"أَوْرَادُ النوستالجيا"
بصائرْ وملاحظات أَوَّليِّة من منجز محمود درويش

مؤمن سمير*

 

بعيدًا عن الأحكام القيمية المرهونة حتمًا بزمنها وبوعي مطلقها ورؤاه، نستطيع بغير قليل من الاحتراز أن نؤكد من خلال المعايشة الفاحصة لتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش الإبداعية وتتبع النتاج النقدي الذي عكف على هذه التجربة ممحصًا ودارسًا ومحللاً، على أنه من العسير تجاهل هذه الصفحة البراقة من دفتر الشعر العربي التي تمثلها مسيرة هذا الشاعر، وعلى إمكانية القبول – عبر مبررات عدة – باعتباره في القلب من الممثلين الأكثر سطوعًا للشعرية العربية: تناميها واضطرادها وتجديدها الدائب للأنهار التي تمتح منها وتصب فيها في آن، على مدى أكثر من أربعين عامًا، هي الفترة ما بين إصداره ديوانه الأول أوراق الزيتون عام 1964 وانتقالاً إلى قصيدته/الديوان/المرثية جدارية عام 2000 وحتى آخر كتاباته التي ينحو فيها – وإن بقدرٍ من الحذر – نحو قصيدة النثر.

إن محمود درويش بغزارة إنتاجه، وانتقالاته النوعية في جسد الشعرية العربية – خاصة في العشرين عامًا الأخيرة – يصلح بقوة لأن يكون أحد الروافد الرئيسية التي تغذي وتكوِّن فضاء النص العربي، أو بالأحرى مرجعية النص.

ينتمي محمود درويش إلى الجيل الثاني في الشعرية الحديثة بعد جيل الرواد، وهو الجيل الذي عمل على تعضيد القصيدة التفعيلية – تمثل جُل أعمال درويش – لكن اللافت أن تجربته لم تستسلم أبدًا أو تكتفي بدور "المعبر" الذي يوصل للقصيدة "الحداثية" العربية الحالية، ولكنها فتحت الآفاق وأدلت بدلوها فيها أيضًا. ونستطيع أن نقول إن شعر محمود درويش يتمثل عدة ملامح بارزة أو حتى أسئلة مكوِّنة وأساسية، يمكن البناء عليها أوحتى نقضها بعد ذلك، نُلخِّصها في خمس لَبِنات:

أولاً: السيرة: سيرة المكان – سيرة الذات

هي سيرة بالأساس ترتبط بفكرة "الحُلم"، حُلم المكان/الرحم في الانعتاق من واقع مشوه إلى واقع أكثر عدلاً وإنسانية. هي فكرة الخروج والعودة، من وإلى ذلك الرحم، وحُلم ذات في التحرك عبر فضاء الزمن والروح. في سيرة المكان يرتبط التاريخ بالجغرافيا، ينضغمان، ليصنعا حالة فريدة من "اليوتوبيا"، لكنها اليوتوبيا القلقة، التي تحمل أساطيرها وواقعها وخوفها في آن واحد. وذات تهفو إلى إعادة تشكيل العالم المحيط بشروطها الخاصة، في إطار نوستالجيا ضاغطة وحالات وأسئلة وجودية دائبة التوتر:

كلما مرت خطاي على طريق
فرت الطرق البعيدة والقريبة
كلما آخيت عاصمة رمتني بالحقيبة
فالتجأت إلى رصيف الحُلم والأشعار
كم أمشي إلى حُلمي فتسبقني الخناجر
[1].

ثانيًا: المرأة /الرحم/الأرض

تبرز المرأة كمعادل مقدس للشتات وأيقونة للحلم، تنقل اليومي، العابر، الحسي التجسيدي إلى فضاء الأسطورة. وبالعكس تجسد الأسطورة في فعل حسي تمتزج فيه الأسئلة الكبرى بالمطالب المشروعة بهويةٍ: هي من اللصائق بالجلد والروح:

قالت المرأة العاطفية:
كل شئ يلامس جسمي
يتحول
أو يتشكل
حتى الحجارة تغدو عصافير
[2].

***

أنساكِ أحيانًا، لينساني رجال الأمن
يا امرأتي الجميلة
تقطعين القلب والبصل الطري
وتذهبين إلى البنفسج
فاذكريني قبل أن أنسى يدي
[3].

ثالثًا: ميكانيزم شعري طيِّع ومتسع وفضفاض

ميكانيزم قصيدي يشرب نخب الحداثة ولكن بخصوصية درامية تتمحور حول جماليات الإنشاد والإصاتة، بنفس درجة فتح أفق المسرود وكسر كل قداسة زائفة حول تابوهات ماضوية تشكلت في أزمنة الردة. مع تحميل الكلمة بكل بذور الانفجار الديناميكية التي تستقي نورها من تراث إنساني وتاريخي وأسطوري شاسع وممتد عبر مونولوجات وديالوجات تراعي خطاب التلقي ولا تفرط في تعاليها، ذلك المبرر عند آخرين.

أخي أحمد
وأنت العبد والمعبود والمعبد
متى تشهد
متى تشهد
متى تشهد
[4].

***

سنخلي لك المسرح الدائري
تقدم إلى الصقر وحدك فلا أرض
فيك لكي تتلاشى،
وللصقر أن يتخلص منك،
وللصقر أن يتقمص جلدك
[5].

***

سألتك: موتي
- أيجديك موتي؟
- أصير طليقًا
لأن نوافذ حبي عبودية
[6].

رابعًا: حادي القبيلة/الشاعر النبي

إذا قسمنا تجربة محمود درويش إلى قسمين متمايزين، الأول يمتد من الستينات إلى الثمانينات والثاني من الثمانينات إلى الصمت والصعود، نرصد أن الذات الشاعرة في المرحلة الأولى تتقمص بجلاء دور المنشد، صاحب الصوت العالي الذي يقود القطيع ويخرج صوت الثورة من القلوب عبر حنجرته ويهدر في الآفاق شاديًا. ولكن ما نؤكد عليه أنه حتى في المرحلة الأخيرة، الأهدأ والأكثر تعقيدًا شعريًا والأبلغ، استمر درويش يقوم بهذا الدور المتبصر وإن بتقنيات وآليات أقل زعيقًا وأكثر قربًا من العمق الإنساني، إذ كبر المغني وامتلك بعدًا رؤيويًا يبتعد شيئًا فشيئًا عن ضجيج الرحلة الطويلة الأولى التي مزجت الصوت الفردي بالصوت العام، الجمعي:

لم يبق في تاريخ بابل ما يدل على
حضوري أو غيابي
باب ليحمل أو ليخرج
من يتوب ومن يئوب
إلى الرموز
باب ليحمل هدد بعض
الرسائل للبعيد
[7].

خامسًا: مساءلة الشعري للسياسي

حيث الخلود في مواجهة الآنية، وصنع الحلم في صراع ضارٍ مع قتل الحلم. ومن محاكمة القريب، المتاح إلى محاورة السواحل... وهو ما يبرز في المرحلة التي أعقبت خروج محمود درويش من الواجهة السياسية بعد اتفاقية "غزة وأريحا" فإذا كان جل المرحلة السابقة يقبع تحت مساءلة الشعري للهوية والوتر والذاكرة ولعدوٍ عام بقدر ما هو خاص بالنسبة لدرويش، فإن ما أعقب تلك المرحلة هو السؤال السياسي الأدق والأخص والأعمق، حيث ألاعيب وحيل وانطلاق الشعرية التي تحمل داخلها الوشائج الإنسانية التي تتجاوز مقولة "شاعر الكفاح المسلح" إلى "الشاعر الإنساني".

*** *** ***


 

horizontal rule

*  مدير تحرير مجلة فواصل الثقافية الإقليمية ببني سويف.

[1]  ديوان أعراس.

[2]  ديوان محمود درويش، دار العودة، 1987، ص ص 495 496.

[3]  ديوان أعراس.

[4]  ديوان مديح الظل العالي.

[5]  ديوان ورد أقل.

[6]  ديوان محمود درويش، ص 501.

[7]  ديوان هي أغنية.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود