمام، أي تم حصرها في الولد الأكبر لكل إمام، لكن استُثني من هذا الشرط اعتماد الحسين (الابن الأصغر للإمام علي بن أبي طالب) بدلاً عن شقيقه الأكبر الحسن، لأسباب يبدو أن لها بعدًا إثنيًا بالدرجة الأولى، من حيث أن زوجة الحسين الثانية هي "شاه زنان-أم السجاد" بنت يزدجرد آخر ملوك الفرس، التي جيء بها سبيةً بعد هزيمتهم، فزوَّجها الإمام علي بن أبي طالب إلى ابنه الحسين، وهي التي ولدت له ابنه علي بن الحسين السجاد "زين العابدين"، رابع الأئمة الإثني عشر، وبهذا تكون الإثني عشرية قد انحصرت نهائيًا بنسل الحسين من الأميرة الفارسية شاه زنان، ابنة آخر ملوكهم يزدجرد. في هذا الصدد، يقول معروف الرصافي في كتاب الشخصية المحمدية: أنهم، أي الفرس، دخلوا في الإسلام كرهًا، وأخذوا يعملون على إعادة مُلك الأكاسرة من طريق الدين، فتظاهروا بِحُبِّ عليٍّ وأولاده من أبناء الحسين، النازلين من صلب ابنه علي زين العابدين، الذي يمت بنسبه من جهة أمه إلى الأكاسرة ملوك الفرس... هذا هو أساس فكرة التشيُّع، ثم اتسعت هذه الفكرة وتشعبت بمرور الزمان، فافترق لها المسلمون إلى فرق وطوائف شتى كلهم متعادون محتربون. ونحن إذا رأينا الفارسي يتستر بستار التشيع لعلي وأولاده، فيلعن عمر بن الخطاب، الذي هو من أجَلِّ رجال النهضة العربية والإسلامية، ويبغضه أشد البغض، ويمثِّله بحمار مُعمَّم ينهال عليه بالسياط ضربًا، وباللسان شتمًا ولعنًا، كما تفعله الشيعة في بعض أعيادهم المذهبية، فلا نعجب من ذلك لأن عمر بن الخطاب على يده كان سقوط دولة الفرس...[24] - إسباغ صفة العصمة الإلهية على هؤلاء الأئمة (مبدأ العصمة) - عند هذا المنعطف، لم تكن فكرة "الإنابة" قد طرأت بعد على نظرية الإثني عشرية. نظرية الإنابه والغيبة الصغرى والغيبة الكبرى: دخل مصطلح الإنابة (النائب) في الفكر الإثني عشري كأقوى دليل حسي على إثبات وجود الإمام الثاني عشر، واعتُبر أهم دليل تاريخي على ولادته ووجوده، واستندوا في ذلك على شهادات النواب الأربعة الخاصين الذين ادَّعوا النيابة عنه في فترة الغيبة الصغرى من سنة 260 إلى سنة 329 هجرية. كان هؤلاء النواب يدَّعون مشاهدته واللقاء به وإيصال الأموال إليه ونقل الرسائل والتواقيع منه إلى المؤمنين به. كان الجيل الأول من النواب أو السفراء أو الوكلاء رجالاً من أصحاب الإمامين علي بن محمد الهادي والحسن بن علي العسكري، وكان على رأسهم عثمان بن سعيد العمري الذي كان وكيلاً للإمامين في قبض الأموال من الشيعة وإيصالها إليهما في حياتهما. أوصى عثمان بن سعيد العمري بالنيابة من بعده إلى ابنه محمد، كما أوصى محمد بالنيابة إلى الحسين بن روح النوبختي، الذي أوصى بها من بعده إلى النائب الرابع علي بن محمد السمري كوكيل عن الإمام المهدي الغائب. إلى جانب هؤلاء النواب الأربعة ادعى النيابة حوالي أربعة وعشرين رجلاً آخر من أصحاب الإمامين الهادي والعسكري، أو من أتباعهم، ومن هؤلاء من ادعى قدرته على اجتراح المعاجز والعلم بالغيب (على الرغم من تعارض ذلك مع القرآن الكريم ومع سيرة الرسول والأئمة الإثني عشر أنفسهم)، وكانوا يخرجون رسائل سرية يقولون أنها وردتهم من الإمام الغائب ويقومون باستلام الأموال والحقوق الشرعية. وكما اختلف الشيعة الإمامية حول وجود الإمام الثاني عشر، فقد اختلفوا فيما بينهم أيضًا حول صدق أولئك النواب وصحة ادعائهم بالنيابة. وفي معرض تأكيد صدق نيابتهم يقول السيد محمد باقر الصدر في كتابه بحث حول المهدي أنه ليس من المعقول أن يَكذِبَ أولئك النواب الثقات العدول في دعواهم النيابة، أو في وجود الإمام المهدي، بعد أن أجمع الشيعة على صدقهم وتقواهم. كما اعتبر بعض المحدثين السابقين كالنعماني، محمد بن أبي زينب، أن وجود أولئك النواب الخاصين الأربعة في فترة الغيبة الصغرى وانقطاعهم في فترة الغيبة الكبرى الممتدة منذ ذلك الحين إلى يوم الظهور، وانسجام الفترتين مع الروايات التي تتحدث عن وجود محمد بن الحسن العسكري (الإمام الثاني عشر) وصحة غيبته[25]. مما تقدم يتبين أن نظرية الإنابة ظهرت في البداية كوسيلة داعمة لإثبات وجود الإمام الثاني عشر وتكريس قيادته، خلال غيبته، للأمة عبر نوابه. هذه الفترة التي كان الإمام يمارس فيها قيادته للأمة من خلال نوابه، جرت تسميتها "الغيبة الصغرى"، أما بعد انقطاع تواصل الأمام مع الأمة عبر نوابه، والتي بدأت في العام 329 للهجرة ولا زالت مستمرة، فقد سميت بـ "الغيبة الكبرى". شكلت الغيبة تحديًا كبيرًا للقائلين بوجود الأمام المهدي، لذلك كان عليهم أن يفسروا "سر الغيبة"، فقدموا عدة نظريات في تفسير هذه الظاهرة المحيِّرة وهي: - نظرية الحكمة المجهولة: وفي مختصرها أن "إيماننا بعصمة الأمام المهدي يقتضي منا التسليم بوجود حكمة وراء غيبته"[26]. - نظرية التمحيص: وتقول بأن وراءها (أي الغيبة) تمحيصُ الشيعة وتمييزهم وغربلتهم من أجل التعرف على حقيقة إيمانهم بالمهدي وصبرهم على البلاء[27]. - نظرية الخوف: ومع أن هذه النظرية كانت بعيدة كل البعد عن أخلاق أهل البيت، فقد كانت أقوى نظرية في تفسير سبب الغيبة. إنه الخوف على الحياة والتقية (خلف الحسن ابنه المنتظر لدولة الحق، وكان قد أخفى مولده، وستر أمره لصعوبة الوقت وشدَّة طلب سلطان الزمان له، واجتهاده في البحث عن أمره، ولِما شاع من مذهب الإمامية فيه وعُرف من انتظارهم له، فلم يُظهر ولده في حياته ولا عرفه الجمهور بعد وفاته)[28]. أما مكان الغيبة ومدتها، فتُجمِع معظم الروايات على أنه كان في بيت أبيه في سرِّ من رأى (سامراء) عاصمة الخلافة العباسية يومذاك، وظل مقيمًا في البيت إلى أعوام طويلة حتى دهمته قوات المعتضد فغاب في السرداب. وقد بنى الخليفة العباسي الناصر بالله قبةً على ذلك السرداب، لا تزال موجودة حتى اليوم، ويزورها الشيعة من كل مكان، وهي القبة المعروفة بقبة سرداب الغيبة، في جوار قبر الإمامين الهادي والعسكري في مدينة سامراء، وكانت مدتها، بداية القول بها، تتأرجح بين أيام وشهور أو سنين لا تتجاوز عدد أصابع اليدين، بينما تقول روايات أخرى إنها ستطول حوالي ثلاثين أو أربعين عامًا. بينما قال الطوسي: ما تنكرون أن يمد الله لصاحب هذا الأمر في العمر كما مد لنوح؟ كذلك استشهد كل من الصدُّوق والطوسي بغيبات موسى بن عمران ويوسف بن يعقوب ويونس بن متَّى وأصحاب الكهف وصاحب الحمار ونوح وسلمان الفارسي والدجال ولقمان بن عاد وربيع بن ضبع ويعرب بن قحطان الذين قالوا إنهم غابوا عن أقوامهم لفترات من الزمان[29]. بهذا لم يتم تحديد مدة بذاتها للغيبة وبالتالي تم ترك تاريخ الظهور مفتوحًا دون تقييد، لكنهم قرنوا ظهوره بحدوث علائم سماوية تتعلق بتوقف حركة الأفلاك وتغير في قوانينها وركود الشمس وقت الزوال إلى وقت العصر وخروج صدر رجل ووجهه في عين الشمس ووقوع الكسوف والخسوف بصورة غير طبيعية وخروج جراد في غير أوانه وخروج العبيد عن طاعة أسيادهم وقتلهم مواليهم ونداء من السماء يسمعه أهل الأرض كلهم، كل أهل لغة بلغتهم، وأموات يُنشَرون من القبور... وامتداد طول اليوم إلى عشرة أضعاف ليكون 240 ساعة ونزول جبرائيل على القائم لمبايعته، وروايات كثيرة أخرى لا مجال لسردها هنا[30]. المهدويـة: كانت معظم قصص المهدوية في القرون الإسلامية الأولى مرتبطة ومنبثقة من حركات سياسية ثورية تتصدى لرفع الظلم الاضطهاد، وتلتف حول زعيم من الزعماء وعادة ما يكون إمامًا من أهل البيت، وعندما تفشل الحركة ويموت الإمام دون أن يظهر أو يُقتل في المعركة أو يختفي في ظروف غامضة... كان أصحابه يختلفون، فمنهم من يسلم بالأمر الواقع ويذهب للبحث عن إمام جديد ومناسبة جديدة للثورة، ومنهم من كان يرفض التسليم بالأمر الواقع، فيرفض الاعتراف بالهزيمة ويسارع لتصديق الإشاعات التي تحدث عن هروب الإمام الثائر واختفائه وغيبته، وعادة ما يكون هؤلاء من بسطاء الناس الذين يعلقون آمالاً كبيرة على شخص، أو يضخِّمون مواصفات ذلك الزعيم فيصعب عليهم التراجع لأنه كان يعني لديهم الانهيار والانسحاق النفسي. وقد ساهمت الحركات الباطنية التي كانت قد بدأت بالتشكل على هامش الفكر الشيعي في تغذية نظرية المهدوية ونشرها. ومن هذه الحركات المُخَمَّسة والمُفَوِضة والنُصيرية التي كانت قد نشأت حول الإمام علي بن محمد الهادي على يدي محمد بن نصير النصيري الذي كان من أقطاب الشيعة في البصرة. وكان هذا قد رفع الإمام الهادي إلى درجة الألوهية وادعى لنفسه مرتبة النبوة والرسالة، وكان يقول بالتناسخ. وقد التف هذا النصيري بعد وفاة الإمام الهادي حول ابنه الإمام الحسن العسكري وكان بعد وفاته من أبرز القائلين بوجود ولد له في السر، هو محمد بن الحسن العسكري وقد ادعى البابية والنيابة الخاصة عنه، ثم ادعى النبوة وأورثها إلى عدد من أصحابه[31]. على هذا يمكن القول بأن هوية المهدي كانت غامضة وغير محددة في حياة أهل البيت، وأن القول بأنه ابن الحسن العسكري نشأ بعد افتراض وجوده في السر، وفي محاولة لتفسير غيبته عن الأنظار وعدم إعلان أبيه عن ولادته، باعتبار الغيبة صفة من صفات المهدي. إضافة إلى ذلك، يمكن التأكيد، إذا استثنينا شرذمة قليلة، على أن إجماع الشيعة في القرن الثالث والقرن الرابع كان قائمًا على عدم الإيمان بوجود محمد بن الحسن العسكري، وقد ذكر ذلك عامة مؤرخي الشيعة كالنوبختي والأشعري والكليني والنعماني والصدُّوق والمفيد والطوسي، الذين أطلقوا على ذلك العصر اسم "عصر الحيرة"[32]. نظرية الانتظار: من الجدير بالذكر أن نظرية الغيبة تتعارض مع فلسفة الإمامة الإلهية نفسها التي تقول بأنه لا يجوز أن تخلو الأرض من إمام، أي من حكومة ودولة، وأن الإمام، أي الرئيس أو الخليفة أو القائد الأعلى يجب أن يكون معصومًا ومعينًا من قبل الله، وأن الشورى باطلة ولا يجوز انتخاب الإمام من قبل الأمة وأن الإمامة تتسلسل بشكل وراثي عمودي في ذرية علي والحسين إلى يوم القيامة. لكن السؤال الكبير الذي فرض نفسه هو: إذا كانت الإمامة محصورة في هذا الشخص، ولا تجوز لغيره من الناس العاديين، فلماذا يغيب ويختفي ولا يظهر ليقود الشيعة والمسلمين ويؤسس الحكومة الإسلامية التي لا بد منها؟ ما دام أن الأرض لا يجوز أن تخلو من إمام، والإمام الغائب لا يمكن أن يمارس إمامته وقيادته للناس؟ وما هو السر في الغيبة؟ وإلى متى يغيب؟ وما هو واجب الشيعة في حالة الغيبة؟ لقد كانت النتيجة الطبيعية واللازمة لذلك هي نظرية الانتظار، وتحريم النشاط السياسي في عصر الغيبة، وهي النظرية التي سادت قرونًا طويلة من الزمن، ولا تزال بعض آثارها مستمرة، بالرغم من القول بنظرية النيابة العامة وولاية الفقيه، حيث انتهت نظرية المتكلمين المثالية إلى غيبوبة الشيعة عن الحياة وافتقادهم للإمامة، لعدم ظهور الأمام المعصوم. وهذا ما شكَّل تناقضًا صارخًا مع فلسفة الإمامة التي تقول بوجود الإمام في الأرض ووجوب كونه معصومًا، وكما وجوب تعيين الله له في كل زمان ومكان لتطبيق الشريعة الإسلامية وقيادة المسلمين والإفتاء لهم وحل مشاكلهم التشريعية[33]. ونتيجة لتأثر الفكر السياسي الشيعي بنظرية الإمام المهدي، فقد اتسم موقفهم لقرون طويلة بالسلبية المطلقة وتحريم العمل السياسي أو السعي إلى إقامة الدولة الإسلامية في عصر الغيبة وأصروا على التمسك بموقف الانتظار حتى خروج المهدي الغائب، في الوقت الذي كان فيه الشيعة الزيدية والاسماعيلية يؤسسون دولاً في اليمن وشمالي إفريقيا وطبرستان. لقد كانت نظرية الانتظار للإمام الغائب، بمعناها السلبي المطلق، تشكل الوجه الآخر للإيمان بوجود الإمام المعصوم، ولازمة من لوازمها. وقد استتبع ذلك رفض علماء الإثني عشرية، الذين التزموا بنظرية التقية والانتظار، أيَّ بديل للإمام المعصوم الغائب حتى لو كان فقيهًا عادلاً لأنهم كانوا يحرِّمون الاجتهاد والعمل بالقياس والأدلة الظنية ويشترطون حصول العلم اليقين بأحكام الدين من أهل البيت عبر الأخبار الواردة عنهم، وهذا ما أدى إلى حدوث أزمة في التشريع، واشتدت هذه الأزمة مع انقطاع أي اتصال بالإمام الغائب في ظل الغيبة الكبرى. وقد استتبع هذا الأمر تحريمهم لتطبيق قانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولإقامة الحدود، كما وتحريم الجهاد في عصر الغيبة وعدم جواز تحصيل الزكاة والخمس والأنفال والخراج وحصروها بالجوانب الشخصية والإنسانية، دون تدخل من جانب الدولة. كما كان هناك نوع من التحريم لحضور صلاة الجمعة لأن "إقامة الصلاة من مناصب الإمامة التي لا يجوز لغير الإمام إقامتها"[34]. الموقف السلبي من ولاية الفقيه: وكان من البديهي أيضًا بعد قول الإمامية بحرمة الاجتهاد في ظل الغيبة، أن يتخذوا موقفًا سلبيًا من نظرية ولاية الفقيه، وذلك لفقدان شرط العلم الإلهي في العلماء والمجتهدين. لكن بعض العلماء قد مال، منذ بداية القرن الخامس الهجري، إلى فتح باب الاجتهاد شيئًا فشيئًا، لكن الموقف العام للعلماء الأوائل، وربما لبعض العلماء حتى اليوم، ظل سلبيًا من مسألة ولاية الفقيه وقيام الفقهاء بتشكيل الدولة في عصر الغيبة، وبما أن الفكر الإمامي القديم كان إخباريًا ويرفض الاجتهاد، فقد رفض نظرية ولاية الفقيه لأنها تقوم على الاجتهاد، والاجتهاد من مختصات الأئمة المعصومين. وقد كان موقفهم هذا ينبني على أمرين: - الأول: هو الإيمان باشتراط العصمة والعلم الإلهي والنص في الإمام (أي الحاكم أو الرئيس) والإيمان بوجود الإمام المعصوم العامل المنصوص عليه من قبل الله وغيبته (المهدي المنتظر محمد بن الحسن العسكري). - الثاني: الإيمان بحرمة الاجتهاد وحرمة تصدي غير المعصوم المعين من قبل الله للأمور السياسية[35]. لكن بعد مرور مدة طويلة على انقطاع الاتصال بـ "مصدر العلم الإلهي" وحدوث مسائل جديدة تستوجب الإجابة عليها، بدأ موقف الإمامية من الاجتهاد يتطور واضطروا لفتح باب الاجتهاد بالتدريج والقول بجواز القياس، وكان أول من قال بذلك، في أواسط القرن الرابع هو الحسن بن عقيل العماني، المعاصر للكليني، الذي يصفه الشيخ عباس القمِّي بأنه أول من هذَّب الفقه. ثم تبعه السيد المرتضى (توفي عام 330 هجرية)، ثم محمد بن الحسن الطوسي (توفي عام 440 هجرية). ثم جاء الشيخ محمد بن إدريس الحلِّي (543 – 598) وتبعه المحقق الحلِّي جعفر ين الحسن (602 – 676)، وتلاهم آخرون. نظرية النيابة العامة المحدودة: كما أسلفنا، فقد بدأ علماء الشيعة يتراجعون شيئًا فشيئًا عن مجمل "المحرمات" التي سنَّها أسلافهم واتسعت دائرة الاجتهاد مع الوقت، وشمل ذلك قضايا إقامة الحدود والجهاد وتحصيل الزكاة والخمس والأنفال والخراج وإيجاب صلاة الجمعة...، عبر محاولات متفرقة ومتدرجة بابًا بابًا وجزءًا فجزءًا، لكنها لم تَرْقَ لمعالجة المشكلة من جذورها، حيث لم تبحث موضوع الإمامة والغيبة. ومع ذلك فقد حاول العلماء تطوير نظرية سياسية بديلة عن الإمامة والإمام المهدي وذلك بافتراض النيابة الواقعية أو الحقيقية عن الإمام الغائب، عندما يأمر حاكم جائر أحدًا بتنفيذ الحدود. وقد تطورت هذه النظرية البسيطة في بداية القرن الخامس الهجري لتصبح نظرية سياسية متكاملة في نهاية القرن الرابع عشر تحت اسم ولاية الفقيه[36]. وبينما كانت نظرية النيابة العامة تنمو ببطء وبصورة جزئية ومحدودة على أيدي علماء الحلَّة وجبل عامل خلال القرنين السابع والثامن الهجريين، انفجرت ثورة السربدارية في نيسابور وأقامت دولة استمرت خمسين عامًا بين عامي 738 و782، كما قام الشيعة بتأسيس دولة لهم في مازندران وخوزستان وجنوب العراق. الدولة الصفوية: انفجرت حركة جديدة في تبريز على أيدي الصفويين، وهم حركة صوفية تركمانية تحولت إلى التشيع، بقيادة شاب صغير لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، اسمه اسماعيل ابن صفي الدين بن حيدر، الذي أعلن قيام الدولة الصفوية في مطلع القرن العاشر الهجري. وعندما أراد الصفويون التحرك العسكري لإقامة دولة خاصة بهم، وجدوا نظرية الانتظار غير معقولة ولا واقعية، وتشكل حجر عثرة أمام طموحاتهم، وبالرغم من أنهم كانوا منذ فترة قد أعلنوا التمسك بالمذهب الإمامي الإثني عشري، إلا أنهم في الحقيقة لم يستوعبوا نظرية الإمامة الإلهية التي تشترط العصمة والنص في الإمام، فقاموا بتحويلها إلى نظرية تاريخية ورفضوها عمليًا، حيث أجازوا لزعمائهم، وهم غير معصومين ولا منصوص عليهم من الله، أن يستولوا على المُلك ويقوموا بمهام الإمامة كما فعل الأمويون والعباسيون والعثمانيون ولم يصعب عليهم الالتفاف على نظرية الانتظار وتجاوزها. حاولت الدولة الصفوية تقديم نفسها كدولة عقائدية، مرتبطة بالأئمة الإثني عشر بصورة روحية غيبية، وكانت تشكل تطورًا انقلابيًا في الفكر السياسي الشيعي، نقل الشيعة من نظرية الانتظار السلبية الانعزالية إلى سدة الحكم والسلطنة. وقد طوَّر الشاه اسماعيل، أو تطور على يديه، فكر سياسي جديد حاول الالتفاف على فكر التقية والانتظار، فادعى يومًا أنه أخذ إجازة من صاحب الزمان، المهدي المنتظر، بالثورة والخروج ضد أمراء التركمان الذين كانوا يحكمون إيران، ثم أحضر القزلباشية وحاصر جامع تبريز ذات جمعة وأعلن سيادة المذهب الإمامي الإثني عشري، وقيام الدولة الصفوية، وذلك بناء على دعويين، دعوى الوكالة الخاصة (الإجازة) عن الإمام المهدي، ودعوى رؤية الإمام علي في المنام. وقد أتاحت هاتان الدعويان للحركة الصوفية الصفوية أن تتحرر من نظرية التقية والانتظار، وتأسيس الدولة الصفوية الإثني عشرية. وقد اعتمدوا كذلك على فكرة الحق الإلهي للملوك الإيرانيين قَبْلَ الإسلام، ومن ثم بوراثة هذا الحق باعتبارهم "سادة" وأن جدَّهم الإمام الحسين بن علي قد تزوج بنت يزدجرد فأولدها الإمام زين العابدين، فاجتمع الحقَّان، حق أهل البيت في الخلافة (حسب النظرية الإمامية)، وحق الملوك الإيرانيين فيهم، بالإضافة إلى نيابة الإمام المهدي. بناء على ذلك اعتبر الشاه اسماعيل نفسه "نائب الله وخليفة الرسول والأئمة الإثني عشر وممثل الإمام المهدي في غيبته". وكان جنود القزلباش الصوفية يعتقدون أنه تجسيد لله. وقد ساعدت الأرضية الصوفية للحركة الصفوية الشاه اسماعيل على ادعاء الكشف والارتباط الشخصي بالأئمة المعصومين وأخذ التعليمات المباشرة منهم، وهو ما أعطاه سلطة دينية ودنيوية مطلقة. امتدت نظرية نيابة السلاطين عن المهدي إلى ما بعد سقوط الدولة الصفوية، الذي تم على أيدي العثمانيين. ما تجدر ملاحظته أن الملوك الصفويين لم يكونوا يلتزمون بصورة عامة، ما عدا بعضهم، بالشريعة الإسلامية، فكانوا يشربون الخمر ويرتكبون المحرمات كما يحلو لهم، وكان حكمهم لا يختلف عن أي حكم ديكتاتوري طغياني فاسد. وقد غطت الدولة الصفوية على تناقضها الكبير هذا، وانقلابها على التشيُّع بجملة طقوس وشعارات متطرفة أساءت إلى الشيعة والتشيُّع عبر التاريخ كسبِّ وشتم الخلفاء الثلاثة على المنابر وفي الشوارع وإقحام الشهادة الثالثة (أشهد أن عليًا ولي الله) في الأذان، وهو ما كان علماء الشيعة قد رفضوه بشدة عندما قال به بعض المتطرفين في القرن الرابع الهجري. كما تطرفوا أيضًا في إحياء الشعائر الحسينية من العزاء واللطم والأعلام والأبواق وصنع التربة للسجود في الصلاة. وكان أسوأ عمل قام به الصفويون هو إجبار الناس على التحول بالقوة إلى المذهب الإثني عشري وقتل الألوف من الناس والعلماء من المذاهب الأخرى، الأمر الذي أدى إلى ردة فعل عنيفة من قبل الدولة العثمانية وإبادة الكثير من الشيعة هنا وهناك والتسبب في تمزيق الوحدة الإسلامية وزرع الأحقاد الطائفية بين الشيعة والسنة، منذ ذلك الحين إلى اليوم. استهوت التجربة الصفوية في بدايتها الشيعة المضطهدين في العراق وجبل عامل والبحرين، وذهب العلماء ليدعموا تأسيس الدولة الشيعية الوليدة. لكن بعضهم انكفأ راجعًا إلى النجف وأنكر على الشاه اسماعيل دعاوى النيابة الخاصة عن الإمام المهدي. وكان أحد هؤلاء العلماء هو الشيخ المحقق علي بن الحسين بن عبد العالي الكركيِّ من جبل عامل، الذي ذهب إلى إيران وعاد منها سنة 916 للهجرة، وجلس في الحوزة العلمية في النجف ليطور نظرية النيابة العامة للفقهاء عن الإمام المهدي، التي كانت، حتى ذلك الحين، نظرية جزئية محدودة غير سياسية، إلى نظرية سياسية متقدمة، متأثرًا بقيام الدولة الصفوية وزوال ظروف التقية. وجزم بأن للفقهاء حال الغيبة إقامة الحدود وأجاز للفقيه الجامع للشرائط تولي القتل والجرح إذا تطلبهما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأصدر عدة فتاوى أخرى عززت موقع العلماء في الدولة الصفوية، لكنه سلب منها الشرعية الدستورية بعد أن حصرها بيد الفقهاء الأمناء، نواب الإمام المهدي العامين، رافضًا الاعتراف بادعاءات الشاه اسماعيل بالنيابة الخاصة عن طريق اللقاء السري بالإمام المهدي أو الإمام علي في المنام، دون أن يصرح بذلك. عمومًا فقد ظلت مسألة النيابة الخاصة محصورة بالفقهاء ولم يسلِّموا أمرها إلى ملوك الدولة الصفوية الذين أعقبوا اسماعيل (ولده طهماسب وحفيده اسماعيل الثاني). ومع ذلك، فإن نظرية إجازة الملوك أو التحالف بين الفقهاء والملوك، لم تمنح نظام الحكم الشرعية الكاملة، حيث ظل الفقهاء يعتبرون الملوك غاصبين لحق الإمامة الخاص بالأئمة المعصومين المعينين من قبل الله، وظل عامة الفقهاء، حتى الذين تعاونوا مع الدولة متأثرين بنظرية التقية والانتظار، في جوانب عديدة. وهذا ما أدى لاحقًا إلى تطورات مختلفة لدى الفقهاء والملوك من أجل تطوير الفكر السياسي، وحل "عقدة الشرعية" المزمنة في الفكر السياسي الشيعي في ظل الغيبة[37]. نظرية المرجعية الدينية: لقي تحالف الشيخ الكركي مع الدولة الصفوية معارضة شديدة من قبل عدد كبير من العلماء كالشهيد الثاني والمقدس الأردبيلي والشيخ إبراهيم القطيفي والملا محمد أمين الأسترابادي والملا محمد طاهر القمِّي وغيرهم من الفقهاء، وذلك لأن نظرية النيابة العامة لم تكن قد تطورت لتحل محل نظرية الإمامة الإلهية وإنما كانت محدودة وجزئية، وتقتصر على الفتيا (الإفتاء) وتنفيذ بعض الأمور الاجتماعية والعبادية. ومنذ ذلك الحين، وإلى اليوم، ظل العلماء يتأرجحون بين نظرية الانتظار والنيابة العامة، ويمارسون أدوارًا اجتماعية وشبه سياسية، فيما عرف باسم المرجعية الدينية التي لا تصل إلى مستوى الولاية العامة. وقد أدى قيام الدولة الصفوية، في القرن العاشر الهجري، وتطوير نظرية النيابة العامة إلى نظرية سياسية على يدي المحقق الكركيِّ الذي فتح الباب أمام الفقهاء الشيعة لمنح الملوك الصفويين، ومن ثم القاجاريين، في إيران إجازة شرعية والحكم بالوكالة عن نائب الإمام المهدي، الفقيه العادل... أدى ذلك إلى حدوث انشقاق عميق وعنيف في المجتمع الشيعي الإمامي الإثني عشري، وهو ما عرف بالصراع الإخباري-الأصولي الذي امتد عدة قرون. لم يكن هذا الصراع يدور حول أمر جزئي بسيط إنما كان يتعلق بأمر أساسي، يدخل في موضوع الهوية العقائدية. وكان في حقيقته صراعًا بين المحافظين والمجددين. بين الخط الإمامي المتمسك بنظرية الانتظار بالتحديد، وبين الخط الشيعي المتحرر من شروط الإمامة المتصلبة، كالعصمة والنص، والمتحرر من نظرية الانتظار. وعندما قام العلماء المتأخرون، كالمحقق الكركيِّ، بالقول بنظرية النيابة العامة السياسية اعتبر الإخباريون (الإماميون) العمل السياسي وإقامة الدولة وممارسة مهامها اغتصابًا لسلطات وصلاحيات الإمام المعصوم، وتهديمًا للركن الأساسي من أركان نظرية الإمامة الإلهية وهو التنفيذ. كانت معارضة الإخباريين مرتكزة على قاعدة نظرية الإمامة التي تحرِّم التشريع والتنفيذ خارج دائرة الأمام المعصوم، وكان الإخباريون يعتبرون المجتهدين وأصحاب نظرية النيابة العامة أو ولاية الفقيه خارجين من دين الإمامة حسبما يقول الشيخ الصدُّوق[38]. نظرية ولاية الفقيه: بعد تطوير المحقق الكركيِّ لنظرية النيابة العامة إلى مرحلة سياسية متقدمة وإعطائه الشاه طهماسب بن اسماعيل وكالة للحكم باسم نائب الإمام (الفقيه العادل)، استمرت نظرية الفقهاء العامة في أداء دورها السياسي، إلى جانب الملوك الصفويين، ونظريتهم الخاصة (النيابة الملكية بصورة عامة)..وإن كانت في بعض الأحيان تشهد تراجعًا لدى العلماء الذين ينكفئون إلى نظرية التقية والانتظار، أو الملوك الذين يتمردون على هيمنة العلماء. أدى انهيار الدولة الصفوية في القرن الثاني عشر للهجرة إلى استفحال المد الإخباري وانتشار القول بنظرية الانتظار وحرمة الاجتهاد والتقليد... لكن شهد القرن الثالث عشر انتعاش المد الأصولي وقيام العلماء هنا وهناك بتطبيق الحدود وممارسة القضاء والإفتاء وتولي أمور الرعية والتصرف بأموال اليتامى وتقسيم الخمس وممارسة المهمات الأخرى للحكومة. وكان هذا دليلاً على تطور نظرية النيابة العامة، من إجازة الملوك إلى تصدي الفقهاء بأنفسهم للحكم وتجاوز نظرية الانتظار، بل والتخلي عنها تمامًا، الأمر الذي دفع الشيخ أحمد بن محمد مهدي النراقي (توفي 1245 هجرية) إلى تأليف كتاب عوائد الأيام في بيان قواعد الأحكام وطرح النظرية في إطار جديد وشامل أكثر تطورًا، تحت عنوان "ولاية الفقيه" وليس تحت العنوان السابق "النيابة العامة" القائمة على قاعدة نظرية الغيبة والانتظار، حيث نظر النراقيُّ إلى واقع قيام الفقهاء بتشكيل حكومات لامركزية في بلاد شيعية واسعة، مما ينفي أدنى مبرر لاستمرار نظرية التقية والانتظار، أو القول المحدود الاستثنائي بقيام الفقهاء بتغطية بعض الجوانب الجزئية من الحياة، وبحث مشكلة الإمامة أو السلطة والولاية العامة وضرورتها في عصر الغيبة، وذلك على نفس الأسس الفلسفية والمبادئ التي توجب الإمامة للأئمة المعصومين. لم يتوقف النراقيُّ، وهو يؤسس لشرعية ولاية الفقيه الكبرى التي تضاهي الإمامة العامة الكبرى، عند شروط العصمة والنص والسلالة العلوية والحسينية، التي نادت بها الأجيال الشيعية الإمامية الأولى، وخاصة بعد الحيرة التي أعقبت وفاة الإمام محمد بن الحسن العسكري، ثم أدت بهم إلى القول بنظرية التقية والانتظار التي كانت تحرِّم الثورة والإمامة والجهاد والحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر...، وما إلى ذلك في عصر الغيبة. وقام النراقيُّ بإعطاء الفقهاء منصب الإمامة الكبرى ومسؤولياتها العامة، وقال بصراحة: كل ما كان للنبي والإمام فيه الولاية، وكان لهم، فللفقيه أيضًا ذلك، إلا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما. وقد كانت نظرية الشيخ النراقي تتألف من قسمين هما، أولاً: ضرورة الإمامة في عصر الغيبة، وثانيًا: حصر الإمامة في الفقهاء، وغني عن القول أن قسمها الأول يرفض القبول بنظرية الغيبة، وفائدة الإمام الغائب كإمام، ويحتِّم استمرار الإمامة، ويؤكد الحاجة الملحة لوجود الإمام الحجَّة العالم المعلِّم الهادي، والداعي إلى سبيل الله بصورة ظاهرة متفاعلة مع الأمة. ولما كانت نظرية الإمامة أو وجود الإمام الثاني عشر الغائب تعجز عن تلبية حاجة الأمة المستمرة للإمام، فإن النراقي يتخلى، مضطرًا، عن اشتراط العصمة والنص والسلالة العلوية في الإمام. من هنا تعتبر نظرية النراقي حول ولاية الفقيه تطورًا جذريًا في الفكر الشيعي السياسي، نحو التحرر من نظرية الإمامة الإلهية، أكثر من التحرر من نظرية التقية والانتظار. تعرضت نظرية ولاية الفقيه منذ ذلك الحين إلى مناقشات حامية من قبل عدد من العلماء والمحققين، لكنها نجحت في طرح موضوع الإمامة على بساط البحث، وقام بعضهم، كالشيخ محمد حسن النجفي والشيخ رضا الهمداني والشيخ محمد حسن النائيني والشيخ محمد رضا الكلبايكاني، ببحث المسألة في ضوء الحاجة الماسة إلى الإمامة والقيادة العامة في عصر الإمام الذي لا يقوم بمهام الإمامة. لكن معظمهم شكك بشموليتها لكل المسائل التي كانت مَنوطة بالإمام الغائب، المهدي المنتظر. رغم أن العلماء لم يحسموا رأيهم في نظرية ولاية الفقيه، لكنهم كانوا قد بدؤوا يحتلون موقعًا قياديًا عظيمًا في أوساط الشعب الإيراني، والشيعة عمومًا، حسب نظرية المرجعية والتقليد، فقد كان الشيعة ينظرون إلى المرجع بوصفه "نائبًا للإمام المهدي" ويحترمون فتاواه وأوامره وتعاليمه بدرجة فائقة. وقد كان لهم الدور الحاسم في اضطرار الشاه ناصر الدين إلى إلغاء الامتياز الذي كان قد منحه إلى شركة بريطانية حول حصر بيع وشراء التنباك في بلاده دون استشارة أحد وعدم أخذ رأي الشعب الإيراني ولا العلماء الذين كان يدَّعي الولاء لهم. ثم قام الشاه، بعد إلغاء الامتياز بدعوة العلماء إلى طهران من النجف والتعهد لهم بالاستشارة معهم في المستقبل في جميع الأمور. وقد فتحت هذه المواجهة بين العلماء والشعب الإيراني من جهة، والملك القاجاري ناصر الدين شاه (1848-1896) م من جهة أخرى، ملف شرعية الملكية المستبدة في إيران، وقامت حركة جديدة متواصلة من أجل تطوير النظام السياسي الإيراني وإصلاحه وبناء الديموقراطية وتحديد صلاحيات الملك المطلقة بمجلس شورى (برلمان) منتخب من الشعب وطالبوا أن يحكم الملك حكمًا دستوريًا، مشروطًا بالبرلمان. كان الفكر السياسي الشيعي، في هذه المرحلة، واقعيًا ومتطلعًا نحو الأفضل في تعامله مع مسألة السلطة، فبعد تخليه عن نظرية الإمامة الإلهية المثالية، التي لم يكن لها وجود في الخارج، ورفضه لوليدتها ولازمتها "نظرية الانتظار للإمام الغائب"، انطلق الفكر الشيعي الذي كان قد قَبِل بمبدأ قيام الدولة في عصر الغيبة منذ العهد الصفوي... انطلق ليطور نظرية السلطة والدولة ويُشرك العلماء ونواب الشعب في إدارة البلاد. إثر ذلك قامت، بناء على تلك النظرية (نظرية الديموقراطية الإسلامية)، وفي سنة 1905 م، حركة للمطالبة بالديموقراطية وتحديد صلاحيات السلطان، حيث جرت مظاهرات واعتصامات وإضرابات، خصوصًا في طهران بقيادة السيد محمد طباطبائي والسيد عبد الله البهبهاني، إلى أن استطاعت أن تجبر الشاه مظفر الدين على إعلان الانتخابات وإنشاء مجلس الشورى بعد ذلك بسنة واحدة، بل كان هنالك من ينادي باستبدال النظام الملكي بالنظام الجمهوري، كالسيد جمال الدين الأصفهاني الذي أعلن، خلال الثورة ضد مظفر الدين عام 1905، أن نظام الحكم الأقرب للإسلام هو النظام الجمهوري، وأيد ذلك بآيات من القرآن الكريم. وقد مثَّل هذا المجلس، والحركة الدستورية عمومًا، تطورًا في الفكر السياسي الشيعي، قائمًا على نظرية النيابة العامة والإجازة المشروطة للملوك والحكام بالحكم من خلال مجلس الشورى والالتزام بالدستور. وقد أصبح دستور 1906 أساسًا لنظام الجمهورية الإسلامية الذي قام سنة 1979 م، واستبدل الملك برئيس الجمهورية وأعطى للفقيه الوليِّ صلاحيات أكبر بكثير من ذلك، استنادًا إلى نظرية ولاية الفقيه[39]. الجمهورية الإسلامية وولاية الفقيه المطلقة: لم تصمد نظرية الحكم الملكي الدستوري التي أقامها الفقهاء الشيعة في إيران طويلاً، فسرعان ما قامت الحرب العالمية الأولى، واحتلت القوات الروسية أجزاء واسعة من إيران، ممهدة الطريق أمام الشاه رضا بهلوي الذي أطاح بحكم الشاه القاجاري أحمد ونصَّب نفسه ملكًا على إيران دون أن يأخذ أي إذن من الفقهاء والمراجع، بل قاد حملة شعواء ضد رجال الدين وأصبح هو وابنه محمد رضا بهلوي وكيلين عن القوى الغربية، وهذا ما دفع الفقهاء والمراجع إلى مقاومتهما بشدة. وفي سنة 1963 قاد الإمام الخميني انتفاضة ضد الشاه محمد رضا، انتهت بتسفير الإمام إلى العراق... وهناك راح يلقي دروسه على طلبته ويطوِّر نظرية سياسية جديدة تجمع بين نظرية النيابة العامة للفقهاء عن الإمام المهدي الغائب، ونظرية ولاية الفقيه. ونقل الفكر السياسي الشيعي من مرحلة إجازة الفقهاء للملوك للحكم باسمهم ووكالةً عنهم، إلى مرحلة جديدة هي حكم الفقهاء المباشر، وممارسة مهمات الإمامة بصورة كاملة. وقد شكَّلت تلك الدروس التي ألقاها الإمام الخميني، عام 1969، القاعدة الفكرية التي قامت عليها الثورة الإسلامية العارمة التي قادها بنفسه بعد ذلك بعشر سنوات، وانتهت بتشكيل الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ومن أهم الأفكار التي وردت في نظرية الإمام الخميني، والتي تجاوزت كل النظريات الشيعية السابقة: - نقد نظرية الانتظار: حيث رفضها رفضًا مطلقًا وأسقط الأحاديث التي كانت تعتبر "متواترة" حولها. - ضرورة الإمامة في عصر الغيبة: منطلقًا من مقولة أن غيبة وليِّ الأمر قد تطول إلى آلاف السنين، وعلمها عند الله. - الفقهاء هم الولاة: بعد إثباته للحاجة المستمرة إلى الإمامة في عصر الغيبة، وعدم جواز تجميدها انتظارًا للإمام المهديّ، كان لزامًا علينا تشكيل الحكومة الإسلامية. وبالرغم من عدم وجود نصٍ على شخصِ من ينوب عن الإمام حال غيبته، إلا أن خصائص الحاكم الشرعي لا يزال يُعتبر توفرها في أي شخص مؤهلاً إياه ليحكم في الناس، وهذه الخصائص التي هي عبارة عن العلم بالقانون والعدالة موجودة في فقهائنا في هذا العصر... فكما لا تقوم الرعية إلا بالجنود، فكذلك لا يقوم الإسلام إلا بالفقهاء الذين هم حصون الإسلام. فالفقهاء هم أمناء الرسل وحصون الإسلام لهذه الخصوصية وغيرها، وهو عبارة عن الولاية المطلقة. وعليه، يرجع أمر الولاية إلى الفقيه العادل، وهو الذي يصلح لولاية المسلمين إذ يجب أن يكون الوالي متَّصفًا بالفقه والعدل. - وتحدث الإمام الخميني عن التشابه بين الفقيه والإمام المعصوم فقال: "للفقيه العادل جميع ما للرسول والأئمة، مما يرجع إلى الحكومة والسياسة، ولا يعقل الفرق، لأن الوالي، أي شخص كان، هو مُجري أحكام الشريعة والمقيم للحدود الإلهية، والأخذ للخراج وسائر الماليات والتصرف فيها بما هو صلاح المسلمين. ومع اقتضاء المصالح يأمرون الناس بالأوامر التي للوالي ويجب إطاعتهم. فولاية الفقيه، بعد تصور أطراف القضية، ليست أمرًا نظريًا يحتاج إلى برهان، ومع ذلك دلَّت عليها بهذا المعنى الواسع روايات. واعتبر الإمام الخميني الفقهاء أوصياء للرسول من بعد الأئمة وفي حال غيابهم، وقد كُلِّفوا بجميع ما كُلّف الأئمة بالقيام به. وقال أيضًا: يظهر أن القضاء للإمام والرئيس العادل، ولما ثبت كون القضاء للفقيه ثبت أنه للرئيس والوصي، واعتبر كذلك أن الفقهاء خلفاء للرسول. - الأدلة النقلية: استدل الإمام الخميني على كون الفقهاء كالأئمة من أهل البيت بعدة أحاديث منسوبة إلى الإمام المهدي. واستنتج من كل ذلك قائلاً: "فحينئذ إذا ثبت شيء للرسول ثبت للفقيه بالوراثة، كوجوب الإطاعة ونحوها، فلا شبهة من هذه الجهة، لكن كما أن الرسول الأعظم جعل الأئمة خلفاء ونصَّبهم للخلافة على الحق أجمعين، جعل الفقهاء خلفاء ونصَّبهم للخلافة الجزئية". وأكمل قائلاً: "فتَحصَّل مما مرَّ ثبوت الولاية للفقهاء من قبل المعصومين في جميع ما ثبت لهم الولاية فيه، من جهة كونهم سلطانًا على الأمة، ولا بد في الإخراج عن هذه الكلِّية في مورد من دلالة دالٍّ على اختصاصه بالإمام المعصوم... فإنه يثبت مثل ذلك للفقهاء العدول بالأدلة المتقدمة". - الولاية الإلهية: كان الإمام الخميني يؤمن نتيجة لتلك الروايات أن ولاية الفقيه ولاية دينية إلهية "إن الله جعل الرسول وليًا للمؤمنين جميعًا، ومن بعده كان الإمام وليًا ونفس هذه الولاية والحاكمية موجودة لدى الفقيه، وإن الفقهاء في الولاية متساوون من ناحية الأهلية... وينبغي أن يعملوا فرادى ومجتمعين من أجل إقامة حكومة شرعية. وفي حالة عدم إمكان تشكيل تلك الحكومة، فالولاية لا تسقط لأن الفقهاء قد ولاَّهم الله. - وقد حصر الحق في إقامة الدولة في عصر الغيبة، في الفقهاء فقط، ويقول: "الفقهاء العدول وحدهم المؤهلون لتنفيذ أحكام الإسلام وإقرار نُظُمه، وإقامة حدود الله وحراسة ثغور المسلمين، وقد فوِّض إليهم وائتمنوهم على ما اؤتمنوا عليه. - حدود ولاية الفقيه: وقد حدَّدها كما يلي: "على ذلك يكون الفقيه في عصر الغيبة وليًا للأمر، ولجميع ما كان الإمام وليًا له. وإن للفقيه جميع ما للإمام إلا إذا قام الدليل على أن الثابت له ليس من جهة ولايته وسلطنته، بل لجهات شخصية تشريفًا له، أو دلَّ الدليل على أن الشيء الفلاني، وإن كان من شؤون الحكومة والسلطنة، لكن يختص بالإمام ولا يتعدى منه كما اشتهر ذلك في الجهاد غير الدفاع، وإن كان فيه بحث وتأمل". وقال أيضًا: "إذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل فإنه يلي من أمر المجتمع ما كان يليه النبي منهم، ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا ويملك هذا الحاكم من أمر الإدارة والرعاية والسياسة للناس ما كان يملكه الرسول وأمير المؤمنين على ما يمتاز به الرسول والإمام من فضائل ومناقب خاصة". - أزمة التزاحم بين الفقهاء: بناء على نظرية الجعل الإلهي، ونصب الفقهاء من قبل الأئمة ولاة على الناس، وحق جميع الفقهاء بالتصدي السياسي والقيام بشؤون الولاية، ونظرًا لإمكان الوقوع في أزمة فيما إذا قام الفقهاء جميعًا في وقت واحد، بممارسة حقهم السياسي، وصلاحيتهم في الولاية، واحتمال تزاحمهم وتصادمهم، يعقد الإمام الخميني فصلاً خاصًا في بحثه للخروج من أزمة التزاحم، فيقول: "إنَّ قوله (ص) "العلماء ورثة الأنبياء" مُنحلٌّ إلى جعل الوراثة والخلافة لكل فقيه فقيه... بل ليس ذلك من باب الانحلال، وإنما يستفاد من صيغة الجمع بدلالة وصفية". ثم أردف قائلاً: "يمكن أن يقال إن مقتضى إطلاق الخلافة والوراثة أن يكون لكل فقيه كلُّ ما كان لرسول الله فإن الظاهر من الأدلة أن كل فقيه خليفة ووارث، فمما ثبت له (ص) أن ليس لأحد مزاحمته تكليفًا ووضعًا، سواء كان المزاحم فقيهًا وخليفة أم لا..وهذا ينتقل إلى كل فقيه، ولازمه عدم جواز مزاحمة أحد له فقيهًا وخليفة كان أم لا. وفي مقابل ذلك: إن لرسول الله أن يزاحم كل أحد، خليفة كان أم لا، وهذا أيضًا قابل للانتقال والتوريث، لكن هما معًا غير ممكن التوريث للزوم التناقض. وتوريث المزاحمة أمر تنكره العقول، ومخالف لطريقة العقلاء، ولازم هذا الوجه قيام الدليل الاجتهادي على عدم جواز المزاحمة وبطلان تصرف المزاحم وحرمته. وإن أحرزنا من الأدلة أن الولاية بلا قيد ثابتة للفقيه، لكن احتملنا سبق أحد من الفقهاء موجب لسقوط ولاية غيره حال تصديه نستصحب ولايته الثابتة قبل تصدي الأمر..فليس لأحد من الفقهاء الدخول فيما دخل فيه فقيه آخر لذلك"[40]. الجمهورية الإسلامية: بعد عشر سنوات على تطويره لنظرية ولاية الفقيه، نجح الإمام الخميني في إقامة الجمهورية الإسلامية في إيران، واستلم دفة الحكم فيها. لم تكن لديه في البداية صورة دستورية واضحة ومفصلة عن الحكومة، فأوكل إلى مجلس من الخبراء المنتخبين من الشعب، ومن بين صفوف الثورة، أن يُعدَّ دستورًا للبلاد، وقام ذلك المجلس، بعد دراسة ونقاش لستة أشهر، بوضع دستور جديد يقوم على نظرية ولاية الفقيه، ويشابه دستور 1906، لكن باستبدال الملك برئيس للجمهورية منتخب من قبل الشعب ويعطي للمرجع الأعلى الفقيه منصب الإمام، الولي الفقيه، كأعلى سلطة دستورية في البلاد، ويحتم على رئيس الجمهورية أن يأخذ تزكية وموافقة من الإمام، وإلا فلن يصبح شرعيًا، ولن يستطيع ممارسة مهماته، وتضمن الدستور وجود مجلس شورى منتخب من الشعب ورئيس للوزارة معين من قبل رئيس الجمهورية، ومُؤيدٍ من قبل المجلس، ومجلس مُصغَّر آخر يتألف من اثني عشر عضوًا من الفقهاء والقضاة يشرف على سير أعمال مجلس الشورى ويراقب تطابق القوانين مع الإسلام والدستور ويُعرَف بمجلس المحافظة على الدستور. ولم يُعطِ الدستور الإيراني الأول للإمام من الصلاحيات التنفيذية والتشريعية سوى الحق في تعيين قاضي القضاة، وقيادة القوات المسلحة، بينما كان رئيس الجمهورية ورئيس الوزارة والعملية التشريعية في مجلس الشورى خارج إطار صلاحيات الإمام، وبهذا ظلت صلاحيات الإمام محدودة في مجال السيادة والقيادة وبعيدة عن مجال التنفيذ والتشريع[41]. الولاية المطلقة: بعد حوالي عشرة أعوام من تجربة الحكم، تفجرت أزمة تشريعية سياسية نظرية، عندما رفض مجلس المحافظة على الدستور التصويت على قانون العمل الذي أعده مجلس الشورى وعدَّله ثماني مرات خلال ثماني سنين، بحجة مخالفته للإسلام، مما اضطر وزير العمل للاستنجاد بالإمام الخميني الذي كان يمثل أعلى سلطة في البلاد كي يحسم المسألة وأجاز الإمام للوزير تطبيق القانون الذي شرَّعه مجلس الشورى دون أن يأخذ الإجراءات الدستورية النهائية بتصويت مجلس المحافظة على الدستور عليه، فاستغل وزير العمل سماح الإمام له وبادر إلى توسيع صلاحياته بتطبيق عدد من القوانين التي لم تنته إجراءاتها القانونية، وهذا ما أثار حفيظة رئيس الجمهورية آنذاك السيد علي الخامنئي، الذي خطب في صلاة الجمعة في طهران بتاريخ 10 جمادى الأول عام 1408، وأدان توسُّع وزير العمل بالاستفادة من إجازة الإمام الخميني له، فامتعض الخميني، ووجه له رسالة شديدة، عبَّر فيها عن إيمانه بالولاية المطلقة للفقيه، التي لا تحدها حدود، وجاء فيها: كان يبدو من حديثكم في صلاة الجمعة، ويظهر أنكم لا تؤمنون أن الحكومة التي تعني الولاية المخوَّلة من قِبل الله إلى النبي الأكرم مُقَدَّمةٌ على جميع الأحكام الفرعية الإلهية... وإن استشهادكم بقولي إن صلاحية الحكومة في إطار الأحكام الإلهية يخالف بصورة كلِّية ما قُلتُه. ولو كانت صلاحيات الحكومة محصورة في إطار الأحكام الفرعية الإلهية لوجب أن تُلغى أطروحة الحكومة الإلهية والولاية المطلقة المفوضة إلى نبي الإسلام وأن تصبح دون معنى. لا بد أن أوضح أن الحكومة شُعبة من ولاية رسول الله المطلقة، وواحدة من الأحكام الأولية للإسلام، ومُقَدَّمةٌ على جميع الأحكام الفرعية، حتى الصلاة والصوم والحج. إن باستطاعة الحاكم أن يعطل المساجد عند الضرورة، وأن يُخرِّب المسجد الذي يصبح كمسجد ضرار، ولا يستطيع أن يعالجه بدون التخريب... وتستطيع الحكومة أن تُلغي، من طرف واحد، الاتفاقيات الشرعية التي تعقدها مع الشعب، إذا رأتها مخالفة لمصالح البلد والإسلام. وتستطيع أن تقف أمام أي أمر عباديٍّ أو غير عباديٍّ إذا كان مضرًّا بمصالح الإسلام، ما دام كذلك إن الحكومة تستطيع أن تمنع، مؤقتًا وفي ظروف التناقض مع مصالح البلد الإسلامي، إذا رأت ذلك، أن تمنع من الحج الذي يُعتبر من الفرائض المهمة الإلهية. وما قيل حتى الآن، وما قد يقال، ناشئ من عدم معرفة الولاية المطلقة الإلهية. وما قيل من أنه قد أُشيع عن إلغاء المزارعة والمضاربة مع صلاحيات الدولة الجديدة، التي أعطاها الإمام لوزير العمل. أقول بصراحة: وليكن ذلك صحيحًا فرضًا، إنه من صلاحيات الحكومة، وهناك أمور أكثر منها لا أريد أن أزعجكم بها. شكَّلت هذه الرسالة تطورًا كبيرًا في نظرية ولاية الفقيه، باتجاه الشمولية والإطلاق، وقفزة كبيرة في توسيع الولاية وإطلاقها، وهي تتحدث عن صلاحيات مشابهة لصلاحيات الرسول الأكرم والأئمة المعصومين، للفقيه بحكم الولاية والسلطان. ويظهر من خلال حديث الإمام الخميني الآنف، أنه يجمع بين نظرية النيابة العامة ونظرية ولاية الفقيه، ويطوِّرهما بحيث تصبحان نظرية واحدة مطلقة[42]. أسست هذه الرسالة في منهجها الفكري والفلسفي، والديني والسياسي، لمرحلة جديدة، هي مرحلة الديكتاتورية الدينية/الثيوقراطية من حيث اعتبار الإمام الخميني بأن ولاية الفقيه على الناس مجعولة من قبل الله كولاية الرسول والأئمة من أهل البيت وأنها ولاية دينية إلهية، وهي مرحلة مشابهة لفترة حكم الباباوات في القرون الوسطى حيث كانت تمارس الديكتاتورية باسم الدين، ويُلغى دور الشعب. خاتمـة: لقد كان لتطور نظرية ولاية الفقيه على قاعدة نظرية النيابة العامة عن الإمام المهدي، المرتكزة على نظرية الإمامة الإلهية، أثر كبير على طبيعة النظرية ونموها في جانب واحد هو جانب السلطة، دون جانب الأمة، حيث أصبح للفقيه من الصلاحيات ما للإمام المعصوم وما للنبي الأعظم (ص) وأصبح الفقيه منصوبًا ومجعولاً من قبل الله تعالى، وبالتالي فإنه قد أصبح في وضع مقدَّس لا يحق للأمة أن تعارضه أو تنتقده أو تعصي أوامره أو تخلع طاعته أو تنقض حكمه. وبما أن الأئمة المعصومين، حسب نظرية الإمامة الإلهية، مُعَيَّنون من قبل الله، وأن لا دور للأمة في اختيارهم عبر الشورى، ولا حق لها في مناقشة قراراتهم أو معارضتها، وأن الدور الوحيد المتصور للأمة هو الطاعة والتسليم فقط، فقد ذهب أنصار مدرسة ولاية الفقيه المنصوب والمجعول والنائب عن الإمام المهدي إلى ضرورة طاعة الأمة وتسليمها للفقيه، ولم يجدوا بعد ذلك أي حق للأمة في ممارسة الشورى، أو النقد، أو المعارضة، أو القدرة على خلع الفقيه العادل، أو تحديد صلاحياته أو مدة رئاسته[43]. أبعدَ من ذلك، واستنادًا إلى الموقف الذي أعلنه الأمام الخميني من مسألة "أزمة التزاحم بين الفقهاء"، كما سبق ذكره أعلاه، والذي ذهب فيه إلى أنه (... ليس لأحد من الفقهاء الدخول فيما دخل فيه فقيه آخر...)، فقد كرَّس أيضًا مبدأ "وحدانية الإمام الفقيه". وعلى هذا فقد أسست ولاية الفقيه في صيغتها النهائية هذه، أي صيغة "الولاية المطلقة"، لمركزية الولاية ووجوب ولاء شيعة الأرض كلهم لوليِّ فقيهٍ واحد، وبالتالي عدم شرعية وجود مرجعية دينية/سياسية ضمن كل بلد يتواجد فيه الشيعة كما كان الحال قبل سيادة هذه النظرية. بهذا أضحت ولاية الفقيه المطلقة، وفق هذه الصيغة، عابرةً للولاءات والانتماءات الوطنية والقومية لشيعة العالم، بحكم أن الانتماء لوليِّ الفقيه "المركزي" يكتسب بُعدًا إلهيًا، لم يعد يتوافر للمرجعيات الدينية المحلية. وقد أدت مركزية وليِّ الفقيه هذه إلى نتائج سياسية ووطنية وقومية عميقة الأثر على ازدواجية الولاء للشيعة المؤمنين بولايته، بحكم أنهم أضحوا ملزمين دينيًا بتقديم ولاءهم للإمام، وليِّ الفقيه، على انتماءاتهم الوطنية والقومية. وكان من نتيجة ذلك أن اتخذ هذا الأمر أبعادًا دراماتيكية، خاصة في البلدان التي توجد فيها لإيران مصالح إستراتيجية وجيوسياسية، لأن شيعة تلك البلدان، من الذين اعتنقوا نظرية ولاية الفقيه في صيغتها النهائية، التزموا بتوجيهات وسياسات الوليِّ الفقيه المركزي، ضاربين عرض الحائط بولائهم القومي والوطني وبمصالح بلدانهم والشعوب التي ينتمون إليها. أرجحية الولاء هذه تعيد إلى الأذهان قضيةً تتسم بقدرٍ كبيرٍ من التشابه معها، وهي المسألة اليهودية، وكيف قام الفكر الصهيوني بزرع ذات الازدواجية لدى يهود العالم (من الذين اعتنقوه)، بين ولائهم لأوطانهم الأصلية وأرجحية ولائهم لدولة إسرائيل، عبر تَمَكُّن هذا الفكر من توظيف أسطورة "أرض الميعاد" التوراتية سياسيًا. *** *** *** [1] [1] أحمد الكاتب، تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه، ص 19 - 20. [2] كتاب سليم بن قيس الهلالي، ص 182. المجلسي، بحار الأنوار، ج 8، ص 555 (الطبعة القديمة). [3] الكليني، روضة الكافي، ص 292 – 293. المجلسي، بحار الأنوار، ج 74، ص 309. [4] أحمد الكاتب، تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه، ص 26 - 27 – 28. [5] حديث شريف، رواه البخاري (6967) ومسلم (1713) من حديث أم سلمة (رضي الله عنها). [6] قرآن كريم، سورة التحريم 1. [7] النوبختي، فرق الشيعة، ص 22. الأشعري القمي، المقالات والفرق، ص 19. الكشي، الرجال. محمد حسن الزين، الشيعة في التاريخ، ص 172. [8] أحمد الكاتب، تطور تاريخ الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه، ص 209. [9] الأشعري القمي، المقالات الفرق، ص 21 - 22. [10] ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج 2، ص 130. [11] أحمد الكاتب، تطور تاريخ الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه، ص 35. [12] الصدُّوق، إكمال الدين، ص 210. [13] أحمد الكاتب، تطور تاريخ الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه، ص 37. [14] المرجع السابق، ص 39. [15] المسعودي، مروج الذهب، ج 3، ص 252. [16] تاريخ الطبري، ج 6، ص 170. ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج 1، ص 151. [17] قرآن كريم، سورة النساء 4:59. [18] أحمد الكاتب، تطور تاريخ الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه، ص 63 - 65 - 80 - 83 – 84. [19] الصدوق، إكمال الدين، ص 75. [20] أحمد الكاتب، تطور تاريخ الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه، ص 78. [21] المرجع السابق، ص 109. [22] المرجع السابق، ص 111 إلى 151. [23] المرجع السابق، ص 140 إلى 159. [24] معروف الرصافي، كتاب الشخصية المحمدية، ص 264 – 265. [25] أحمد الكاتب، تطور تاريخ الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه، ص 159 إلى 167. [26] الصدوق، إكمال الدين، ص 21 – 85. [27] الصدوق، إكمال الدين، ص 346 – 348. الغيبة، ص 203 - 204 – 206. [28] المفيد، الإرشاد، ص 345. [29] أحمد الكاتب، تطور تاريخ الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه، ص 172 – 173. [30] الكليني، الكافي، ص 201. الصدوق، إكمال الدين، ص 268. كذلك: عيون أخبار الرضا، ج1، ص63. المفيد، الإرشاد، ص 355 - 359 – 362. الطوسي، الغيبة، ص 274 - 283 إلى 285. العياشي، التفسير، ج2، ص 326. [31] الخلاصة، ص 273. الشيخ الأقدم ابن أبي الثلج البغدادي، تاريخ الأئمة، ص 20. الطوسي، الغيبة، ص 244. الأشعري، المقالات والفرق، ص 101. المجلسي، بحار الأنوار، ج 51، ص 367. [32] أحمد الكاتب، تطور تاريخ الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه، ص 239. [33] المرجع السابق، ص 241 – 242. [34] المرجع السابق، ص 277 - 278، ص 286 إلى 303، ص 318. [35] المرجع السابق، ص 281 – 282. [36] المرجع السابق، ص 367. [37] المرجع السابق، ص 374 إلى 384. [38] المرجع السابق، ص 384 إلى 399. [39] المرجع السابق، ص 399 إلى 413. [40] المرجع السابق، ص 413 إلى 422. [41] المرجع السابق، ص 422. [42] المرجع السابق، ص 423 – 424. [43] المرجع السابق، ص 437 – 438. ملاحظة: الاسم الحقيقي لأحمد الكاتب هو عبد الرسول عبد الزهرة عبد الأمي اللاري.
|
|
|