|
«ميدان التحرير» فاتحة لبدايات القرن؟
-1- لا على مثال. نسيجُ وحده: تلك هي الخاصية الأولى لما حدث في «ميدان التحرير»، في القاهرة. لما حدث أيضًا، قبله، في تونس الخلاص من النموذج الغربي في النضال من أجل التحرر. ثم: لا عنصرية. لا تخندق باسم الدين. لا تعسكر، ايديولوجيًا. ولا طبقية. شعبٌ بكامل فئاته، بكامل أجياله، بكامل اختلافاته وتنوعاته، يصرخ بصوت واحد: الحرية. إنها حركة الحياة، متفجرةً في البيوت والشوارع. في الطرق والساحات. في المدارس والجامعات. في الحوانيت والحقول. إنها الانتماءُ الى النبض الخلاَّق في الكائن البشري. إلى المعنى الذي لا يكون الإنسان إنسانًا حقًا إلا به. الانتماء إلى الحرية. الحرية قبل الرغيف: ما يكونُ الخبزُ إذا كانت العبودية هي التي تقدمه؟ وقبل العمل: ما معنى العمل إذا لم يكن نشيدًا يتصاعد من الجسم والروح معًا، في نَفَس واحد؟ إنها عفوية الحياة مندرجةً في عفوية الحركة، مبثوثة في الفكر والجسد، موجةً واحدة. -2- لا عُنفَ، لا تخريبَ، لا تدمير: تلك هي الخاصية الثانية. صداقة وفرحٌ وحب. وعلينا هنا أن نتأمل ونعتبر. كان التاريخ السياسي العربي يتسمُ، غالبًا، منذ بداياته، بالعنف. مدارُ التأمل والاعتبار هو أن هذا التاريخ لا يزال حتى الآن مثقلاً بجميع مشكلاته وأمراضه. حتى ليبدو أن الخَلَف لا يرث إلا العنف. وانظروا كيف أنه لا يزال قائمًا وفعَّالاً حتى الآن. من المحيط إلى الخليج. حتى أنه ليبدو أيضًا أن العرب هم أولاً ضد العرب، ضد أنفسهم، ضد بعضهم بعضًا. حتى ليبدو أيضًا وأيضًا أن الأجنبي العدواني المستعمر يقاتلُ العرب بالعرب. وتلك هي أسلحته: المذهبيَّة، الطائفية، العنصرية، العشائرية، العائلية وشهوات السلطة. كيف نتملك السلطة ونستأثر بها: تلك هي القاعدة في حياة العرب وثقافتهم. أما كيف نعيش؟ كيف نتعلم؟ كيف نعمل؟ كيف نفكر؟ كيف نحارب الفقر والبطالة؟ كيف نبني دولة ومجتمعًا؟ كيف نتقدم؟ فتلك أسئلة ثانوية، وغالبًا ما تكون عند أهل السلطة حجة للفتك بأعدائهم الذين يعارضون سياساتهم. هكذا، لم نستطع نحن العرب في تاريخنا كله أن نؤسس دولة المواطنة. الدولة التي يكون فيها الناس سواسية أمام القانون، أيًا كانت انتماءاتهم الاجتماعية أو الدينية أو الفكرية. وإنما أسسنا سلطة. سلطة القبائل والمذاهب. سلطة الغلبة: العصبية الأكثر قوة وفاعلية والتي تتناسلُ الآن في الحزب الواحد الأحد، وقائده الواحد الأحد. -3- الخلاصُ من الماضي وبناء المجتمع بوصفه كلاً واحدًا لا يتجزأ، بوصفه مجتمعًا مدنيًا، تتغلَّب فيه الرابطة الإنسانية الاجتماعية على جميع «الحبال» الأخرى، الدينية والإثنية على الأخص، وبدءًا من ذلك، العمل على بناء الديموقراطية: تلك هي الخاصية الثالثة لما حدث في «ميدان التحرير» ولما حدث في تونس. تُرى، هل تكمن في هذه الخاصيات الثلاث فاتحةٌ لبدايات عصر عربيٍّ جديد، يكون القرنُ الحادي والعشرون طريقه المضيئة العالية؟ -4- ما حدث، إذًا، في القاهرة بين 25 كانون الثاني/ يناير، و11 شباط/ فبراير 2011، وما حدث قبل ذلك في تونس، لا يمكن أن يوصف بأقل من كونه خرقًا للعادة. لا في تاريخ مصر وحدها. لا في تاريخ تونس، وحدها. وإنما كذلك في تاريخ العرب. وهو، إذًا، حدثٌ مؤسِّسٌ (أو يجب أن يكون مؤسِّسًا)، بالمعنيين التاريخي والثقافي–السياسي. وتكمن فرادة هذا الحدث في أنه يُبطلُ، للمرة الأولى، عندنا نحن العرب، منطق العلاقة بين المحكوم والحاكم، بين الشعب والسلطة. دائمًا، كان هذا المنطق إملاءً من فوق. كان منطق «خليفة» و«مبايعين». سيدٍ ورعيَّة. قائد وتابعين. وكانت الثقافة التقليدية تسوِّغ هذا الإملاء، وتدافع عنه، وتتجنَّد لترسيخ دعائمه، وتحضُّ عليه، وتأمر به. هذا الحدثُ، أقول، خَرَق هذا المنطق: إرادة الشعب، مدنية الحياة والأرض، هُما الإملاءُ. وهما مادة الحق والحقيقة. هكذا، يفتتح هذا الحدث أبوابًا كثيرة متنوعة لتأويلات كثيرة ومتنوعة. أيكون، مثلاً، (تأويلاً بين التأويلات الممكنة) بدايةً لتأسيس مرحلة جديدة في الحكم، مرحلة الديموقراطية والمجتمع المدني، مجتمع العدالة والمساواة، مجتمع الحقوق والحريات؟ أقول: «بداية لتأسيس»، لأن الديموقراطية تنهض على ثقافة نفتقر إليها نحن العرب. ثقافة الاعتراف بالآخر المختلف في قلب المجتمع الواحد، لا بالمعنى الأخلاقي التسامحي، بل بالمعنى العضوي–الاجتماعي. وهي إذًا، ثقافة تنهض على هدم الواحدية، الأثيرة في المجتمع العربي، وبناء التعددية المنكَرة أو المستنكَرة. والديموقراطية، إذًا، نضال طويل وشاق. نضالٌ متعدد الوجوه أخلاقيًا واجتماعيًا، ثقافيًا وإنسانيًا. هل نثق بهذا التأويل؟ هل نأمل؟ من جهتي، آملُ – غير أن أملي ليس إلا عملاً متواصلاً من أجل أن يسير هذا الأمل على طريق التحقق. هكذا يحتِّم علينا التأسيس للديموقراطية سؤالاً في مستواها: هل يمكن أن نبني، نحن العرب، مجتمعًا جديدًا يكون فيه معيار المساواة بين أبنائه، لا الانتماء الإثني–القبلي، بل الانتماء المجتمعي الإنساني، لا المذهبية الدينية وشَرعها، بل المدنيَّة وقوانينها؟ -5- قلتُ: آمل. وأقول مرة ثانية، دعمًا لهذا الأمل، واحتضانًا له، أن ما سيؤول إليه الحدثُ التونسي–المصري، لن يكون في أسوأ حالاته، أكثر سوءًا مما كان قائمًا في ظل النظامين الآخذين في الانهيار (لم ينهارا، كليًا، حتى الآن). باسْم هذا الأمل، أقرأ هذا الحدث، فأرى ألاَّ خوفَ من الحركة والتغيُّر. الخوف كلُّه من الجمود. من الثبوت والسُّبات. من الرضوخ والخضوع. من التسويات والمساومات التي تحوِّل الشعوب إلى ريشةٍ في مهبِّ الرياح السياسية، والتي تمتهن كراماتها وحرياتها، وتصادر طموحاتها، وتحاصرها في قواويش الفقر والجهل والبطالة. في الحركة والتغيُّر فاتحة تتيح لعمَّال التقدم ومثقَّفيه أن يقبضوا على الحاضر، وأن يسيروا يدًا بيد مع المستقبل. باسم هذا الأمل، إذًا، اقرأ في ذلك المد البشري التونسي–المصري، أن ثقافة السلطة العربية في العصر الراهن لا تزال استمرارًا مكينًا لثقافة الخلافة وآلاتها الاستعبادية، وأنها في صورتها السائدة أدنى بكثير حتى من صورة الخلافة العثمانية. غير أنني أقرأ في الوقت نفسه أن في هذا الحدث بُعدًا مدنيًا، وأن فيه مواطنةً تتخطى الانتماء الديني بحصر الدلالة. ذلك أن الدين مواطنةٌ في الإيمان، أو في الوطن. وهذا الحدثُ قام باسم الوطن والمجتمع، دون أن يعني ذلك رفضًا للإيمان. ويعرف الذين أنجزوا هذا الحدث أن الإيمان يقدِّم لبعضهم حلولاً كاملةً لهمومهم الغيبية، ولعلاقاتهم مع الغيب. وهم يحترمون هذه الحلول والمؤمنين بها، غير أنهم قاموا بحدث من أجل تحقيق حلول أخرى، يتوحدون في سبيلها، ويموتون من أجلها. حلول الحياة والوجود. حلول السياسة والاقتصاد. الفقر والبطالة وتوزيع الثروة والقضاء على الفساد. حلول العمل والإنتاج. التقدم والبناء. حلول الإبداع، فكريًا وماديًا. وباسم هذا الأمل أقرأ في ما حدث أن ذلك المد البشري يعرف حتى درجات العذاب والمرارة، عدائية السياسات الغربية، وبخاصة الأميركية، وعدوانيتها، تجاه القضايا العربية الأساسية، وانحيازاتها إلى كل ما ومن يستهين بهذه القضايا، لا في فلسطين وحدها، وإنما في البلدان العربية كلها. اقرأ كذلك أن هذا المد البشري يعرف لامبالاة هذه السياسات بحقوق العرب وحرياتهم، وصمتها الكامل على فساد الأنظمة وطغيانها. ومع هذا يؤكد هذا المد البشري أن ما قام به لم يكن عداء للسامية، أو للشعوب الغربية، أو للحضارة الغربية ومنجزاتها. وإنما كان باسم الحرية وللحرية، وتمجيدًا للحرية في وحدةٍ شعبيةٍ فريدة اسمها: وحدة الحرية. مدٌّ بشريٌّ لا يخترق دساتير «الخلافة» وحدها، وإنما يخترقُ أيضًا دساتير تلك السياسات الغربية–الأميركية. مدٌّ بشريّ، يُدرك أن هذه السياسات لا تُربّي في البلدان العربية، ولا تحتضن إلا «بيوض» العنف والعدوان. البيوض التي تعمل على تحويل البشر إلى قطعان. إلى تجميد المجتمعات العربية في أوضاع تستنفد طاقاتها في صراع من التآكل والتفتت والتخلُّف. -6- أصِلُ، باسم هذا الأمل، إلى هذه الخلاصة: مهما حلَّلنا الواقع العربي، اقتصاديًا واجتماعيًا، سياسيًا وثقافيًا، فإن هذا التحليل سيظل جزئيًا وسطحيًا، ما لم يكتمل بتحليل آخر يفكك البنية الدينية العميقة المتشعَّبة في المجتمعات العربية. تحليل يؤدي إلى توكيد أن الدين هو كذلك حرية، لا عبودية. لا تتأسس الديموقراطية إلا بالحرية – حرية الفرد. والحرية هنا ليست مجرد التعبير بالكلام وحده. إنها كذلك حرية التعبير بالجسم: حرية التنقل، والتجمُّع، والسفر، والتنظيم، واللغة. ونعرف جميعًا أن ما يحول دون هذه الحرية لا يتمثل في السلطة السياسية وحدها، وإنما يتمثل قبل ذلك في البنية الدينية ذاتها، قيمًا وعلاقات، اجتماعًا وثقافة. إذا لم يقدر الفرد العربي أن يعيش هذه الحرية وأن يمارسها، فلن يكون المجتمع العربي حرًا على أي مستوى. وسوف يظل ممزَّقًا ضائعًا بين «الأصولية الدينية» من جهة، ونتاجها الآلي: «الأصولية السلطوية»، من جهة ثانية، والحاجة الملحة إذًا، باسم هذا المد البشري، وباسم ذلك الأمل، تكمن في العمل على الفصل الكامل بين العالم الديني، والعالم السياسي الثقافي. فهذا الفصل هو، وحده، الذي يتيح البدء ببناء الديموقراطية، وبناء مجتمع المدينة والمدنية، مجتمع الإنسان – حقوقًا وواجبات وحريات. ولنا في التجربة العراقية (وقبلها الإيرانية) ما يجدرُ، دينيًا ومدنيًا، بالتأمل والاعتبار. هنا تكمن المشكلة الأم. الخميس، 17 فبراير 2011
|
|
|