|
التاسوعية: افهَم نفسَكَ بنفسِكَ، وافهَمِ الآخَرين في حياتِكَ٭
لم ألتقِ أحدًا البته لم يكن لدَيْهِ اهتمامٌ بموضوع الشخصية، وخاصةً اكتشافَ المزيد من الأمور التي تتعلَّق بها، أو بالنَّمَط الخاص به. أتذكَّرُ نفسي حينَ كنتُ تلميذًا جامعيًا، وعند تخصُّصي في دراسة الشخصية، كان الجميع يخضعون لاختبارٍ نفساني، ووَقَعَ هذا الاختبار بين يديَّ، فتخيَّلتُ بأنَّ كلاً منهم كان بإمكانِه أن يُظهِرَ لي ما يتعلَّقُ بشخصيَّتي. وكانَ معظمُهم يقومُ بالشيءِ نفسِه. أتساءلُ لماذا لدينا كل هذا الاهتمام بمعرفةِ الأمور التي تتعلَّق بنا نحن أنفسنا؟ الباعِثُ الأوَّل بكلِّ بساطَة هو الفضول: إنها الطريقةُ التي تعمَلُ وفقها عقولُنا ومشاعرُنا القائمة على إثارة الاهتمام. فمثلاً، لماذا أرى حالَةً مُعيَّنة بهذه الطريقة المحددة؟ لماذا أشعرُ بانفعال معين بينما يشعُرُ بعض الأشخاص بانفعال آخر؟ لماذا أكتئبُ بينما يسخط صديقي، مع أن الحالة التي تعرَّض إليها كلانا هل نفسها؟ إنه لمن الأهمية بمكان التفكير في هذه الأمور كلِّها، والتحدُّث مع أشخاص آخَرين عنها. الباعِثُ الثاني أساسُه عَمَليٌّ: فهناك الكثير من المعاناة في حياتِنا؛ ألَمٌ جسماني، وتوقُّعاتٌ مُحبَطَة، وسِلسِلَةٌ من الإزعاجات، وتأجيلٌ لتسديد مبلغٍ ضئيلٍ، وأناسٌ لا يعامِلوننا كما يجب، وهكذا دواليك. هذه الأمور تجعلُنا نُعاني. وعادة ما تكمن ردَّةُ الفعلِ الشائعَة إزاء المعاناة في اِتِّهامِنا للظروفِ التي تُحيطُ بنا. ولكن، في المُقابل، إذا لم يؤلِمني ظهري، وإذا ما أدَّى المقاوِلُ التزامَه في الوقتِ المتَّفَقِ عليه، وإذا وصَلتُ إلى العمَل دون تأخيرٍ يُذكَر، وإذا ما اعترَفَ الآخَرُون فعلاً بتمتُّعي بالرَوْنقِ والجاذِبية، فبإمكاني إذاك أن أكونَ سعيدًا حقًا. إلا أننا بقدر ما نكسَبُ شيئًا ما من معرفة ذواتِنا، فنحن نتعلَّم أننا نساهِمُ بدورِنا أيضًا في حدوثِ جزءٍ كبيرٍ من معاناتِنا بشكلٍ أو بآخَر، فضلاً عن وجودِ أحداثٍ خارجيَّةٍ تشوِّشُنا فعلاً. على سبيل المِثال، إذا لم أرفَعْ أشياءَ ثقيلَةً، وظهري منحنٍ، وإذا لم أحدِّد مُهلةً ليسَ من الضرورة أن تكون قصيرةُ الأمدِ جدًا لإنجاز عملٍ يتطلَّب في الحقيقة المزيد من الوقت، وإذا خرجتُ إلى العمَل عشرَ دقائق أبكَر لكي لا أستعجِلَ خَطَوَاتي من أجلِ الوَقت، وإذا لم أقلق كثيرًا بسبب تقدير الآخَرين لي، فلا شك أن جزءًا كبيرًا من معاناتي سوف يزول من حياتي. ولكن، ما هو هذا الشيء الموجود في شخصيتي الذي يدفعُني إلى فقدان صبري، وغالبًا ما يُسَبِّبُ لي المعاناة في عالَم لديه جدوله الزمني الخاص في تحقيق الأشياء؟ ولماذا يجعلُني نمَطي النفسي أبالِغُ في رفع شأنِ شخصٍ آخَر، مع أنني أدركُ عقليًا أنه ليس بالأهمية التي أمنحُه إيَّاها؟ غالِبًا ما تكون النظريَّاتُ النفسانية التقليدية حولَ الشخصية مفيدةً، بما تُوَضِّحُه لنا حولَ البواعِث التي تدفعُنا للتَّصَرُّف، وحول الأسلوب الذي نتَصرَّفُ وُفقَه، كما تسمَحُ لنا، بأدنى تَوَاتُر،ٍ بتصحيحِ بعض التعطُّلات في "إنيَّتِنا" التي تسبِّب لنا معاناةً غيرَ ضرورية. ولعِدَّةِ عوامِل، فإن النتائج العملية هي الأكثرُ نُدرةً مقارنة بالرؤى التي تقدِّمُها لنا هذه النظريّات. على سبيل المثال من المُمكنِ لبعض رؤانا أن تُلتبَسَ بعد قراءة نظريةٍ ما عن الشخصية، وألا يكون لدينا فهمٌ كافٍ للأفكار الوارِدَة فيها. وفضلاً عن ذلك، فإن كلَّ نظرياتِ الشخصية حقيقيةٌ جزئيًا على نحوٍ يبدو فيه أمرٌ ما يكشُفُ أو يُعطي دلالةً ما ضِمنَ مذهَبِ الشخصية هذا، ولكن ربما لا يُطبَّق على أرض الواقِع، أو حتى يمكن أن يكون عقَبَةً أمام تحولٍ شخصي. وأيضًا، فإن جوانِبًا من شخصيتِنا لا تلقَ الاهتمامَ الكافي في سبيل إدراكٍ حقيقيٍّ لكينونتِنا، مثل صورة متضخِّمَة عن ذواتِنا نفسِها، إذ بوسع ذلك كلِّه أن يؤدِّيَ إلى تجميدِ الممارسة الفعَّالَة لأي مَذهَبٍ للشخصية. ولا تكفي أحيانًا الرؤيَة الفِكرية: فنحن بحاجةٍ أيضًا إلى رؤيَةٍ انفعالية، تُمنَحُ عامَّةً بمساعدةِ مرشِدٍ أو معالِجٍ خبيرٍ، أو يحصَلُ ذلك من خلالِ حدوثِ صَدمةٍ يتسبَّبُ فيها حَدَثٌ ذو شدَّةٍ كبيرة. ثمَّة عامِل هام آخَر بالنسبة لمُعظمِنا، ألا وهو اعتبار نظريات الشخصية هامَّةٌ على الصعيد الفكري، ولكنها تقودُنا إلى الشعور بخيبة الأمل من نتائجها على الصعيد العملي. وتكاد معظم مذاهب الشخصية المعروفة على نطاقٍ واسِعٍ، والمَقبولة بشكلٍ عامٍّ، لا تذهب إلى ما هو أبعَدُ من الحياةِ الاعتيادية. يبحَثُ الأشخاص في غالبيتِهم العظمى عن مُرشِدين أو معالجين لأنهم أشقياء لعَدَمِ شعورِهم بأنهُم "طبيعيون" بما فيه الكفاية. فثمَّةَ صعوباتٍ في علاقاتِهم مع الآخَرين، أو أنهم ليسوا على ما يُرام مع أنفسِهم ذواتِها، أو أن لديهم عاداتٌ عقيمَة وتسبِّبُ لهم معاناةً هائلَة. فهم يريدون ببساطة أن يكونوا أشخاصًا طبيعيين يعتدُّون بأنفسِهم، ويُقيمون علاقاتٍ مع الآخَرين بسهولَة، ويكونون على ما يرام مع ذواتِهم، ولا يخرِّبون حياتَهم الخاصّة. لدى الحياة الطبيعية وبدون أدنى شك ارتفاعاتُها وانخفضاتُها، ولكن بِوِسعِ الاستشارة والعِلاج النفسيَّيْن أحيانًا (لكنهما بعيدَيْن عن إحداثِ ذلك دائمًا) على مساعدة الأشخاص في تحسُّنِهم و"إعادتِهم إلى حالتِهم الطبيعية" في حياتِهم العامَّة. بدأ المُعَالِجون النفسانيون أثناءَ عقدِ الخمسينيات في استقبالِ نوعٍ جديدٍ من الزبائن. إنهم من نَمَطٍ وَصَفْتُه في ورشة عملٍ على الذات قمتُ بها Waking Up (Sambala, 1986) (متيقِّظًا)، على أنه "المتبرِّم الناجح جدًا". إن نَمَطَ هذا الشخص، بالشكل الطبيعي، ناجحٌ جدًا وفقًا للمعايير الاجتماعية المعاصِرَة، ولديه وظيفة لائقة، ومدخولٌ وافِر، وحياةٌ عائلية مقبولة، ويحظى بقبولٍ واحترامٍ معقولين في المجتمع، وأخيرًا فهو يتمتَّع بكل الخيرات التي يُفترَض أنها تجلُبُ السعادةَ في مجتمعِنا. إذن، فالنجاح لا يعني عَدَمَ وجودِ المعاناة أو الصعوبة، إذ تُشكِّلُ جُرْعَةٌ من الألَم والصعوبة جزءًا من الحياة الطبيعية، وما علينا إلا قبول الواقِع كما هو. فالمُتبرِّم الناجِح جدًا يدرِك نفسَه "سعيدًا" وفقاً للمعايير الاعتيادية، ولكنه يبحثُ عن علاجٍ لأنه يجِدَ بالرغم من كل شيء أن الحياة "فارَِغَة" ولا معنى لها. وبالتالي، أفلا يوجَد شيءٌ ما في الحياة، أبعَد من المال، والمِهنَة، وخَيْراتٌ للاستهلاك، والحياة الاجتماعيّة؟ أين يَكمُنُ المعنى في ذلك كلِّه؟ إن العِلاجَ التقليدي المؤسَّس على نظريات تقليدية حولَ طبيعَةِ الكائن الإنساني، وحولَ الشخصية، كانَ (ومازالَ على ما هو عليه) ذا قيمةٍ داخليةٍ ضئيلَةٍ بالنسبة لهؤلاء الأشخاص. فبإمكان المرء الحصول على وَمَضات من البصيرة هامَّةٍ حولَ مصدر الشخصية، ولكن تبقى المسألة الرئيسية حولَ معنى الحياة الأكثَر عمقًا في تعطُّلٍ كبير، ولا يتمُّ التطرُّق إليها إطلاقًا. ووفقًا لما قيلَ أعلاه، تكاد لا تذهب كلُّ مذاهِبِ الشخصية المعروفة والمقبولة بشكلٍ واسِعٍ إلى ما هو أبعَد من الاعتياديّ في الحياة، ومع ذلك فعلى المتبرِّم الناجح جدًا أن يغوصَ أكثَر فأكثَر في العمق. إن قدومَ المتبرِّم الناجِح جدًا قد سرَّعَ في تطوّر علم النفس الإنساني، وعلم النفس التجاوزي (علم نفس التعالي)، ومدارس أخرى تعتَرِفُ بفائدةِ معرفتِنا النفسية حولَ الحياة الاعتيادية، وحول الشخصيات الملازِمَة لها، فعلى المرء أن يتعرَّفَ أيضًا على حضور أبعادٍ حيوية في الكائن الإنساني، وجودية وروحية. إذا يأتي يوم ويحصَل فيه المرء على نجاحٍ معقول في تطوُّرِ مهاراتِه الضرورية على المستوى الاعتيادي للحياة، ولكن إذا أراد أن يستمِرَّ مُحَافِظًا على صحَّتِه وسعادتِه، فما عليه إلا النموَّ في الأبعاد الوجودية والروحية. لا شك أن النظريات الشخصية التي تتعامَل مع الحياة على المستوى الاعتيادي جيِّدَة، ولكن حتى مرحلةٍ ما. مع ذلك، عندما نحتاجُ إلى الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك، فإن افتقارَ هذه النّظريات للاتسَاع يظهَرُ جليًا، ونشعر بخَيْبَةِ أملٍ إزاءَها، وربما دونَ معرفةٍ منا لماذا؟! عندما كنتُ أقومُ بدراسةِ الشخصية، كان لديَّ اهتمامٌ بالأبعاد الروحية والعَبْرشخصية Transpessoal للحياة، ولذلك وجدتُها مفيدةً. ولكن المفاهيم النفسانية التقليدية كانَت محدودة. وكان الاستثناء الأعظَم يتركَّز في شخص كارل غوستاف يونغ؛ فقد كانت فكرتُه عن اللاشعور الجمعي انفتاحًا على مستويات روحية في وجودِنا. إلا أن يونغ لم يكن مقبولاً في مؤسَّسَةِ علم النفس أو الطب النفسي، وهكذا لم تكن أفكارُه متوفِّرةً بشكلٍ عام كمنهَجِ عَمَلٍ. واكتَشَفْتُ مؤخرًا نظريات لعلوم نفس الشخصية تركِّز على عدَّةِ مناهِج روحانية في العالَم المحيطِ بنا من الخارج (انظر إلى عملي: علوم نفس العبر شخصية – علوم النفس التجاوزية "علوم نفس التعالي" – Psychological Prosses 1983) التي كانَت تُقدِّم أيضًا إمكانياتٍ عُظْمَى للنموِّ الشخصي إلى ما هو أبعَدُ مِنَ الحياةِ الاعتيادية، وخصوصًا، منهَج تاسوعية أنماط الشخصية الذي كان يقدِّم منظوراتٍ كثيرةً بالنسبة لتطبيقاتٍ عملية، ولكننا استطَعْنا فقط تقديم طرق رسم تخطيطية للمنهَج عندما نشَرْنا علومَ نفس العبرشخصية Transpersonal Psychologies لأوَّلِ مرَّةٍ في عام 1975. قُدِّمَ مصطلحُ التاسوعية Eneagrama من قِبَلِ جورج غوردجييف G.I.Gurdjieff الذي كان سبَّاقًا في ملاءمةِ تعاليم الشرق الروحانية لكي يستخدمَها الغربيون المعاصِرون. كان يستخدِمُ شكلاً عامًا للتاسوعية Eneagrama في دروسِه، وقد اكتَسَبَت إسهابًا كبيرًا بفضلِ كتاب: بحثًا عن الظواهِر الإعجازية: شذرات من تعليمٍ مجهول In Search of the Miraculous: Fragments of an Unknowing Teaching (Harcourd, Brace World 1949، كتبَه تلميذُه الأكثرُ شُهرةً، پيير اوسپنسكي p.D.Ouspensky. لقد وَعَى غوردجييف معاناةً لا فائدةً منها، كان قد اكتشفَ وُجودَها من خلالِ عيوبٍ في شخصيَّتِنا، فأخَذَ يُعلِّمُ على نحوٍ يُعلِنُ فيه أن كلاً منا لدَيْه سِمَةٌ رئيسيَّةٌ مُمَيَّزَةٌ تشكِّلُ فيما بعد المحورَ المركزي الذي تدور حولَه المظاهِرُ الوهميَّة لشخصيّتِنا. فإذا استطَعنا إدراكَ هذه السِّمَة الرئيسية المُمَيَّزَة، يسهل العَمَل للفَهم والتجاوز (التعالي) على المظاهِر الوهمية للشخصية (أو الشخصية الزائفة، كما كان غوردجييف يسمِّيها. فقد حدث ذاتَ يومٍ تعطُّلٌّ كبيرٌ أثناءَ طفولتِنا)، وعوضًا عن امتلاك حرية الاختيار، فإننا نخضَع لها وتصير هذه الشخصية أكثر فعالية بكثير، والتي أسماها غوردجييف كما أسلَفْنا الذِّكر قبل قليل بالشخصية الزائفة. لا شكَّ أن غوردجييف قد استخدمَ تاسوعية الشخصية في العمل مع تلاميذِه، لكنه ووفقًا لما ثبُتَ لي، لم يقُم بنقلِ المنهَج بحيثيَّاتِه إلى أيٍّ منهم. حَدَثَ أوَّلُ لقاءٍ لي مع تاسوعيةِ أنماطِ الشخصية في الكلية الجامعية سنةَ 1972، وكانَ ذلك خلال حلقةٍ دراسية كنتُ أقدِّمُ فيها بحثًا حول الحالاتِ المتغيِّرَة للوعي[1]. ذكرَ لي أحدُ تلاميذي، ويُدعَى جون كووان Jon Cowan، أمرًا بهذا الخصوص، مُنَوِّهًا إلى واقِعِ أنَّه قد "صنَّفَني" لتوِّه. وتوَالَت بعدَ ذلك عدةُ وَجَباتِ غَدَاءٍ مع كووان Cowan كان يقوم خلالَها برسمٍ تخطيطي وفق المنهَج لشخصيَّتي، فيأخذُ برسمِ خطوطٍ بيانية على خلفيّةِ قطعةِ مِنديلٍ ورقي (فاكتشَفتُ وجود موروث ينشرُ أفكارًا مثيرة تدورُ في فَلَكِ العلم منذ عهدٍ بعيدٍ، وكان كلُّ ذلك على قطعةِ منديلٍ وَرَقي!). وبما أن رغبتي كانَت قويةً جدًا في النمو الشخصي في ذلك العهد، فقد انضمَمْتُ إلى مجموعة بيركيلي Berkely، وكانَ يتزَعّمُها الطبيبُ النفساني الشيلي كلاوديو نارانخو Claudio Naranjo الذي كان تلميذي كووان Cowan يتعلَّمُ المنهَجَ على يدَيْه. وكان نارانخو Naranjo قد دَمَجَ المنهَج الأساسي للشخصية في التاسوعية Eneagrama مع المعرفة النفسانية الحديثة، ضِمْنَ عِبَاراتٍ لامِعَة ومُسهَبَة حول التاسوعية Eneagrama. يُعرَف بأن نارانخو Naranjo كان قد تعلَّمَ أُسُسَ تاسوعية الشخصية أثناء فترة دراستِه في الشيلي مع أوسكار إشاثو Oscar Ichazo وكان هذا الأخير يَزْعُمُ أنه تعلَّمَها في مدرسةٍ سِريَّةٍ تُدعَى أخوية سارموني Sarmouni، هي نفسها التي كانَت قد نقلَت هذا التعليم إلى غوردجييف Gurdjieff. والحقيقة أنه كان مبحَثاً مُثمِلاً ورومانسيًا، ولم يكن يتوافَق بشكلٍ جيدٍ جدًا مع عالِمٍ شابٍّ مثلي، اهتمَّ بتولُّعٍ في فَصْلِ ما هو سليم التفكير عما هو ليس بسليم التفكير، خصوصًا عندما يتوجَّب على العلم التعامُلَ مع الروحي. ومن الممكن للأخويات السرية أن توجَد أو لا توجَد، ولكن أن نتكلَّم بخصوص ذلك ضِمْنَ العلم فهذا أمرٌ يبدو كمن يلوِّح برايةٍ حمراء أمامَ ثورٍ هائجٍ! وبما أنني كنتُ أتقصّى في ذلك العهد، عدةَ مجالاتٍ يُعتبَرُ مشكوكٌ في أمرِها من حيث تأسيسِها، كتلك التي للتأمل، والحالات المتغيِّرَة للوعي، وعلم نفس الظاهرات الخارقة (الپاراسيكولوجيا)، فبدَا لي أنه من الغباء أن أُوَرِّطَ نفسي في منهَجٍ صوفيٍّ (سرّاني) يتجاوز بشكلٍ واضِحٍ الحياةِ الاعتيادية. ومع ذلك، فالواقِعُ الخاص بتاسوعية الشخصية يتجاوَز الحياة الاعتيادية، ويناقِش الفضائلَ الوجودية والروحانية التي يمكن تنميَتُها، مع استعادةِ الطاقة الجوهرية للحياة التي تقومُ بامتصاصِها دِفاعاتٌ نفسية هي نفسُها ضدُّ طبيعتِنا الحقيقية، وكان هذا يُشكِّلُ في حدِّ ذاتِه إحدى جاذبيَّاتِها الأساسية بالنسبةِ إليَّ. وعلى هذا النحو، رأيتُني أُحَاوِلُ إبعادَ نفسي عن منهَج التاسوعية Eneagrama، ولكنَّني تمتَّعْتُ بحسٍّ جيِّدٍ في محاولتي لتقييمِها من خلال استحقاقاتِها الخاصة، وليس من خلال أصولِها "الميثولوجية"، ولا من خلال علم النفس التقليدي الذي يدلو بدلوِه في شأنِها. وهكذا أمعنْتُ النظرَ فيها مع عالِمِ نفسٍ عارِفٍ بنظريات الشخصية، كمنهَجٍ تصوُّري، وكنظرية للشخصية، فقد كان منهَج التاسوعية يبدو جيِّدًا جدًا. وبدون أدنى شك، كانَت منهَجَ الشخصية الأكثرَ تعقيدًا والأكثرَ إشكاليةً الذي لاقيْتُه في حياتي، ولكنها كانَت تعقيدًا حسَّاسًا وذكيًا، وليس مجرَّدُ غموضٍ. وللمقارَنَة، فقد كانَت مُعظَمُ مذاهِبِ الشخصية التقليدية تبدو تبسيطاتٍ مُفرِطة زيادةً عن اللزوم. رغم أن العلماء ما برِحوا يُلِحُّون على نكون موضوعيين، فقد أثبتَت دراساتي الخاصة، وتلك التي للآخَرين، أننا ميَّالون جدًا لأن نكون ذاتيين ضِمْنَ عمَلِنا معظمَ الوقت. إنَّ الالتزامَ بالاستمرار بالتوق إلى الموضوعية هو الذي يُنقِذُ العلم من صَيرورتِه نمَطًا من التبَعية العقيمة. ورؤيَتي الإيجابية لمنهَج التاسوعية المعبَّر عنها أعلاه، هي محاوَلَتي لتقييمِه على أفضَلِ شكلٍ مُمْكِنٍ، من خِلالِ تسليطي عليه ضوء المعرفة النفسانية المُعاصِرَة. ومن المنطقي أن ردَّ فعلي الشخصي كان هامًا أيضًا. عندما تمَّ تفسير طبيعة نمطي، أحسَسْتُ للحظاتٍ بأعظَم بصيص نورٍ يدخُلُ في حياتي. والآن كلُّ الأشكالِ لأيِّ حَدَثٍ هامٍّ وردِّ الفعلِ تِجاهَه، والتي كانت غيرُ مفهومةٍ بالنسبة لي، أخذَت تشكِّل بالنسبةِ لي دلالَةَ استعادةٍ تامَّةٍ للماضي. والأكثرُ أهميةً أيضًا، أنني تمكَّنتُ من رؤيةِ الطريقة الأساسية التي كانت حياتي فيها مُعيبةَ السلوكيَّات، وحصَلْتُ على رسمٍ تخطيطي عامٍّ لطُرُقِ العمَلِ من أجلِ تغيير سلوكياتي المُعيبة. وفهِمتُ سلوكي من قِبَلِ الكثيرِ من أصدقائي، حتى تمكَّنتُ من تحديد نمطِي. لم أتوصَّل فقط إلى التحرك مع أصدقائي فيما بين هذه السلوكيَّات على نحوٍ أكثَرَ رضىً فقط، ولكنني تعلَّمْتُ أيضًا كيف أكون صديقًا أفضل. تلَت ذلك عِدَّةُ سَنَوَاتٍ من العمل على نموِّيَ الشخصي بعد تلك المجموعة الأوَّليَّة من الرؤى، المشخِّصَة لنَمَطي في التاسوعية، وتَوَاصَلَتِ السنون في مُصادَقَتي على الفائدةِ التي اكتسبتُها من هذا المنهَج. على مدار السنين، كانَت تاسوعيةُ الشخصية في متناوَلِ تلاميذِ كلاوديو نارانخو Claudio Naranjo، أو أوسكار إشاثو Oscar Ichazo فقط، وذلك لكونِها قد دُرِّسَت كجزءٍ من عَمَلٍ مُكثَّفٍ للنمو النفسي ضِمْنَ مجموعاتٍ صغيرةٍ. وهذه كانَت على الأرجَح أفضَلُ شكلٍ في تقديم المواد، نَظَرًا إلى أنها تزيد كثيرًا من فُرَصِ التلميذ في تطبيقِها. وفي أيّامِنا هذه، ثمَّةَ كثير من الناس، خاصةً أولئك المُتَبَرِّمين الناجحين جدًا، الذين يُحاولون فهم أنفسِهم، والتعالي (اختبار مستويات عليا من الوعي)، كما صارَت أيضًا المجموعات الصغيرة تُعتبَرُ تقييداتٍ بسَبَبِ نقلِ المنهَج حصرًا ضِمنَها. وهكذا فإنها عطيّةٌ كبرى تقدِّمُها لنا هيلين پالمِر Helen Palmer في كِتابتِها لهذا الكتاب حيث تشاركُ فهمَها الخاص لتاسوعية الشخصية، مُضيفةً إلى المنهَج الأساسي رؤيتها الخاصة الناجِمَة عن عمَلٍ واسِعٍ حول التطوُّر، وتحقيق الحدس. وعملها هو في دراسةِ كلِّ نَمَطٍ من تاسوعية متركِّزَةٍ حولَ أساليب الإدراك، أو بتعبيرٍ أفضَل، الإدراك غير الواقعي الذي يُعتبَرُ عقبةٌ كبيرة إلى أقصى حدٍّ. أعتقِدُ بأن الموادَّ المُقَدَّمَة في هذا الكِتاب سوف يكون لها قيمةٌ كُبرى بالنسبةِ لكثيرٍ من الأشخاص، ليس فقط لمعرفةِ أنماطِهم الخاصَّة، وإنما تجاوزها (من خلال التعالي أي اختبارُ مستوياتٍ للوعي أسمى) أيضًا. ورغم أنها ليست هي المنهَج الوحيد للنمو الشخصي، لكنها مفيدةٌ جدًا. وهي كمنهَجٍ بعيدةٌ عن أن تكون كامِلَةً، ووفقًا لپالمِر Palmer فهِيَ تُوَضِّحُ بأنه ثمة حاجة لكثيرٍ من البحث التجريبي والعلمي لتطويرِه أيضًا بشكلٍ أفضل، ومع ذلك، وفي الوقت الراهِن فهو لا يزال منهجًا عمليًا ذا قيمةٍ كبرى. وفضلاً عن ذلك، فبالنسبة لي، كانت الحماسَة الأولى لاكتشاف المنهَج قد بدأت تَقُلُّ تدريجيًا بعد خمسة عشرة سنةٍ من التجربة، ولكنني مازلتُ أعتقِد بأن تاسوعيةَ الشخصية تُساعِدُنا على فَهْمِ الآخَرين، والتعَاطُفِ معهم (التواحد معهم والشعور بهم)، والنجاح في إقامَةِ علاقاتٍ معهم. وعلينا التذكُّر مع ذلك بأن كتابًا، ودروسًا أو تعليمًا شخصيًا حول تاسوعية الشخصية، يُمكِنُ له أن ينقُلَ أفكارًا حول الواقِع، وليس الواقِعُ في حدِّ ذاتِه. مثل صاحبِ مأثور الزن الذي ينبِّهُنا إلى أن "الإصبَع الذي يشير إلى القمر ليسَ هو القَمَر". تستطيع البنية المعرفيّة–الانفعاليّة لتاسوعية الشخصية أن تكون مرشِدًا مفيدًا لفهم سياق تحوُّل شخصيَّتِنا، ولكنها ليسَت هي الحقيقة، وليسَت هي الحقيقة الكامِلَة لتمَظهُر كينونتِنا في كل لحظة. إنها نظرية فحسب. يذهَب منهَج التاسوعية إلى ما هو أبعد من المقاربات التقليدية، خصوصًا عندما تذكِّرُنا بأننا نكاد نعيشُ دومًا في عالَمٍ وهمي، وتحتَ رحمَةِ دفاعاتٍ غيرِ ضروريةٍ لنا، وبأننا نقوم بالخلطِ بين الأفكار والمشاعِر فيما يتعلَّقُ بالواقِع من جِهَة، والواقِع كما هو في حدِّ ذاتِه من جِهةٍ أُخرى. وباستخدامٍ مثل هذا الخلط بين الأفكار والمشاعِر في العقل، فبإمكانِ المنهَج أن يكونَ أداةً عظيمةً بالنسبة إلينا جميعًا. ولكنَّنا نرغَبُ بالقول لهؤلاء الذين يستخدمون التاسوعية كبديلٍ عن الحقيقة، وذلك بمُراقَبَةِ أنفسِنا والآخَرين، بأنها مثلُها مثل أيِّ منهَجٍ تصوُّري، بإمكانِه الانحلال مُتحوِّلاً في حدِّ ذاتِه إلى ما هو أكثرُ من طريقة لقَوْلَبَتِنا لأنفسِنا وللآخَرين، ولاستمرارِنا في مُتابعَةِ حياةِ الأوهام كما لو أننا في حُلُمٍ مستيقِظ. وبانتباهِنا لكل ذلك ندرك بأن هذا الكتاب يُقَدِّمُ لنا أداةً ذاتَ اقتدارٍ: وكلِّي رغبةٌ بأن يُحالِفَ القرَّاء الحظُّ عِندَ استخدامِهِم له وأن يتوَصَّلُوا إلى معرفةِ الحقيقة وطبيعتِنا الأكثَر عمقًا. ترجمة: نبيل سلامة *** *** *** ٭ تقديم كتاب هيلين پالمر التاسوعية. ٭٭ پرفسور في علم النفس، جامعة كاليفورنيا في ديڤس Davis. [1] وفقًا لعديد من العلماء فإن الحالات المتغيرة للوعي تتضمَّن ما يُعرَف بحالة الانجذاب أو الانخطاف، وهناك عدة درجات للانجذاب، ويذكر ليو آرتيز Léo Artése أنه "وفقًا للعالم استانلي كريپنر Stanley Kryppner فهناك عشرون حالة من الوعي لعل أشهرها الحالات الثلاثة المعروفة بالحروف اليونانية ألفا، وبيتا، وغاما. أما ميرسيا إلياد Mircea Eliade فيتحدَّث عن الوجد. أما كاستانيدا فيتحدَّث عما يسميه بالـ Nagual. والحقيقة، هناك تسميات كثيرة لمسمى واحد مثل النيرفانا، والسامادهي،... إلخ، والغيبة، والساتوري، والوعي الكوني، والوعي الأسمى، ... إلخ". وهناك عدة تقنيات كاليوغا وغيرها من طرق بوذية وبوذية الزن، وصوفية وروحانية ونسكية لاختبار هذه الحالات المتغيرة من الوعي، كما يذكر أوشو في كتابه الوعي تسعَ حالاتٍ للوعي: فالوعي العادي هو الفاصل بين اللاوعي التحتي والوعي الأسمى؛ والفاصل بين الوعي واللاوعي التحتي هو الوعي الغسقي؛ ثم يأتي اللاوعي؛ وبعده اللاوعي الجمعي؛ ثم ما يسميه أوشو باللاوعي الكوني، أو بعبارة أخرى الذاكرة الكونية. هذا نزولاً، أما صعودًا فيرتفع الوعي مرورًا بانسحاب الحواس من موضوعاتها إلى الداخل وصولاً إلى الوعي التناوبي، أي تركيز الوعي في بؤرة واحدة، مما يقود إلى الوعي التأملي الذي هو واسع رحب بذاته ويقود بدوره أيضًا إلى عودة حالة تركيز الوعي في بؤرة واحِدَة في حركة تناوبية وفقًا لما يصِفُه فلاديمير جيكارنتسيف حول التركيز والتأمل. ثم يختبر المريد الوعي السماوي الأسمى، كما يسميه شري أوروبيندو أعظم فلاسفة الهند الروحانيين، ويردِف أوشو قائلاً: يلي وعي الأنا الأسمى الذي عبِّر عنه بالوعي السماوي الأسمى، ما يسمِّيه بالوعي الجماعي الأسمى، وهو ما يعتبِرُه وعي الله الشخصي كما في الأديان، وما بعده إلى أعتاب الأكوان اللانهائية يوجد الوعي الكوني الأسمى وذلك وفقًا لأوشو. أما بوريس مورافييف الذي تعلم الكثير من بيير أوسبنسكي، وهذا الأخير كان أحد أشهر تلامذة غوردجييف، فيصف أربع حالات للوعي هي: أولاً وعي الباطن، وثانيًا وعي الصحو أو الاستيقاظ، وثالثًا وعي الأنا الأسمى، ورابعًا الوعي المطلق. (المترجم)
|
|
|