نوح... بلا نخوة

 

كيوركيس أغاسي

 

كان بابا جان قد قرأ كتابي ليالي نينوى، عندما طلب مني يومًا الإنفراد لأنه كان يود أن يبوح لي بحديث خاص.

عندما جلسنا معًا، قال: "مؤلفاتك ثرية جدًا، وقد استفدت من كل سطر فيها، وأرجو أن يكون كتابك الجديد أماني أهل نينوى كذلك".

قلت: "أشكرك. ويسعدني أنك تفهمت مغزى كتاباتي وأنك لم تقرأها للتسلية!!".

قال: "لا... لا... بل أرغب أن أقدم بعض الملاحظات، كما أتمنى أن تضيف حكاية جديدة إلى كتابك الأخير. منذ سنوات رأيت حلمًا عجيبًا، وفكرت به كثيرًا، وعندما قرأت كتابك، عرفت أنك الشخص الذي يستطيع أن يفهمني. يا صديقي، إن الحالة التي تراني بها اليوم هي بسبب ذلك الحلم الذي قلب حياتي عاليها سافلها".

وتابعَ: "كنتُ ثريًا جدًا وصاحب أموال وأملاك. قبل أن أتعرَّف عليك كان كل شيء في حياتي قد تبدل! كنت مليونيرًا وأحب العقارات. اشتريت أراضٍ كثيرة وشيَّدتُ عليها البنايات، وكلما توسعت أملاكي ازدادت شهوتي لامتلاك غيرها. كنت أحقد على كل إنسان يشتري قطعة أرض مهما كانت صغيرة. كان يعمل عندي عدد كبير من العمال، وكان يزعجني أن أرى أحدًا منهم سعيدًا. كنتُ أحسب أن جميع النساء الجميلات يجب أن يكنَّ لي. كل الألبسة الفاخرة لي. ولا تكتمل فرحتي إذا بقي إنسان واحد يتفوق عليَّ بنقطة واحدة. وقد سيطر عليَّ الكبرياء والغرور".

قاطعته قائلاً: "إني لا أستغرب ذلك، لأن جميع أرباب المال متكبرين ومغرورين".

تأوهَ صديقي وتابعَ: "نعم، يومًا عن يوم ازددت ثراءً، كان الجميع يحترمونني، يرمقونني بنظرات الإعجاب.

في ليلة صوم نينوى، أنا أيضًا فعلت كالآخرين وكانت أمنيتي أن تزداد ثروتي، ونمتُ وإليكَ ما حلمتُ به: رأيت الشمس والقمر والنجوم تسطع في السماء، نعم الشمس والنجوم معًا، يصدر عنها شعاع غريب يقدح شررًا ثم يتلألا، وقد غمرَ الأرض كالمطر. لم يصدر عن تلك الأشعة ضوء أو حرارة، ومع ذلك كانت تذيب بني البشر بمجرد ملامستها لهم، فيصبح الإنسان هباء، بخارًا يتوهج، ثم يذوب وينتهي.

رأيت المدن والقرى وكل البلدان مغطاة بتلك الأشعة القاتلة، ملايين الناس ذابوا وتبخروا في طرفة عين. داخلني الرعب مما رأيت وكذلك زوجتي وولدنا الوحيد. صرخت بأعلى صوتي متوسلاً متضرعًا: "نجنا نحن يا رب. نجنا يا رب". وعندما توقفت الأشعة الحارقة عن تذويب أجساد البشر، تطلعتُ حولي فلم أرَ أحدًا غيرنا نحن الثلاثة. لم يبق سواي وأهل بيتي.

ركعت. سجدت للخالق ومجَّدتُه. شكرته على اختياره لي وأهل بيتي من بني البشر وجميع مخلوقاته. وبكتْ زوجتي من شدة الفرح معانقة ولدها. إلا أن ولدنا لم يشاركنا فرحتنا، حسبته خائفًا، حضنته وقلت له: "لا تخف يا بني، نحن أحياء... أحياء!". رمقني بنظرة وقال: "يا أبي، الآن لا يوجد أحد غيرنا وهذه الأرض المترامية الأطراف، آدم وحواء وحديقة بلا حدود، نوح وأهله ودنيا كبيرة!". قلت: "أصبتَ يا بني، نحن لا نزال أحياء، نوح وأهل بيته فقط. نحن أحياء... نحن أحياء...". لم تدم فرحتنا طويلاً لأن ولدنا لم يشاركنا سعادتنا ورغم أنه لم يزل فتيًا، إلا أنه كان مهمومًا، وأحيانًا يتصرف وكأن به مسٌّ من الجنون، كان يتحدث مع نفسه، يبكي أحيانًا وأخرى يضحك. يصمت دهرًا، مشيحًا بوجهه يفكر.

كنا نتمشى في شوارع عريضة لمدينة أصبحت لنا، الصمت مخيم في كل مكان، لا يُسمع سوى صوت الريح!. زرنا كل المنازل الفخمة وقصور المدينة، وفي اليوم التالي انتقلنا إلى القصر الملكي.

بعد أن انتقلنا إلى البيت الملكي، شرعنا نبحث في المتاحف الأثرية، وقصور النبلاء والأثرياء، وقد جمعنا كل الأواني الذهبية والفضية واللوحات من هذه المنازل وشحناها بالقطار إلى منزلي الخاص.

في اليوم الثالث دخلنا أنا وزوجتي إلى البنك وأفرغنا كل ما يحويه من ذهب وزمرد وألماس وياقوت في أكياس ونقلناها إلى دارنا.

بدأنا نهرول في الشوارع حيث المحلات الخاصة ممتلئة بكل ما تشتهيه النفس من ملبس ومأكل وحاجيات، إلا أن حالة ولدنا كانت تزداد سوءًا يومًا بعد يوم، وقد خاطبته غاضبًا: "بُني، إن حالتك هذه تعدُّ كفرًا". فرفع رأسه وقال: "عجبًا! حالتي هذه كفر؟ أليس كفرًا أن يذوب كل البشر؟ لماذا أنتَ فرحٌ هكذا، لماذا تجمع كل هذا الذهب والأحجار الثمينة؟! أليسَ كل ما على هذه الأرض لكم؟ وماذا بعد؟ يا نوح بلا نخوة، وبلا...".

كانت لهجة كلامه قد تبدلت وأيقنتُ أنه قد جُنَّ تمامًا. قلت له: "يا بني، نوح كان رجلاً بارًّا وصالحًا مثلنا ولذلك بقي على قيد الحياة من دون الآخرين".

أجاب: "ولكن أخيرًا مات أيضًا، ميتة لا يُحسدُ عليها، كونه عاش بعد أن غرق البشر... اعلم يا أبي بأن نوح هذا كان أسوأ رجل في الدنيا، وما استمرار حياته إلا ليتعذب، ليشهد موت جميع البشر، بل كان حريٌّ به أن ينتحر. إن التاريخ البشري لا يعرف شخصًا أسوأ من نوح يا أبي، لأنه رضي أن يبقى على قيد الحياة بعد أن مات جميع بني جنسه".

بعد أيامٍ ألقى ولدنا نفسه من سطح قصرنا الشاهق، وارتطم بالأرض، وعندما أدركناه كان قد فارق الحياة.

منذ ذلك اليوم تبدلت أحوالنا أنا وزوجتي، كنا نبكي على حظنا المتعثر. وقد قالت زوجتي ذات مرة: "ملايين الناس ماتوا ولم يرفَّ لك جفن، ولكن بعد أن فقدتَ ولدكَ، فقدتَ مقومات العيش لوحدنا".

دون ناس، في الدنيا الواسعة، صرنا نتجول ونبكي عابرين بلا أنيس ولا جليس... بيوت، طائرات، ذهب، أرض، كروم، وملابس. كل شيء لنا. لكن ماذا نفعل بكل هذا؟. حينذاك، شعرنا بأن اللباس الذي نرتديه ليقدرنا الآخرون، والأحجار الكريمة والصور واللوحات الفنية لا قيمة لها ما لم يتمتع الناس بمرآها. الإنسان هو الذي يعطي قيمة لكل شيء إن كان زمردًا أو ألماسًا.

يومًا بعد يوم، صرنا نتذكر جيراننا، أصدقائنا، أقرباءنا، أحباءنا. وأيُّ معنى للحياة بدونهم؟

في أحد الأيام، كنتُ يائسًا، وبعد أن شربنا الكثير من الخمر، خرجت إلى الشارع، كان ضوء القمر قد أنار المكان. ذهبت إلى حي الفقراء في المدينة، فأدمَعَتْ عيناي بغزارة... بصوت ملؤه البكاء صرختُ: "دنيا بلا ناس ماذا أفعل بها؟ أراضٍ، وفرة، ثروة بدون مشاركة الناس بها ما نفعها؟ أيها الناس، يا عمَّالي، يا أصدقائي، يا أهلي، أين أنتم؟". لكن ما من مجيب سوى الريح والصدى! ركعت وبحرارة بكيت، مشيت على ركبتيَّ وصرخت بلوعة: "أريد أن أرى كلبًا، قطة، فأرًا، أي حيوان. ما أبشع الكون بلا خليقة"".

عندما استيقظتُ كانت زوجتي واقفة أمام فراشي توقظني: "ما بكَ؟ بماذا كنتَ تحلم؟ ما قصة نوح؟".

صرختُ بأعلى صوتي: "نوح، محتكر أرض الله، لا أريد أن أسمع باسمه". نظرت في المرآة، لقد ابيضَّ شعر رأسي وتغيرت ملامح وجهي.

بادرتُ إلى بيع الأراضي التي أملكها، وتنازلت عن حقوقي لجميع الذين أطالبهم، وزَّعتُ البيوت والكروم والأحجار الكريمة على أصدقائي ليكون لي أصدقاء لكل العمر، وهكذا كثُرَ أصدقائي وأنتَ أحدهم.

مَسَحتُ دموعي وقلت: "هذا الحلم أيضًا سأضمه إلى ليالي نينوى وأماني أهل نينوى".

الترجمة عن الآشورية: كاجو كاجو

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود