|
الساعات العشرون الأخيرة من حياة ستالين:
في الخامس من آذار، مات ستالين إثر نزيف دماغي. رحل دكتاتور. وقد وضع موته حدًا للموجة الجديدة من الترهيب الذي، واحدًا إثر آخر، بدأت يتفكك في الاتحاد السوفياتي. وبكلمة أخرى كل الهيكل التوتاليتاري بدأ يترنح. خمسون عامًا بعد وفاته، خصصت مجلة C'Histoire ملفًا ضخمًا عن الدكتاتور الأب، تناولت فيه أيامه الأخيرة، وجوانب من سلوكه وحكمه وجرائمه وصراع الخلافة بعده. اخترنا الجانب الأول: أيام الدكتاتور الأخيرة، كما رواها عدد من "قياداته" وابنتيه والمقربين منه. أي أننا سنتناول ما حدث بين شباط حيث كان يتمتع ستالين بصحة جيدة وبين آذار يوم موته. لماذا انتظر مساعدوه ساعات لاستدعاء الأطباء؟ وحول سرير الراحل صراع بلا رحمة حول من سيخلفه. فإعلان موت ستالين عبر راديو موسكو في السادس من آذار، في الرابعة صباحًا كان له وقع مدوٍ وذهول لدى الكثير من السوفيات: غياب "مرشد الحزب الشيوعي والاتحاد السوفياتي والرفيق جوزف فيساريونويتش ستالين" سجل نهاية حقبة. لكن الشعور بالقلق سيضر المجتمع الروسي إزاء غموض المستقبل. فستالين كان يتصرف وكأنه كان خالدًا، وأن مسألة خلافته لم تكن لتطرح إطلاقًا: "ماذا عساكم تفعلون من دوني، أنتم الذين أكثر عجزًا من الهررة العمياء الوليدة؟". منذ نهاية الستينات يستند المؤرخون إلى شهادتين مهمتين حول أيام ستالين الأخيرة: شهادة ابنته سيلتانا وشهادة نيكيتا خروتشوف. لكن في عام وإبان ظهور "الغلاسنوت" (الشفافية) الغورباتشوفية أضيفت شهادة مهمة لأحد حراس ستالين الكسندر ريبين الذي حمل بعض العناصر الجديدة التي وفرت، كما يروى، معلومات تفيد أن بيريا يمكن أن يكون قد عجَّل في موت الدكتاتور – الأب – الرفيق. هنا يروي كل من خروتشوف، وحارس ستالين، وابنته، وقائع الساعات الأخيرة في حياة رائد الدكتاتوريات الشمولية الاستبدادية في القرن العشرين في أوروبا... وعندنا أيضًا. ك. م. * * * شهادة خروتشوف في شباط، عمل ستالين طويلاً في مكتبه في الكرملين. في الليل، وعلى عادته، شاهد فيلمًا (وكان ذلك من أهم هواياته المفضلة) برفقة بيريا، مالينكوف، خروتشوف وبولغانين. بعدها، ذهب الجميع لتناول الحساء – وهذا تقليد آخر شبه يومي – في بيت ستالين الريفي في كونتسيو.
وحسب خروتشوف، انتهى العشاء قرابة الساعة الخامسة أو السادسة صباحًا: "كان ستالين
ثملاً كفاية ومزاجه رائعًا. وهكذا، بعد هذه "الجلسة"، عدنا الى منزلنا، سعداء، لأن
ما من شيء حدث. حفلات العشاء عند ستالين لا تنتهي دائمًا نهاية سعيدة". انتقل خروتشوف بسيارته إلى كونتسيو حيث التقى معاونيه. وقال له الحرس إنهم كانوا قد أرسلوا خادمة ستالين ماتريونا العجوز لتحصل على أخبار منه. فوجدته تلك ("ولم تكن ذكية كفاية إنما مخلصة ومتفانية" حسب خروتشوف) واقعًا خارج سريره نائمًا على الأرض. حينها، مدده الحرس على أريكة في الغرفة المجاورة. وفي رواية خروتشوف أن الحرس اعتقدوا أن ستالين كان ثملاً: "حين علمنا بالأمر، قررنا أنه من غير اللائق أن نظهره (ستالين) في هذه الحال المزرية وغير اللائقة". وعاد كل واحد إلى منزله. بعد ساعات، في الساعات الأولى من فجر آذار، عاود مالينكوف الاتصال بخروتشوف ليقول له إن الحرس عاودهم القلق الشديد من جديد. خروتشوف، بيريا، مالينكوف، وبولغانين وأيضًا كاغانويتش ووروشيلو عادوا من جديد إلى كونتسيو بعد استدعائهم بواسطة التلفون، وكانوا قد اتصلوا بأطباء. تقرر أن حالة ستالين سيئة وخطيرة، وقرر حينها مساعدوه الستة الكبار تنظيم حراسته من أربع وعشرين ساعة على أربع وعشرين، اثنين اثنين ومداورة، قرب سريره. * شهادة حارسه الخاص أما رواية حارس ستالين الخاص فتختلف عن رواية خروتشوف في نقاط عدة. حسب الكسندر ريبين، غادر خروتشوف والمعاونون الآخرون منزل ستالين الريفي في الأول من آذار الساعة الرابعة فجرًا بعد أن تناولوا بضع كؤوس من عصير الفاكهة. عند الظهر، بدأ الحارس الخاص أمام باب ستالين يقلق لعدم سماعه أي حركة من ناحية مسكنه. وكان ممنوعًا بشكل قاطع أن يصعد أحد ليرى ستالين من دون أن يكون مدعوًا مسبقًا. قرابة الساعة السادسة والنصف مساء، أضيء النور في مكتبه، اطمأن الجميع بانتظار مكالمة منه. كان الوقت يمرُّ من دون أن يعطي ستالين أي إشارة. قرابة الساعة الحادية عشرة ليلاً، وصل القلق إلى أقصى درجاته، لكن ما من أحد كان يجروء على فتح بابه. أخيرًا، وعند وصول البريد الخاص من الكرملين إلى المنزل الريفي، أعطى ذلك حجة للمفوض لوزغاتشيف بأن يدخل المسكن. وجده ممدًا على سجادة بالقرب من مكتبه. كان عاجزًا عن الكلام، من دون أن يفقد الوعي. وأشار ستالين برأسه بالإيجاب حين سأله الحرس إذا كان ممكنًا أن ينقلوه إلى الأريكة. بعدها تم الاتصال تلفونيًا بوزير أمن الدولة السيد انياتيا. ونصح هذا الأخير باستدعاء بيريا أو مالينكوف. لم يتمكنوا من إيجاد بيريا. ومن دونه، لم يصل مالينكوف إلى قرار. إذ أنه كان ممنوعًا، منذ "قضية الأطباء المسممين"، من السماح لأي طبيب بالاقتراب من ستالين من دون إذن مسبق من بيريا. أخيرًا، تم العثور على بيريا وكان في واحدة من الشقق التي يمتلكها. أعطى أمرًا إلى الحرس بعدم التصريح بالموضوع إلى أي كان، مشيرًا إلى أنه قادم مع أطباء. لم يصل قبل الساعة الثالثة فجرًا، يوم الاثنين آذار، ولم يكن برفقته إلا مالينكوف. وكان ستالين يبدو حينها وكأنه يغط في نوم عميق. واتَّهم بيريا الحرس بأنهم اختلقوا قصصًا من لا شيء، وعلى الرغم من اعتراضات لوزغاتشيف على كلامه مؤكدًا أن ستالين شديد المرض، غادر بيريا بصحبة مالينكوف. ولم يظهر معاونو ستالين في منزله الريفي قبل الساعة التاسعة صباحًا، وكانوا بصحبة أطباء. وأُعطيت له أول الاسعافات الأولية، قرابة عشر ساعات بعد اكتشاف إصابته بالمرض، وكان نزيفًا في الدماغ. * ذكريات ابنة ستالين مذكرات سيلتانا اليلوييا عشرون رسالة إلى صديق، لا تساعد على الحسم في الروايتين المتناقضيتين الخاصتين بخروتشوف وبحارس ستالين الشخصي. وصلت ابنة ستالين إلى كونتسيو في صباح الثاني من آذار وقد وصفت اللحظات الأخيرة من حياة والدها بالكلام الآتي: "كان النزيف قد اجتاح دماغه. وفي الساعات الثانية عشرة الأخيرة، بدا واضحًا النقص في الأوكسيجين. بدأ وجهه يزداد اسودادًا. وكان نزاعه مع الموت رهيبًا. كان يختنق أمام نظرنا. وفي لحظة، قبل النهاية، فتح فجأة عينيه ليضم بنظره كل من كان حوله. كانت نظرة مخيفة، ما بين الجنون والغضب، وكان الرعب يملأه أمام الموت وأمام وجوه الأطباء المنحنين فوقه. [...] وفجأة، - حصل ما لم أفهمه وما لا أفهمه حتى اليوم من دون قدرتي على نسيانه – رفع يده اليسرى، وكأنه يملي علينا أمرًا ما من فوق، وكأنه يلعننا". وفي حديث مع سيلتانا، بعد عام على كتابتها عشرون رسالة إلى صديق، عادت إلى النقطة البارزة في القضية وأضافت إلى شهادة ريبين: إن أكثر من عشر ساعات مرَّت ما بين لحظة اكتشاف مرض ستالين ووصول الأطباء لمساعدته. * الرواية الرسمية مع اعتراف سيلتانا أنه لم يكن ممكنًا انقاذ والدها في تلك اللحظة إلا أنها اتهمت بيريا وألقت عليه كامل المسؤولية في تأخيره من دون أن تشير إلى أحد غيره من أعضاء الحرس والمسؤولين. وذكَّرت أيضًا أنه تمامًا بعد موت ستالين، "سارع بيريا إلى البهو الخارجي. ولم يكسر الصمت الذي كان يخيِّم على الغرفة التي تجمع الكل فيها من حول سرير الميت إلا صوت بيريا العالي والمنتصر: "كروستاليي، أعطني سيارتي!"، ثم أعطى أمرًا بمغادرة كل أعضاء الحرس والمرافقين الشخصيين لمنطقة كونتسيو حيث المنزل الريفي وهدد الجميع بالمعاقبة في حال اعترف أحدهم بأي تفصيل أو صرح بأي كلام معارض للرواية أو النسخة الرسمية: "قضى ستالين جرَّاء إصابته بنزيف دماغي حاد، الثلاثاء في الثالث من آذار عند المساء، حين كان يعمل في مكتبه في الكرملين". هكذا تلقى الشعب السوفياتي نبأ مرضه في الرابع من آذار. وتلى البيان كلام يدعو الشعب السوفياتي إلى "اثبات وحدتهم وتضامنهم وقوة قلبهم وعزمهم في أيام المحنة تلك". بعدها، بدأ الراديو بث موسيقى كلاسيكية من أعمال جان سيباستيان باخ. بعد ثمان وأربعين ساعة، الجمعة آذار، وفي تمام الساعة الرابعة عند الفجر، سُمعت دقات على الطبول قبل الإعلان القدري: "قلب زميل لينين في السلاح، حامل راية عبقريته وقضيته، المربي الحكيم وقائد حزبه الشيوعي والاتحاد السوفياتي، توقف في الخامس من آذار، في الساعة التاسعة وخمسين دقيقة، في موسكو". *
كانون الأول، آذار النسخات أو الروايات المختلفة حول أيام ستالين الأخيرة، وعلى الرغم من تباينهما، فهي كلها تعترف بأن "أقرب المقرَّبين منه من أعوانه" لم يسرعوا أبدًا لنجدته، بل تأخروا بشكل متعمد في طلب تدخل الأطباء. وبعدها، حاولوا جميعهم أن يمتصوا الوقت الضائع وأن يفرغوا الساحات بمحاولتهم التضليل في التوقيت والظروف. ربما أنهم حاول جميعهم التملُّص من الموضوع مخافة أن يقع اللوم أو أن توضع المسؤولية عليهم في خطأ ما في معالجة ستالين. ومن المحتمل أكثر أن البعض منهم وبسبب التعرض دومًا إلى ظلم ستالين الطاغية والهذياني، أراد له الموت. ومن كل الورثة المحتملين، كان بيريا الأكثر تعرضًا لهذه الأمور، وأيضًا الأكثر عرضة للاستفادة من اختفاء الديكتاتور. خروتشوف تمامًا مثل سيلتانا اليلوييا وصفا بشكل متشابه تصرف بيريا في أيام ستالين الأخيرة، وبكلمات متشابهة: "كان وقحًا ومنتصرًا". كما كتب خروتشوف: "حين وقع ستالين أسير مرضه، حام بيريا من حوله وبصق كل كراهيته له وغطاه بسخريته وتهكُّمه" [...] "لكن لم يكن ذلك الأجمل، إذ ما أن ظهرت ملامح الوعي على وجه ستالين موحية بأنه قد يتعافى، ركع بيريا أمامه على ركبتيه وأمسكها بيده وراح يطبع عليها القبلات. لكن، وبعد أن عاد ستالين ليغرق في غيبوبته ويغمض عينيه، انتصب بيريا وبصق عليه...". ومهما كانت الحملة قوية ضد الرجل الذي سيكون له دور فيما بعد وسيظهر وكأنه "الخائن المطلق"، فالجو كان خانقًا بالتأكيد في ذاك العالم المقفل تمامًا كما وصفه ميكويان في مذكراته: "كل واحد كان حساسًا تجاه فكرة أن يجد نفسه بين يوم وآخر ممثلاً لبلد امبريالي تمامًا كما كان يحلم ستالين...". هذا المخلص لستالين وهو عضو في مكتبه السياسي، عاش هذه التجربة في الأشهر القليلة التي سبقت موت ستالين، تمامًا مثل اتيشيسلا مولوتوف، مخلص من بين المخلصين، والعضو في المكتب السياسي ووزير الخارجية في الاتحاد السوفياتي حتى نهاية الأربعينات، [...] وبعد صراع وقع خلفاء ستالين في حيرة في قضية معينة وهي: هل يجب التوجه إلى كونتشيو في كانون الأول من كل عام للتهنئة بعيد ميلاد ستالين؟ هل عليهم أن يكتبوا له من جديد رسالة متأنقة مثل بقية الرسائل الموقعة والمحفوظة في أرشيف ستالين والتي تضيء على العلاقات البطريركية داخل الدائرة الحاكمة؟ ذات يوم، كتب له ميكويان: "أفعل أي شيء من أجل أن ألتقط كل الدروس المستخلصة من انتقاداتك القاسية والمحقة في آن لتساعدني على العمل تحت راية حكمتك وقيادتك الأبوية". أما مولوتوف الذي أوقفت زوجته عام وحكم عليها بالسجن خمسة أعوام بسبب اتهامها بالتعامل مع الخونة، فقد عمد إلى وعد ستالين "بأن يضع حدًا وينهي حياة هؤلاء الخاضعين لليبيرالية وفعل المستحيل لنيل ثقتك وهذه الثقة أكثر من علاقة شخصية بما أنها ترتبط بالثقة التي أنالها من خلالها في الحزب وهي أغلى على قلبي من حياتي". وبعد تردد كبير، ذهب ميكويان ومولوتوف إلى عيد ميلاد ستالين الأخير. وكان أمرًا سيئًا ينتظرهما. كان ستالين غاضبًا واتهمهما بالجاسوسية لمصلحة "انتاليجانس سيريس" ومنعهم من زيارة كونتسيو مجددًا. كذلك بعد حين، أحد معاوني ستالين في الحزب وهو كليمانت وروشيلو اتهم بدوره بالخيانة من قبل ستالين على أنه جاسوس أميركي... وأيضًا، اتهم ستالين سكرتيره الخاص الكسندر بوسكربيشيف بإفشاء أسراره الخاصة بعد عام من الخدمة بمجرد أنه أضاع وثيقة خاصة، كذلك اتهم مدير حرس أمن الدولة نيكولاي لاسيك على "أنه أفشى بأسرار طبية إلى أحد العلماء اليهود...". كلها تفاصيل تشابه تلك التي تعرَّض لها بيريا قبيل ارتكابه "الخيانة العظمى" في قتل "الزعيم" ستالين. عن مجلة C'Histoire الفرنسية الترجمة والتقديم: كوليت مرشليان *** *** *** المستقبل، الخميس 18 تشرين الثاني، 2010، العدد 2207، ثقافة وفنون، صفحة 12
|
|
|