|
الإغواء الفكري والنفسي
تصوروا أن يستيقظ أحدكم ذات صباح، أكان رجلاً أم امرأة، على صوت حقيقة موجعة كصوت انفجار قوي قريب؛ ما الذي سيحلُّ به؟ ألن يفقد توازنه حين يحاول النهوض جاهدًا، وهو يحسُّ بدوار يجتاح رأسه، ثم يبدأ يترنَّح كمن شرب كميات هائلة من خمر معتق؟ الحقيقة الموجعة التي استيقظت على صوت دويها ذات صباح جاءتني من أحبِّ الناس إلى قلبي!! أنا مخدوعة!. وصرخ ألمي ذات صباحٍ متسائلاً: لماذا؟!، فراح عقلي، المبعثر الأشلاء، يجيب على السؤال بألف جواب يحمل ألف علامة استفهام: "لتختبر الأقدار صبركِ، لتعلِّمكِ كيف تحسنين الانتباه، لتجعلكِ تصغين إلى من كان يحسن الرؤية أكثر منك، ويرى أكثر مما كنتِ قادرةً على رؤيته". وأعود بكلِّيتي، بقلبي، وبعقلي لأتساءل مرة ومرات: لماذا لم أكن قادرة على الرؤية الواضحة؟ لماذا لم أكن أملك حدسًا سليمًا؟ لماذا أراد الكون، أو أحد قوانينه المعروفة، أن أتعرَّض للخديعة من حبيب أمضيت برفقته تسع عشرة سنة، مسانِدة، متفهِّمة، محبَّة حتى التفاني؟! الألم الذي يحسُّه المخدوع يتناسب طردًا مع شدَّة حساسيته، وصدقه، ونقائه، وهذا شيء حقيقي؛ ولهذا كان ألمي شديدًا. قال لي بعضهم: "دعكِ من التلذُّذ بألمكِ، وقفي على قدميكِ من جديد، لتثبتي لمن خدعكِ أنكِ الأقوى والأمتن". وأجبت على كلامهم بشدَّة الألم ذاتها: "أنا امرأة لا تجيد وضع الأقنعة، ولا تجيد عملية لجم المشاعر. أنا امرأة تعيش أحاسيسها بكامل صدقها، ولكنها تؤمن أيضًا بالزمن الذي يقدِّم الترياق من غير حساب". لا أتمنى أن تعتبروني من فئة الكاتبات النائحات، فأنا ما تعودت النواح في أدبي، ورواياتي تحمل دائمًا أملاً يطلُّ من نافذة عريضة مفتوحة، إلا أني الآن أبوح لكم لأني ما زلت حتى الآن تحت تأثير الصدمة، صدمةِ الإحباط في علاقة حبٍّ وزواج كانت قائمة، ولمدةٍ طويلة، على الإخلاص والصدق والحبِّ الحقيقي. لكن، وكما اكتشفتُ مؤخرًا، من طرفٍ واحد فقط. الطرف الذي ما تعوَّد، رغم صعوبات الحياة، على الكذب يومًا. أنا الزوجة المخدوعة التي تحدثكم الآن، ولا أتباكى أمامكم، كما ذكرت، ولا أنصِّب نفسي معلِّمة عليكم، فهذا أمرٌ أرفضه تمامًا، وإنما أضع تجربتي بين أيديكم كي تنتبهوا إلى ما لم أكن أحسنُ الانتباه إليه. لقد برهن زوجي الآن لي، ولجميع الناس، أنه من الذين يجيدون الإغواء الفكري والنفسي. وكنتُ، مع أسفي الشديد، واقعةً مع من لا يزالون حتى الآن، في فخِّ هذا الإغواء! الإغواء الجسدي يستطيع الإنسان منا أن يتغلَّب عليه بشيء من الإرادة، والحكمة، والتوازن النفسي. أمَّا الإغواء الفكري والنفسي فهو الأخطر بما لا يقاس، لأننا نحنُ البشر، وفي كلِّ بقاع المسكونة، لا نعود نملكُ، حين نحبُّ حبًا جارفًا، البصيرة الحادة التي تستطيع أن تسبر الأغوار، وتصل إلى أعماق الشخص الذي نحبه؛ وإن امتلكها بعضنا فقد تتعطل أمام الأساليب التي يستخدمها الطرف المغوي، لأن حيله، لا شكَّ، ستكون فوق طاقةِ إحساسنا الداخلي، خاصةً إذا اقترن هذا الإحساس بنقاء وصفاء في السريرة والقلب. وهكذا ترانا ننساق لتجربةٍ نحصد نتائجها المريرة بعد زمانٍ قد يطول أو يقصر. ولقد طال هذا الزمان معي!! الإنسان المغوي فكريًا ونفسيًا يتزين بالزي الذي يناسبك، والذي تتوق، أنت الآخر، إلى المشاركة في صياغة تفاصيله وأشكاله، معتقدًا أنك وجدتَ ما كنت تبحث عنه طوال عمرك بكل توقك ولهفتك. ويكون الإنسان المغوي على درجةٍ من الذكاء السلبي بحيث يزيد في ألوان زيِّه وفق الطريقة التي يحبُّها الاخر – الضحية –؛ الآخر يحبُّ اللون الأبيض فيقوم بتوسيع الرقعة البيضاء في زيِّه. آخر غيره يحبُّ الأزرق، فيقوم بتوسيع رقعة اللون الأزرق بكلِّ دقَّة وحذر ودهاء. أنت مثلاً، يا أيها الواقع في فخِّ إغوائه دون أن تدري، تحبُّ الصدق، وقيم الحياة الإنسانية. تؤمن، مثلاً، بأفكار جديرة بالانتباه إليها عن الكون والطبيعة، والخلق، والخالق، والحياة والموت، أو عن النظم السياسية والاجتماعية التي يجب أن تسود لتقود الناس إلى طريق الحرِّية والعدالة. تؤمن بكلِّ هذا لأنك ترى فيه خير البشرية والمجتمعات على اختلافها وكثرتها، ولأن هذه الأفكار تمثِّل قناعتك فعلاً. يلبس المغوي أمامك زيَّ الاهتمام، يصغي إليك بانتباهٍ كامل، يتمسك بالصمت فهو لا يودُّ أن يقطع عليك حديثك، تأدبًا منه، وبعد أن تفرغ ما في جعبتك من أفكار، يجيبك بهدوء مدروس، وبصوت خفيض لا يكاد يسمع، لكي يجذب كلَّ انتباهك، أنه مبهور أمام روعة ما تحدثت عنه، أمام قيمك النادرة، وأفكارك التي تستحق الاهتمام الكبير، ثم يدافع عن وجهة نظرك بكلِّ تأكيد وثقة حتى تظن أنت، وكلُّ من سمعك وسمعه، أنكم لم تحظوا في حياتكم بإنسان مهتم ومدافع عن أفكارهم ومتبنٍ لها مثله. أنت تفتقد الاهتمام والحنان والرعاية، ربما من الأهل أو الأصحاب والأصدقاء، يأتي فيغمرك بحنانه، ورعايته، اهتمامه حتى لا تعود في حاجة إلى أحدٍ غيره، لأنه هو وحده الذي يوليك الاهتمام الكامل ويعطيك من وقته وراحته ليحلَّ لك مشاكلك كلَّها النفسية والعاطفية وحتى الجنسية. هكذا يعيش المغوي، فكريًا ونفسيًا، كرنفالاً دائمًا، تتضارب فيه الأزياء والأقنعة بألوانها وأشكالها وأنغامها التي تنطلق من كلِّ لونٍ وشكلِ وقناع. أنا الآن أتساءل، وقد بدأت بعلاج جرحي من طعنة الخديعة، بفضل أصدقاء وقفوا إلى جانب الحقيقة والضوء، فأعادوا إليَّ ثقتي بوجود من هو خيِّر في هذه الحياة، أتساءل: لماذا لم أكن منتبهة منذ البداية كي لا أقع في فخِّ هذا الإغواء الذي نصبه لي زوج يجيد هذا الفن إجادة تامة؟ لماذا؟! الرجاء الانتباه، فهو الطريق إلى الوعي. والوعي هو الطريق إلى المعرفة. تلك هي رسالتي، وتلك هي تجربتي أحملها إليكم. ولكم الخيار. 1 كانون الثاني 2011. *** *** ***
|
|
|