|
الشعر بلباس الحب
هل انتهى من الكتابة عن الحب؟ وهل تخلى الشعر عن لغته الأنيقة والرشيقة التي تطرب السمع وتدغدغ الأحاسيس وترتاح لها النفس ويطمئن لها العقل؟ قد يكون الجواب نعم. لقد انتهى كل ذلك لأن الحياة أصبحت أثقل وأعمق من أن تحتويها مجموعة من العواطف والأحاسيس، إلا أن البعض الآخر يرى غير ذلك إذ إن الكتابة في الحب وعنه دليل على إنسانية الشعر نفسه. والقصيدة التي بين أيدينا من مجموعة الشاعر هاشم الزامل الموسومة إعافات حب أولية تنحو هذا المنحى من دون أن تفقد بريقها الشعري وأناقتها اللغوية. يركز الشاعر على العين، الجهاز التصويري الذي يستطيع أن يعمل على جهتين مختلفتين: جهة الإبصار إذ لولاه لبدت الحياة ظلمة مستديمة، وجهة الكشف والانكشاف والتحليل، إذ به تُُقرأ أسرار الذات الداخلية أو تنكشف به أسرار الآخر. إذًا، التركيز الحاصل على العين مرده ذلك التأثير الذي يلعبه هذا العضو في الذات وفي الآخر، والذي بسببه توضع الكثير من الاستنتاجات المبنية على تلك الرؤية.
فأنا أعرف من عينيك
وأنا لولاك لم أكتب لاحظ أن "العين" لم ينظر إليها فيزيولوجيًا بل روحيًا. إنها مصدر الإلهام والإيحاء الذي هو نقطة البدء والانتهاء. فهي المانحة للآخر اتخاذ القرار، لهذا استعمل الشاعر "حرًا"، إذ إن العين التي احتوته فتحت له آفاقًا في الرؤية لم يألفها من قبل، إنها هي التي أخذته إلى أماكن لم تطأها أقدامه فرأى حياة جديدة لم يرها سابقًا، لهذا أصبح حرًا، وحين أصبح حرًا أمتلك إرادته واستطاع أن يصوغ الكلمات قصيدة كاملة. إذًا، عملية اكتمال الرؤية قادت إلى اكتمال الصيغة\القصيدة، وبهذا حققت العين بعديها في الذات وفي الآخر واستطاعت أن تكسب تلك الذات بعدًا جديدًا ودفقًا رؤيويًا مكنها من تكوين ما لم يكن. إن الشاعر يوجه خطابه إلى آخر ندركه سياقيًا بواسطة ضمائر المخاطبة، ويمكننا تحديده بإمرأة، إلا أن ضمير المخاطب هنا لم يكن إجراءً تقنيًا بقدر ما هو إجراء نفسي مشخصن حيال نصف الوجود الآخر. إن هذا الإجراء مستند إلى مسألة فكرية، بمعنى نظرة الشاعر إلى الآخر المشارك له في الوجود والتي يمكن أن ننفذ بواسطتها إلى مجموعة من الحقائق: 1. إن الشاعر يقيم وزنًا مهمًا للمرأة، يتمظهر في البعد الفكري الذي يتحقق بوساطة تواشج القضية الروحية ببعدها الشفيف مع مآلاتها. 2. إن ربط المرأة بكل المتحصلات الإيجابية الجديدة المنبثقة من تأثيرها النوعي بمجريات الأمور أدى إلى أن تأخذ المساحة التي تستحقها من تفكيرنا كونها مركزًا وليست هامشًا. 3. إن هذا الاحتفاء بالمرأة هو احتفاء غير اعتباطي بل إنه يشكل بؤرة أساسية وواعزًا للغير في تغيير المنهجية التعاملية معها في ضوء المتحصلات الحياتية التي تستشعرها ذاتًا غير اعتيادية هي ذات شاعر. 4. إن اقتران المرأة بالشعر بنحو خاص له مرجعية تاريخية يعطيها القوى الخفية في أن تقوم بكل الطقوس المثالية التي تتمظهر في القصيدة والتي هي طقوس تحويلية. إذًا، التعالق الحاصل بين حضور المرأة وانبثاق القصيدة تعالق يتوخى منه تحصيل المعرفة الكلية بواسطة دخول حرف الجزم والقلب "لم"، إذ ينعكس تأثير المرأة بنحو إيجابي على البعدين المكاني والزماني لأنها تشغل كل الأمكنة كونها الحاضنة الرئيسة.
قبل عينيك إن المساحة التي تشغلها المرأة داخل الزمن بنحو عام لا تنفك مرتبطة مع البنية المكانية على الرغم من ذوبان أحدهما في الآخر لأن البنية النسقية بنية متوازية ما بين الاثنين وهي بعد ذلك متأتية من فعل إنساني وليس بواسطة الاستطالات الوصفية لتلك الأشياء. وفي البنية الصوتية يتكرر حرف الهاء مرات عديدة من أجل أن يكون الانفتاح على الموضوعة الرئيسة كبيرًا، كما ويساعد هذ الحرف على التنفيس عن مكنونات الإنسان الضاغطة عليه. ويخلق النص تزاوجًا بين عملتي الحضور والغياب على الرغم من أنهما غير واضحين بنحو جلي، إلا أن ذلك يمكن استشفافه بواسطة الآفاق التي يخلفها حضور المرأة في الأشياء. ويضج النص بالصور الحسية ذات المهيمنات الظلالية التي تضع المرأة بديلاً موضوعيًا عن كل الخيبات الخاسرة كونها تشكل لحمة الشعر وسداه.
قبل عينيك محال إن حالة الانكفاء التي تخلقها المرأة نتيجة تنحيها عن المشهد الإنساني تعادل عملية الانحطاط الحاصلة في كل الهيكل الشعري لأنها الملهم الذي يتحقق به الابتداء والانتهاء. هذا الحلول الروحي يضعنا في قلب الحضور الفاعل لهذه الذات الإنسانية التي هي مركز الكون وأفقه الأوسع. *** *** *** |
|
|