المدينة التي تغلق نواديها وتفتح "معركة الفضيلة"

 

محمد ثامر يوسف

           

الرجل البغدادي العادي، المهموم بمتاعبه اليومية ومشاغله الخاصة، لم يعد عابئًا ببغداده، وهو يحدق بجسد متهالك الى الحقيقة. يسمِّيها، يقول: بغداد، لكنه لا يقصدها. مفارقة مرة أن لا يدل الوصف على موصوفه، ولذا فهو لا يعبأ بجسد يكاد لا يعرفه. ثمة غيره من يتكفل الأمر أو ينوب عنه. بوضوح، ثمة من يستقوي بـ"صوته" اليوم، أو يستولي خلسة على أحلامه القديمة ليعيد، في خبطة "سياسية – دينية" ترتيب أمر المدينة وفق هواه. مدينة لطالما عدَّها هذا مارقة، أو كأنها مسؤولة بذاتها عن وقائع ما في التاريخ، يعاد تأديبها، حتى ولو كانت هي نفسها المدينة التي صبغت ذلك التاريخ بطباعها وألوانها ومرحها. لكن ما لها وقد تولَّه هذا التاريخ نفسه بأطرافها فتشاكلا، حتى قدَّما مزيجًا فريدًا صهر مكوِّناتها المتعددة، وصيَّرها، لتكون عنوانًا للتسامح والانفتاح. بغداد التي كان يكفيها وحده شارع الرشيد مثلاً، لتكون مختلفة عما سواها، الشارع الذي كان لا يطأه إلا من كان متماهيًا مع أنفاسه، أو على صلة بفضاءاته المدينية وقوة رموزه العصرية التي طبعت المدينة كلها.

يروي لي والدي، أنه حتى منتصف السبعينات الفائتة، "كان من الحراجة على المرء أن يمرق في شارع الرشيد، من دون ربطة عنق أو شياكة ملائمة"، حين كان الشارع يكتظ برواده حافلاً بكل عنفوان المدينة وألقها وتطلعها، راسخًا بعناوينه المميزة وعلاماته الدالة، بدءًا من محال الموسيقى، إذ تقبع محال الجقماقجي الشهيرة في أوله، مجللةً بأسطوانات موسيقاها الراقية، وصولاً إلى مقهى الزهاوي العريق موئل الشاعر الكبير الزهاوي يومًا، مذ سمِّي المقهى باسمه في الميدان، مرورًا طبعًا بعلامات الشارع الأخرى: محلات حسو إخوان، مكتبة مكنزي، المقهى البرازيلي الواسع، مكتبة أبو يعقوب أو سردابه العلوي، اورزدي باك، بناية مصرف الرافدين، الشورجة، ساحة حافظ القاضي وغيرها.

لكن، لم يعد شيء من تلك العلامات صامدًا، ولم يعد هذا الشارع شارعًا اليوم، إذ سقط بكل ما للكلمة من معنى. المدينة لم تعد هي نفسها المدينة، إذ من الصعب على البغدادي، في مثل هذا العبث، أن يتخيل شيئًا مما كان، أو حتى أن يستعيد، ولو قليلاً، تلك الخيوط الوشيجة التي كان تربطه مع ماضي مدينته. ثمة مدينة أخرى بدأت تنشأ غير تلك: مدينة مكروهة وقبيحة تطفو فوق ركام هائل من الفوضى والتشظي والقمامة وعبث الهامش الذي صار يصفِّيها مما تبقى من علاماتها الآسرة، هادًّا أعمدتها واحدًا واحدًا، كما لو كانت أعمدة هيكل منبوذ يعاد تشكيله على هوى العوام. حشود الهامش التي تبقر بقسوة بطن المتن بسعادة الإرادات التي تقودها نيات الماضي المعقد وطقوسه أكثر مما يحركها شيء آخر. وحده الماضي يقود الأشياء هنا ويشكِّلها على هواه.

مجلس بغداد: صراع الوهم مع الوهم!

مع لامبالاة الرجل البغدادي، أو يأسه، يعاد إنتاج صمته من جديد، والإفادة منه، مثل رأسمال رمزي قابل للطي أو التأويل أو حتى التلاعب والتزوير. هكذا، مثلاً، يعاد تقويل أهل بغداد أنفسهم، أو الإنابة عنهم، باسم الفضيلة النائمة على جسد ميت مرة، أو بذريعة الحفاظ على الهوية مرة أخرى. يجري تصنع الكلمات، أو تحويرها، واستغفال هذا الأمل الذي نما شيئًا بسقوط الديكتاتور، واستعمال طيبة الناس، وجرِّهم نحو معارك تافهة، بدلاً من انتشال المدينة من موتها المحتوم. من يصدِّق أن مدينة كانت تلمع بعشرات دور السينما الفخمة والأندية الباذخة والمسارح العديدة تعيش اليوم بلا سينما واحدة، وبمسرح فقير واحد؟ بدلاً من ذلك، تفتقت قريحة مجلس محافظة بغداد فانتفض أخيرًا، ليقود رئيسه منذ أسابيع حملة لغلق النوادي الاجتماعية والليلية، التي تنفست قليلاً في الفترة الأخيرة. ظهر الرجل متحدثًا عن مارقين وفاسدين ومرتكبي فواحش يريدون سوءًا ببغداد: إعلان مخبوء ومدفوع الأجر، يرفعه في وجه كل من لا يركب نبرة خطاب ملغوم بات يتصاعد شيئًا فشيئًا. سمَّى مجلس المحافظة معركته بـ"معركة الفضيلة"، ثم، مستعينًا بلعبة الجلاد القديم ذاته، راح يعيد الروح إلى قرار سابق لمجلس قيادة الثورة أيام النظام البعثي البائد، صدر عام 1994، فأوعز بتطبيقه رأسًا، إذ أرسل كتيبة مسلحة إلى نادي اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين لغلقه بالقوة، مبتدئًا بذلك حملة، هي الأوسع، لغلق نواد اجتماعية وملاه ليلية أخرى في بغداد، الأمر الذي استفز بعض القوى والمنظمات المدنية، واستفز كذلك المثقفين والأدباء أنفسهم الذين خرجوا في تظاهرة كبيرة شهدها شارع المتنبي مندِّدين بإجراءات المنع، والتعدي الصارخ على الحريات المدنية والشخصية. الاعتصام نفسه، أعاد تصديره مجلس المحافظة لصالحه مجددًا، محاولاً تأجيج الشارع مرةً أخرى، مستعينًا برجال دين، معتبرًا أن المعركة معركة المثقفين، و"هي في حقيقة أصلها دفاع عن الخمرة ليس إلا"، ما دام الأمر متعلقًا بغلق نادي الأدباء، وما دام المثقفون هم الذين قادوا التظاهرات.

           

والحق أن معركة النخب المدنية والثقافية تأخرت فعلاً، واحتجاجاتهم جاءت خجولة، وخصوصًا أن الاخرين صوَّروا هذه القضية ونقلوها من كونها مسألة دفاع عن الحريات العامة والخيارات الشخصية إلى كونها معركة من أجل بار! علمًا أن القضية أخطر، وخصوصًا أن خروقًا كثيرة سبقت ذلك في السنوات الأخيرة كانت تستهدف، بشكل مقصود، القيم المدنية المعتادة في بغداد وفي غيرها. فكثير من مجالس المحافظات كانت تعلن نيات أيديولوجية واضحة يحركها الدين السياسي، مراميها وأهدافها واضحة أيضًا في كثير من محافظات الجنوب والوسط. ومن يراقب ذلك، يقع على مساع متزمتة قوية في هذا الاتجاه، وقفت بالضد من كثير من النشاطات الثقافية والمدنية. حدث على سبيل المثال أن قام مجلس محافظة البصرة قبل بضعة شهور بوقف عروض لفرقة سيرك فرنسية قدمت تجاربها في المدينة ليومين، قبل أن يصدر أمرًا بايقافها وترحيل أفرادها خارج المدينة بحجة أن تلك العروض مخالفة للتقاليد والأعراف الدينية. مثله فعل مجلس محافظة بابل عندما اعترض على قيام حفلات الرقص والغناء في أيلول الفائت ورفض تقديمها، وذلك في إطار مهرجان بابل الدولي الذي دعيت إليه فرق فولكلورية من بعض الدول. الغريب أن هذه الفرق جاءت أصلاً بدعوات من وزارة الثقافة نفسها التي لزمت الصمت تمامًا حيال الأمر ولم تعلق إلا في دمدمات غير مفهومة عبرت وانطفأت سريعًا على شفاه مسؤوليها.

أمور أخرى وتفاصيل شبيهة كثيرة حدثت ولم تتم إدانتها بصورة واسعة على أيدي القوى الليبرالية السياسية والمدنية الثقافية العراقية بشكل واضح وكبير. غير أن قرار المنع الأخير الذي تبناه مجلس محافظة بغداد، واستعان فيه بقرار سابق أطلقه صدام في إطار ما سمي بـ"حملته الدينية الإيمانية" أواسط تسعينات القرن الفائت، بعد سنوات قليلة من هزيمته في حرب الكويت، ثم في أوج أيام الحصار الذي فرض على العراق، أتاح في ما يبدو الفرصة الأخيرة لعدد من المثقفين للتعبير عن رفضهم لمشروع وجدوه يبطن كثيرًا من أحلام القوى والأحزاب الدينية حول الشكل المفترض للنظام المتخيل الذي يفكرون فيه، أو طبيعة المجتمع المقصود، وهذا ما جعل الصراع محتدمًا بين المسوؤلين في محافظة بغداد وبين الآخرين، وإن يكن صراعًا يراه كثيرون غير متكافئ استنادًا إلى معطيات الواقع، أو من الممكن أن ينعكس إيجابًا في المدى المنظور. صراع بدا عميقًا من خلال تداعيات الأحداث في الأسابيع الأخيرة وما تلاها، وقد ظهر ذلك جليًا على صفحات بعض الصحف، وكذلك في الإعلام الفضائي المحلي، موشَّى برغبة متواطئة لدى بعض السياسيين الكبار أيضًا، متفرجين، أو دافعين بالأمور إلى الأمام في اتجاه يحلمون به، ويسعون إليه! يضاف هذا الاحتقان المرُّ الذي يغلِّف فضاءات بغداد اليوم إلى صورة المدينة الجاثمة التي يحدق إليها العابر ولا يفهمها، وهي صورتها التي تتحول شيئًا فشيئًا مكاناً لا يشبه نفسه، ولا يستطيع أن يكون شيئًا آخر.

هل ثمة بغداد حقيقية تشبه نفسها؟ يتساءل المرء، ثم يمشي في طريقه، متجنبًا ما أمكنه عبوات الخطر على هذا الطريق، مهمومًا بيومه تمامًا، ومنشغلاً بخصوصياته.

كل حديث مهم يجري اليوم عن بغداد، يجري في الحقيقة عن الصورة، عن المجاز، أو الفكرة "فكرتها"، أو في الضرورة عن بغداد أخرى يحتويها الدماغ ويلفُّها، لا عن واقع ملموس. ولهذا لا تستحضر المدينة إذا أردنا، إلا بوصفها صورة، صورة غائرة في الوجدان. حتى عندما تتحرك الميديا اليوم، وغالبًا لأغراض سياسية، حيث يقال: انظروا إنها بغداد، فإننا في الحقيقة لا نرى أمامنا شيئًا، غير ذلك المكان الغريب والصادم، وهو مكان بلا ملامح، أو رائحة. مكان لا نعرفه إلا من جلبة الأولاد الصغار في الشوارع بعرباتهم الصدئة وهم يكنسون الشوارع الميتة ويتعاركون على أجورهم نهاية النهار، أو من أخبار المقاولين السذَّج "الجدد" وهم يتوزعون جسد المدينة، أموالاً حرامًا، ونهبًا بلا حدود، يتكدسون ليشرعوا أمر المدينة اليوم، ويتكدسون بلا فائدة، على هوامش الصورة أو نهاياتها، وهي صورة المدينة التي لا تعنيهم، ولا يعرفونها.

كتابة جديدة لرواية المكان

كتب روائي عراقي صديق مرةً عن الأمل. في رواية طويلة ومهمة، يروي سيرة فرد في عراق الثمانينات والتسعينات من القرن الفائت. صورة ملعونة عن ذلك الزمان، عن علاقات البطل بمن حوله، الجيران، أصدقاء العمل، الرجال الحزبيين الذين يعششون في كل مكان، كتَّاب التقارير والوشاة. رواية عن الرعب والقلق الدائم الذي صار يترسخ بقوة في كل شيء. وبالطبع، رواية عن الحياة أيضًا بوصفها أملاً، صيغة ما لانتظار الخلاص.

فكرة الأمل، في تلك الرواية البعيدة التي نشرها خارج البلاد في التسعينات الفائتة، تتضح بقوة بين تفاصيلها. الحديث عن انتهاء ذلك الكابوس، تتسلسل تداعياته بسهولة، برغبة عطشانة في الصفحات، خصوصًا مع انثيالات اللغة وتفاصيل الحكايات المتعددة التي تنفتح بقسوة على بعضها، كما في حوار الشخصيات الأخرى في الرواية التي تتحدث دائمًا عن الأمل بالخلاص وتنتظره.

صديقي الروائي المنفي حينها، هو نفسه يكتب اليوم رواية أخرى. أقصد ثمة رواية أخرى عن الأمل! رواية مضادة، أو رواية تفتح واقع الأشياء من جديد. فبعدما عاد منكسرًا إلى منفاه بعد خمسة أعوام عصيبة أمضاها في بغداد – ما بعد 9-4-2003 – آملاً بتحقق نبوءة حلمه بسقوط الديكتاتور، يشرع أن يدفع إلى النشر بمخطوطة روايته الجديدة التي يرسل لي منها أوراقًا بين الحين والحين أو يحدثني عن تفاصيل الحكايات الجديدة فيها. رواية أخرى عن عراقي آخر، ربما هو ذاته البطل القديم.

يفكر بطل الرواية الجديدة في الصدمة، وتلك هي المعنونة الأكثر بلاغة وقوة بالنسبة إليه: صدمة الانكشاف على الحقائق الموجعة والمخبوءة التي لم يكن ينتظرها من ضحايا الأمس، هو الكائن الحالم المعبأ حتى النهاية بأمل الخلاص. "أخيرًا [يقول] تلك هي الحرب تقع، ويا للهول حينما تكون الحرب حلاً، لكن أيَّة لعنة تلك حين ننكشف على أخوة أعداء جدد، أيُّ أمل هذا". بتلك الصورة تكون عودة بطل الرواية إلى منفاه من جديد، ليتبدد كل شيء منذ اللحظة الأولى على أرض اللاتوقعات ومكان اللاخلاص. كل شيء ينقلب فوضى وهوسًا وجنونًا. تنقلب التوقعات، وتصبح الكتابة محض هراء في لحظة تحديق واحدة واسعة.

كل شيء منكشف إلى عبث. نوع جديد من العبث، هذا هو المكان الموعود. تلك هي بغداد في الرواية، مع هذا الكم الهائل من سنوات الانتظار تتحول كلها في لحظة أكوامًا من الرغبات الناقصة، أسى مستمرًا، ومواجع. يتحول المكان نفسه الذي تحمله الذاكرة وتطوف به أينما حلت في العالم، ليصير مكانًا عائمًا، منطقة بعيدة مجهولة ومزعومة. بالضبط يقول البطل لصديقته الأجنبية عن بلاده: "هذا المكان الذي قصدته وعدت، دعابة فجة ليس إلا عن الأمل، الأمل الكريه تمامًا، مكان يتأجج فيه الموت منذ آلاف السنين".

غير أن الفصول لا تتحدث عن تاريخ آفل وأيام سالفة. إنها كتابة عن الأيام الراهنة والوقائع الجارية اليوم، كتابة عن سياسيين ورجال قبائل، عن قطَّاع طرق وسرَّاق مؤسسات رسمية وأموال عامة، عن الذبَّاحين ومفخِّخي الأجساد، عن رؤساء مجالس محافظات أميين، ومثقفين طائفيين، عن رجال الدين الذين يتباهون بالجبب كما يتباهى نجوم السينما، عن الشيوخ المدججين بالمال والفتاوى والأسلحة والسيارات الفارهة، عن العصابات والميليشيات والجيوش السوداء والقتلة المحترفين، وطبعًا عن العراق أولاً وأخيرًا – خيمة هذه الملهاة، علامة العبث، بل علامته في كل زمان ومكان.

ملاحظة: اللوحات من دفاتر بغداد للرسام ستيف مامفورد

*** *** ***

النهار

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود