|
الحوار والسلام٭
الإصغاء لصوت الإنسان وهو يتحدث بصدق، والاستجابة له، هو ما نحتاجه اليوم قبل أي شيء آخر. ضجيجُ زماننا وازدحامه يجب ألا يمنعنا أكثر من ذلك من سماع صوت الإنسان – أي جوهر الإنسان الذي تحول إلى صوت. إذ ليس علينا فقط سماع هذا الصوت، بل الاستماع له وإجابته ومساعدته على التحول من مونولج فردي إلى حوار صحوة حقيقية بين الناس. يجب أن يدخل الناس في حوار بين بعضهم البعض عبر ذواتهم الإنسانية الخالصة إذا كان للسلام من فرصة للظهور، وإذا كان للحياة المدمَّرة على الأرض من فرصة في إنقاذ نفسها. إن السلام العظيم مسألة مختلفة تمامًا عن مجرد غيابٍ للحرب. ثمة جدارية قديمة معلقة في قاعة مدينة سيينا جمع فيها رسامها ما يرمز لفضائل الحكم العادل. في اللوحة تجلس مجموعة من النساء المتشحات بالوقار والرفعة، والواعيات بوقارهن، فيما عدا واحدة منهن تجلس أعلى قليلاً عن البقية. لم تكن هذه المرأة مكللة بالوقار فحسب، بل كانت مركبًا حقيقيًا من الجلال والعظمة. لقد أعلنت عن اسمها بوضوح في ثلاثة أحرف: Pax (السلام). هذه المرأة تمثل السلام العظيم الذي أتحدث عنه، سلامٌ لا يعنيه البتة ما يعتبره بقية الناس غيابًا للحرب لمجرد أنها بعيدة عنا – إذ ليس لذلك أية قيمة في جعل المرء يفهم المعنى الحقيقي لصفاء هذه اللوحة. هناك شيءٌ جديد، شيءٌ موجود اليوم فعلاً، وهو أكبر وأقوى من الحرب، أكبر وأقوى من الحرب ذاتها. تتدفق مشاعر الإنسان إلى الحرب كما تتدفق المياه إلى البحر، وتتخلص الحرب منها كما يحلو لها. وعلى هذه المشاعر أن تشق طريقها إلى السلام العظيم كما تعالج خامة الذهب في النار التي تذيبها وتصوغها، وعندها فقط سيتسنى للشعوب الشروع في البناء مع بعضها البعض بحماسة وشغف أكبر بكثير من حماستها عندما كانت تدمر بعضها البعض. وحده رسام سيينا لمح هذا السلام المهيب في حلمه، ولم تكن رؤياه مبنية على واقعٍ أو حقيقة تاريخية، إذ لم يكن ذلك واقعًا يومًا. فما كان يسمى في التاريخ سلامًا، لم يكن في الحقيقة أكثر من وقفة وهمية قلقةٍ بين الحروب، لكن العبقرية الأنثوية التي أبدعها الرسام في حلمه لم تُظهر عشيقةً أو محبوبة عابرةً، بل سيدةً وملكةً للمساعي العظيمة والجديدة. على ذلك، ألا يحق لنا أن نعتز بالأمل الذي تعد به هذه السيماء الجديدة التي أطلت علينا بعد أن بقيت مجهولة عبر التاريخ لتشع مجددًا على جيلنا القادم، هذا الجيل الذي بدا غارقًا إلى غير رجعة في الكارثة؟ ألسنا معتادين على وصف الوضع العالمي الذي عشناه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ليس على أنه سلامٌ وإنما على أنه مرحلة "باردة" من حرب عالمية كانت قائمة دائمًا؟ وفي حالة كهذه لم تعد تهتم حتى بالحفاظ على شكلية السلام، ألا يعد من قبيل الحماسة المزيفة أن نتحدث عن سلامٍ عظيمٍ لم يكن موجودًا يومًا، على أنه بات قريب المنال؟ إن عمق أزمتنا هو الذي يسمح لنا بتلمس هذا الأمل. إن هذه الأزمة ليست مجرد علة مألوفة تاريخيًا في حياة الشعوب بحيث يمكن لها أن تنتهي إلى تعافٍ مريح. إن القوى الكبرى تتداعى اليوم لاتخاذ قرار لن يتكرر، وسيفرض علينا الاختيار بين الانقراض أو البعث. الحرب لم تنتج هذه الأزمة، بل أنتجتها بالأحرى أزمة الإنسان الذي لبى نداء الحرب الشاملة والسلام المزيف الذي تلاها. لطالما واجهت الحرب خصمًا من النادر أن فرض نفسه كذلك وإنما اعتاد على أداء فرائضه بصمت: هذا الخصم هو الكلمة – الحديث الصادق والمكتمل، والحوار الحقيقي الذي يسمح للناس بفهم بعضهم البعض والسعي لبناء التوافق. وبالفعل، كانت الحروب القديمة تبدأ فقط عندما ينتهي الكلام، ويحدث ذلك عندما لا يعود بإمكان البشر التحدث إلى بعضهم حول موضوع النزاع، أو اللجوء إلى الوساطة، بل تراهم يتجنبون الحوار، وفي خضم الصمت الذي يتخلل الذبح والقتل يبحثون عما يعتقدون بأنه قرار أو حكم من الرب. سرعان ما تتغلب أصوات الحرب على الكلمات، ثم تستعبدها لخدمة صوت المعركة، لكن في اللحظة التي تبدأ فيها الكلمة بالانتقال من معسكرٍ إلى آخر، ومهما بدا صوتها خافتًا، في هذه اللحظة تحديدًا تُستَدعَى الحربُ إلى منصة التساؤل والتحقيق. من السهل على مدافع الحرب أن تُغرق أي كلمة، لكن في اللحظة التي تفقد فيها الكلمة صوتها بشكل كامل، على هذا الجانب أو ذاك، تَبعث الكلمة بصمتٍ في قلوب الناس حالةً من اليقظة الذهنية التي تكشف لهم بأن ليس من نزاع بين البشر يمكن حله بالقتل، ولا حتى بالقتل الجماعي، في هذه اللحظة تصبح الكلمة هي من يفرض الصمت على المدفع. لكن ما بدأ يتقوض فعلاً في هذه الأزمة التي تسم زماننا هذا هو العلاقة بين الإنسان والكلمة، الإنسان والحوار، ففي زمن الحرب لن يقبل الرجل منح ثقته للحوار، ذلك أن شرطه الأساسي، وهو الثقة، لم يعد موجودًا. هذا هو السبب الكامن وراء الخوف من قدرة الحرب الباردة، والتي نطلق عليها اليوم تسمية سلام، على التغلب على الجنس البشري. في كل مرحلة سابقة من مراحل السلام نجحت الكلمة الحية في السفر من إنسان إلى آخر، يومًا بعد يوم، حائلةً دون تمرير السم الذي يبثه الاختلاف بين الناس في الاهتمامات والانطباعات، بحيث لا يرتكس هذا الاختلاف إلى سخف عبارة (لا مزيد من ذلك)، وصولاً إلى جنون عبارة (آن أوان الحرب). هذه الكلمة الحية التي تمهد للحوار الإنساني وتحقق انتقالها من وقت إلى آخر إلى أن يبدأ الجنون بخنقها، صارت تبدو اليوم معدومة الحياة وسط حالة اللاحرب هذه. النقاشات بين الرؤساء التي تبثها محطات الراديو لنا لم تعد تملك أي قاسم مشترك مع فكرة الحوار الطبيعي بين البشر. لا يتحدث الدبلوماسيون إلى بعضهم، وإنما لجمهور لا يملك وجهًا، وحتى المؤتمرات التي تعقد بهدف بلوغ التفاهم تفتقد للجوهر الذي بمقدوره وحده أن يرفع سوية النقاشات ليصبح بالإمكان اعتباره حوارًا حقيقيًا: الصراحة والمباشرة في الخطاب والجواب. إن ما يتركز هنا هو تلك الحالة الجامعة التي لا يعود بمقدور الناس خلالها الحديث بشكل مباشر مع أقرانهم، أو أنهم يفقدون الرغبة في ذلك. لم يعودوا يملكون هذه القدرة لأنهم ببساطة لا يثقون ببعضهم البعض، وكل واحد منهم يعرف بأن الآخر لا يثق به، وإذا حدث أن توقف شخص لبرهة في خضم النقاش كي يستدرك موقفه، فسوف يكتشف بأن علاقته مع الآخر لم تعد تتضمن ما يمكن أن يشير إلى بقاء أي درجة من الثقة. على ذلك فلن أمل من تكرار قولي بأن عمق الأزمة تحديدًا هو ما يدفعنا إلى الأمل. دعونا نجرؤ على فهم هذه الحالة من خلال واقعية خالصة تستعرض كل الحقائق التي يمكن كشفها في الحياة العامة، والتي تبدو الحياة العامة أصلاً وكأنها تتألف منها، على أن نبقى واعين لما هو حقيقي أكثر أي شيء آخر – حتى لو بدا متخفيًا في الأعماق –، أي إمكانية النجاة والخلاص في لحظة الخطر الوشيك. إن قوة التحول التي تغير الوضع جذريًا لا تكشف نفسها خارج الأزمة أبدًا. هذا التحول يبدأ في العمل عندما يضطر المرء تحت وطأة اليأس، وبدلاً من السماح لنفسه بالإذعان، إلى أن يستدعي قوته ويحقق معها هذا الانتقال والتحول حتى في وجوده ذاته. هذا الأمر يحدث سواء في حياة الإنسان أو في حياة جنس كامل من البشر، حيث تتطلب الأزمة حلولاً عارية وليس مجرد تخبط وتقلب بين ما هو أسوأ أو أفضل، إنما قرار الاختيار بين تحلل الأنسجة أو تجددها. أزمة الإنسان التي باتت جلية في زماننا هذا تعلن نفسها بكل وضوح على أنها أزمة ثقة، ذلك في حال استطعنا أن نوظف مفهوم الاقتصاد ولو بشكل مركز. تسألون: الثقة بمن؟ لكن السؤال بحد ذاته يتضمن قيودًا غير مقبولة هنا. إننا نتحدث ببساطة عن ثقة نفقدها على نحو متزايد تجاه الآخر في عصرنا. إن أزمة الخطاب تتلازم بقوة مع فقدان الثقة في أبسط أشكالها، لأنني أستطيع التحدث إلى شخص ما، بالمعنى الحقيقي للكلمة، فقط إذا كنت أتوقع منه أن يتقبل كلامي على أنه صادق. ولذلك، فإن حقيقة أنه من الصعب جدًا بالنسبة لإنسان هذا العصر أن يصلي (انتبهوا جيدًا: ليس أن يؤمن بأن الإله موجود، وإنما أن يخاطبه) وحقيقة أنه من الصعب جدًا بالنسبة له خوض حوار حقيقي مع بقية الناس، هما عنصران لمجموعة واحدة من الحقائق. هذا الانعدام في الثقة تجاه الوجود، والعجز عن التفاعل مع الآخر دون تحفظ مسبق، هما عرضان لمرض أعمق أصاب شعورنا بالوجود. أحد أعراض هذا المرض، وربما الأكثر حدة من بقية الأعراض، هو ما أشرت إليه في البداية: فقدان قدرة الكلمة الصادقة على الانتقال بين المعسكرين. فهل من سبيل لعلاج هذه العلة؟ لدي إيمان بأن ذلك ممكن. وانطلاقًا من هذا الإيمان تحديدًا أتحدث إليكم. لا أملك في جعبتي ما يثبت هذا الإيمان، إذ ليس من إيمانٍ يمكن إثباته بدليل وإلا فلن يكون هو ما هو عليه: مشروعًا عظيمًا. بدلاً من أن أقدم لكم إثباتًا، فإني أناشد هذا الإيمان المحتمل الذي يملكه كل مستمع منكم عله يفتح له باب التصديق. وفيما لو كان هناك علاج، من أين ستنطلق عملية الشفاء هذه؟ من أي موضعٍ سيبدأ هذا التحول الوجودي الذي تنتظره طاقات الشفاء وقوى الخلاص الكامنة في عمق الأزمة؟ إن فقدان الناس القدرة على إجراء حوار صادق بين بعضهم البعض ليس العرض الأخطر لمرض عصرنا فحسب، بل هو العرض الذي يتطلب تدخلنا على وجه السرعة. أعتقد، على الرغم من كل شيء، بأن الناس في زمننا هذا يملكون القدرة على بناء حوار، أن يستهلوا حوارًا حقيقيًا بين بعضهم البعض. وفي هذا الحوار يصادق كل طرفٍ، ويؤكد، ثم يعلن، بأن خصمه على الطرف المقابل هو الآخر الموجود فعلاً، حتى عندما يتخذ موقفًا ضده. بهذه الطريقة لن نستطيع إنهاء الصراع في هذا العالم نهائيًا فحسب، بل سيصبح في مقدورنا أيضًا أن نُحَكِّمَ إنسانيتنا فيه، لنسير تباعًا في طريق التغلب عليه. ولخدمة مهمة إطلاق هذا الحوار لا مندوحة لنا من استدعاء أولئك الذين يواصلون اليوم بين ذويهم خوض المعارك ضد أعداء الإنسان. وعلى أولئك الذين يبنون الجبهة العظيمة المجهولة بين أبناء الجنس البشري أن يسعوا لجعلها معلومة من خلال الإفصاح دون تحفظ عن مكنوناتهم تجاه بعضهم البعض، دون تجاوزٍ لما يؤسس انقسامهم وإنما قرارًا واعيًا منهم بقبول هذا الانقسام في عمومه. في مواجهة أولئك يقف الطرف المستفيد من الانقسام بين الشعوب، الطرفُ المناهض للإنسانية في الإنسان، الإنسانُ الأدنى، عدوُّ الإرادة الصادقة الساعية للانتقال إلى إنسانية حقيقية. إن الكلمة المستخدمة لتسمية الشيطان في اليهودية هي hinderer أي المعيق أو حجر العثرة، تلك هي الصفة الصحيحة التي تعرف عدو الإنسان سواء كان الحديث عن الأفراد أو عن الجنس البشري. دعونا لا نسمح لهذا العنصر الشيطاني بعرقلة إدراكنا للإنسان! دعونا نحرر الكلمة من قفصها! دعونا نجرؤ، على الرغم من كل شيء، على الثقة! ترجمة: نورس مجيد *** *** *** ٭ مصدر المقال: بدلاً عن العنف – كتابات أعظم دعاة السلام واللاعنف في التاريخ، 1963. ٭٭ عالم لاهوت وفيلسوف يهودي ولد في فيينا عام 1878. عرف بترجمته للفكر اليهودي الحديث للقراء من غير اليهود. هذا النص يعود لخطاب ألقاه في عام 1953 بمناسبة تسلمه جائزة السلام ضمن معرض الكتاب الألماني في فرانكفورت.
|
|
|