|
برهان غليون، بين علمانية مفترضة وديمقراطية غائبة
في النخبة والشعب كتاب، في شكل حوار أجراه الأستاذ لؤي حسين مع البروفسور برهان غليون، اتصف بعمق التحليل ووضوح في الرؤية، إجابة عن تساؤلات ذكية، ساقها المحاور، أثارت سجالاً مفتوحًا، يحرض على ابتكار الأسئلة. ولأن النص إذ خرج إلى الضوء لم يعد ملكًا لصاحبه، كان لنا الحق في إبداء رأينا. في مفهومه لنشوء النخب يرى غليون: أنه لا يمكن لنخبة أن تنشأ وتكون فاعلة وقادرة على إنشاء جماعة سياسية من دون تحقيق شرطين: الاستقلال عن أصحاب المشاريع والأعمال والمال من جهة – في إشارة إلى الحالة الأمريكية –، وتكوين وعي واضح بالمسؤولية تجاه المجتمع والرأي العام من جهة ثانية. وعلى درجة هذا الاستقلال والشعور بالمسؤولية لدى النخب تتوقف مقدرتها على تأسيس جماعة سياسية مستقرة وفاعلة. (ص 14). الكلام، في المبدأ، مهم جدًا، لكن الواقع محكوم بآليات معقدة ومتغيرة، تجعل حتى استنساب المفاهيم غاية في التعقيد وذلك للطبيعة الحركية المتبدلة للمجتمعات والأفكار. إنَّ حصر نشوء النخب ضمن هذين الشرطين، يجعل منه قانونًا إن لم نقل فكرة منتهية، وهو ما يقودنا إلى استحضار الأسئلة بشكل مغاير للمثال المطروح حول الحالة الأمريكية، والسؤال هنا: هل يمكن أن تنشأ هناك نخبة حقيقية تكون مؤثرة وفاعلة في الدولة والمجتمع، بعيدًا عن حزبين يحتكران صنع القرار والسياسات في الدولة؟ ألا يحتاج العمل في السياسة هامشًا من المرونة، لإيجاد دعم تقبل به النخبة ضمن خطوطها العريضة لمشروعها الثقافي والسياسي، خدمةً منها لمجتمعاتها، وإلا أضحت بثبات مبادئها طائفة من الدراويش والمهمَّشين! أمَّا ما يجب أن تكون عليه النخب العربية، فإنه يقول: نخب مقطوعة نسبيًا عن الثقافة الاجتماعية التقليدية، وهذا أهم عنصر قوَّة فيها ومبرِّر وجودها. فمن دون هذه القطيعة الفكرية والنفسية والسياسية لا يمكن للنخبة أن تخرج من إطار التقاليد السائدة ولا أن تجسِّد أيَّ إضافة أو معرفة استثنائية. وهي كذلك بالتعريف نخبة تغييرية، فالهدف من إنشائها أو نشوئها هو الخروج من الجمود ومسايرة التبدلات والتحولات العالمية. (ص 19-20). وفي مكان آخر يعتبر: المطلوب إعادة بناء العلاقة الجدلية والتواصلية بين الشعب والنخب، أي نقد الثقافة التي تعيد إنتاج القطيعة، مهما كانت مصادرها. (ص 91). بين المقطعين يوجد التباس لمفهوم القطيعة، إن لم نقل تناقض. فمن ناحية لا تكون النخب نخبًا عنده إلا من دون "هذه القطيعة الفكرية والنفسية والسياسية"، ومن ناحية أخرى ينتقد "الثقافة التي تعيد إنتاج هذه القطيعة، مهما كانت مصادرها"!. القطيعة النسبية للثقافة التقليدية، ربما تكون مدخلاً للتغيير لا يختلف عليه عاقلان، لكن ما تجدر الإشارة إليه هو قطيعة تستوجب إعادة النظر في التراث من كافة جوانبه، لا أن نكتفي بالقول بأنها "أصبحت وراءنا"، معقبًا: "إن استبداد الماضي لا يفسر استبداد العصر الحديث" (ص 103). كلام قطعي كهذا يصادر تعدد الاحتمال ويبقي الاستنتاج بحكم اليقين. لم يأت استبداد العصر الحديث من فراغ، فالقطيعة الكلية والنهائية لم تنجز، وإن حدثت على مستوى الأنا "القانونية والوطنية" فقد ظلَّت ملتبسة حول نظرتها إلى الآخر، كونها استدعت حضور مخيال جمعي، أعاد تشكيل هويات نكوصية غير مؤنسنة على المستوى العالمي، الأمر الذي أبقى العصبية التاريخية حاضرة في كل صدام. حول العلمانية والاستبداد: في الكتاب نظرة غير موفقة تتمثَّل في اعتبار الأنظمة الشمولية أو اللادينية علمانية. فالعلمانية قامت على فكرة الإيمان بالتعددية ونسبية الحقيقة، واستمرارها مرهون ببقاء هذه التعددية. لذلك، فإنَّ افتراض أن كل من يرفع شعار العلمانية هو بالضرورة علماني، رأي يجافي الصواب، وما ينطبق على العلمانية يمكن أن يقال عن أي فكر آخر كالاشتراكي والديمقراطي. إن كثيرًا من الأنظمة المستبدة تقدم نفسها على أنها اشتراكية أو ديمقراطية، فهل هي كذلك؟! ألا يغالي أستاذنا، عندما يعتبر "نقد العلمانية للتراث الإسلامي، هو حماية للأنظمة" (ص 103)، حيث يعتبر أن "الانكفاء على التراث مرده إلى الاحتجاج على الحداثة"؟ لا أدري مدى دقة هذا الكلام، إذ يفهم منه أن مجتمعاتنا أنجزت مشروع تحولها إلى الحداثة ثم صدمت بها، فانكفأت عنها!. إن النظرة النقدية التي يسوقها غليون عن العلمانيين العرب، والسوريين بشكل أخص – وإن من باب الحرص على العلمانية كما يفترض – لا يعفيه من مهمة تفكيك الرأسمال الرمزي الإسلامي كونه يشكل مرجعية متعالية على الواقع، بما هو نسبي ومتغير. إن الأصولية الإسلامية عبر التاريخ وحتى الآن تنشط وتضعف نتيجة لمتغيرات السياسة السلطوية، لكنها تبقى حاضرة وبقوة في المخيال الثقافي والسيسيوسياسي وهو ما يجعلها عامل كبح ونكوص عند كل منعطف تمر به هذه المجتمعات. يبدو أننا بحاجة إلى مجهود كبير، لإعادة فهم التراث الإسلامي من منظور نقدي "معقول" تشارك فيه كافة النخب الفكرية ومن بينها الإسلامية. كما فعل الغرب عند ولوج حداثته. أما إطلاق النار على الأنظمة ووضع العلمانيين في نفس الخانة، أمر ينطوي على خلط كبير يصب في نفس السياق والتوجه الإسلامي الذي لا يخدم سوى أنظمة الأمر الواقع، ومن خلفها التنظيمات الإسلامية، متجاهلاً الوضع الدقيق الذي يتحرك فيه العلمانيون العرب، فلا يرى أنهم بين مطرقة الأنظمة وسندان الأصوليات الدينية. أما اعتبار ظهور الحركات الإسلامية نتيجة لممارسات الأنظمة الاستبدادية، فهو جزء من معادلة منقوصة تنطوي على تبسيط يخدم حتمية الاستنتاجات التي سيقت. لا يمكن خلخلة هياكل هذه الأنظمة إلا بانفتاح الإسلاميين على تاريخهم ومجتمعاتهم، بعيدًا عن التقديس، وأن يقابلوا الاستبداد بمنطق الحرية والتحرر المسؤول. البعيد عن الشعارات الدوغمائية مثل "الإسلام هو الحل". حين تنتقد الأحزاب الإسلامية في العالم العربي ممارسات الأنظمة القمعية، وهي محقة في نقدها، فذلك لا يجعل منها حامية الحرية والديمقراطية، فهي مطالبة وقبل أي شيء آخر أن تقوم بنقد موروثها ومسارها، كي تكون لها مصداقية فيما تدَّعي. بين الديمقراطية والعلمانية: يرى غليون أنَّ النخب العلمانية: لا ترى في الأكثرية الاجتماعية إلا عامة من الناس، لا شخصية لها ولا قوام، ولا وعيًا بالحرية ولا مطالب أخلاقية ممكنة أو كامنة، الخوف من تبني خيار الديمقراطية الحديث، لما يمكن أن يتضمنه الاعتراف بحقوق الناس المتساوية وحرياتهم، من مخاطر على المدنية نفسها. فلا يقبل العلمانيون أو من يسمون أنفسهم كذلك مثل هذا الاعتراف إلا إذا كان جزءًا من سلة واحدة. أما الإسلاميون فالديمقراطية لا تعني في نظرهم التنازل عن حق العلماء والفقهاء في الوصاية على الإيمان وحفظ حقوق الدين وإنما أكثر من ذلك تقديم حقوق الإنسان على حقوق الله. (ص 49). كما يعتبر أن: الديمقراطية ليست إجراءً شكليًا يتحقق مع فرز حكم الأغلبية، أي أغلبية عددية. إنها عملية تاريخية طويلة يتم من خلالها تحويل الجماعة إلى شعب [...] الشعوب تتعلم بالتجربة وعبر التاريخ وتتحول، ولا تولد حديثة مرة واحدة، ولذلك أيضًا لا يمكن للحداثة أن تكون سلة واحدة. (ص 64-65). تنطوي المقاطع الواردة على ثلاث إشكاليات، أولاً: يضع العلمانيون في خانة الإسلاميين وعلى نفس السوية في النظرة إلى الديمقراطية. في الشق الإسلامي قد يكون محقًا، ونقول قد، لأن الكثير من التيارات الإسلامية أصبحت تطالب بالديمقراطية للوصول إلى السلطة ومن بعدها تصبح الديمقراطية، في حال شكلت خطرًا عليها، في خبر كان. أمَّا العلمانيون فلديهم تصور آخر في رؤية الديمقراطية، يهدف إلى صونها وتعزيز مشروعها، من حيث هي رؤية أعمق وأشمل في فهم المسار الديمقراطي. الديمقراطية تحتاج قبل كل شيء إلى ديمقراطيين بالطرح والفكر قبل الممارسة، ومن بديهيات الديمقراطية قبل الولوج إليها أن يعترف كل طرف سيشارك بها بالآخر المختلف، ولا ضير أن تكون الديمقراطية "في الرأس قبل الصندوق" كما يراها جورج طرابيشي، فالتأسيس الفكري والسياسي لهذه التجربة يجعل حظوظ نجاحها أكثر من أن تترك للعصبيات والشموليات، تعيد من خلالها إنتاج تسلطها. قد تكون المشكلة عند غليون هي في استحضاره شكلاً افتراضيًا لعلمانية يختلف معها، بعد أن اكتشف أن الديمقراطية الآن، أهم من اشتراكية كان ينادي بها لعقود طوال. ثانيًا: في السلة الواحدة: هناك خلاف حول مفهوم السلة وطريقة الدمج التي أراد تمريرها، حيث يحاول هنا، وعلى طريقته، تنسيب مفهوم سلة الحداثة إلى سلة الديمقراطية، للطعن بنظرة العلمانيين، عبر مقارنة شكلية تجعل من الأولى مطابقة للثانية، والغريب في الأمر أن العلمانية التي تقوم على النسبية المتغيرة في التعامل مع تجربة الحداثة بإخفاقاتها ونجاحاتها، لم تدَّع يومًا حداثة منجزة كمعطى نهائي، وقول البعض وهو حق لهم لا يمثل الكل. ثالثًا: تحول الجماعة إلى شعب: توصيف الواقع بكل تعقيداته لا بد أن يتأتى عنه تحديد البنيات والأنساق السوسيولوجية والفكرية المعطلة لكل حالة انفتاح تخرج هذه المكونات من سياجاتها الدغمائية، وهذا جزء من رؤية تغييرية، لا تعكس حالة اتهامية يتصورها كاتبنا للنيل من خصومه العلمانيين. إن التجميل في انتقاء العبارات لوصف هذه البنية البطريركية، لا يخفي الطبيعة المتأخرة لفضائها الرمزي، الممأسس بمخيال ثقافي شفاهي يرتكز على نص متعالٍ يستمد حضوره من تراث، ما زال حاضرًا، يقوم على ثلاثة مكونات أساسية: الأول قبلي، مشيخي؛ والثاني ديني، ملي؛ والثالث ذو طابع اثني، وهو ما يبقي الشعب في أغلب عالمنا العربي والإسلامي "رعية"، واقع مهما غيَرنا من نظرتنا إليه لا يحرمه حقيقته، ولا يصبح شعبًا إلا بقدر ابتعاده عن هذه المكونات. من هنا يمكن لنا فهم طبيعة الأنظمة والأحزاب الشمولية في إنتاجها لاستبداد يوائم بنيتها السوسيوثقافية، لتبقى الرعية منتجًا للاستبداد ومحفزًا له من خلال تماهيها مع دور الضحية، وستبقى الحال على ما هي عليه إلى حين تبلور برجوازية وطنية، تكون قادرة على كسر الانقسامات العمودية المغذية للسلطة في مجتمعاتنا وتحويلها إلى انقسامات أفقية، تؤسس لنمو بيئات وتجمعات مجتمعية خارج جغرافية القبائل والطوائف المنغلقة، ليسهل فتح الطريق أمام ظهور وتشكُّل الشعب. يبقى أن نشير إلى اللغة في خطاب غليون، ومحاولة تحميل العلمانيين سبب القطيعة والنظرة المتخلفة إلى الشعب، بأنها تنطوي على تحامل كبير لا يمكن تبريره، ومن ثم زجهم في خانة الأنظمة، وكأنهم شريحة غير واعية وغير مدركة للعمل الثقافي والسياسي، لغة تعكس الطبيعة الوصائية والتعليمية في خطابه الموجه إلى النخبة، جاعلاً من خطابه مرجعية متعالية على الجميع!. بين الطائفية والعصبية القبلية: في معرض سجاله، يسأل الأستاذ لؤي حسين محاوره الأستاذ غليون: ترى أن (الطائفية لا تنطبق على استخدام الدين، بل على استخدام كل أشكال التضامنات الخاصة ما قبل السياسية الناجمة عن تعبئة العصبيات القائمة على القرابة المادية، كالعشيرة والعائلة والإثنية أو المذهب) لكن ألا تفترق الرابطة الطائفية-الدينية عن الرابطة القبلية والعشائرية من ناحية الانفراط والزوال. فروابط الدم تبقى أسهل في التفكك من الرابطة الطائفية التي تعتمد الذاكرة الدينية والنص الديني الذي يبشر أفرادها بحظوتهم في الآخرة. وهو ما يجعل منها راسخة عنيدة على التفكيك. (ص 108). في سياق رده يجيب غليون: أكبر دليل على تفوق العصبية القبلية والعشائرية على مشاعر الولاء للجماعة الدينية. فلم يمنع الحماس الديني في عهد الدعوة نفسها من بروز القبلية وتقدمها على الرابطة الدينية. وقد فسر العديد من الباحثين والمؤرخين، في مقدمتهم ابن خلدون، نجاح الأمويين على الهاشميين بقوة العصبية الأموية على العصبية الهاشمية. وكان خالد ابن الوليد يوزع قواته في معارك الفتح الإسلامي حسب انتماءاتهم القبلية. (ص 122-123). "الولاء للجماعة الدينية"، "الحماس الديني"، هو قبل أي شيء لا يعتبرها عصبية، ولا يحب أن يراها كذلك، لكن ممكن للعصبية العائلية بين الأمويين والهاشميين أن تصبح قبلية عنده. علمًا أن معظم القبائل انقسمت على ذاتها، وهو ما يؤكد حضور عصبية دينية جديدة دون أن تلغي العصبية القديمة. ثم لماذا الإصرار على الفكرة بالمطلق حول أن القبلية أقوى من الطائفية والاستدلال بذلك من التاريخ والواقع الراهن، ولو أخذنا ذات المنحى لأكدنا عدم دقة الاستنتاج وهو ما يحيلنا إلى إبقاء الاحتمالين، فالكثير من البنى الاجتماعية في عالمنا العربي، المتموضعة في المدن، تفككت روابطها القبلية وحلت مكانها الطائفة، وهذه صيرورة المجتمعات. ولو نظرنا إلى جارنا الأوروبي لأدركنا زوال القبائل أمام المذاهب الدينية، وهذه الأخيرة ليست معطى نهائيًا ولكنها طبيعة الأشياء في تحولها اللامتناهي. ما يحاول غليون تقديمه هنا، لا يعدو تفنيد الأسئلة، ففي الوقت الذي يعري فيه الأنظمة، وهو محق في جل ما يراه، نراه أكثر تساهلاً مع الحامل الديني، المشكِّل الأساس للتراث والمولد لثقافة التمييز والإقصاء، ولنا في جغرافيتنا المتصحرة أكبر دليل، حيث غابت عنها التعددية والتنوع، لصالح خطاب لا يقبل له كفؤًا أحد. في مداخلته الأخيرة يتحدث الأستاذ لؤي: حاولت قدر استطاعتي التقاطع معك على نقاط نتفق عليها في الموقف من الاستبداد لكن تراءى لي أنك تشترط عدم المساس بالموضوع الديني، وكأنه أصبح خلفنا مع بقايا عصر الأنوار. (ص 132). بكل أسف يأتي الرد بطريقة انفعالية يشخصن من خلالها الحوار، قائلاً له: أنتم العلمانيين لسان حالكم يقول: إمَّا أن تكون علمانيًا على الطريقة التي أنظر إليها [...] أو أنك بالضرورة ديني أو إسلامي يتخفى وراء علمانية شكلية ولفظية. وأكاد أشعر أنك تضعني تمامًا في هذه الدائرة. (ص 137). كلام يتدخل في النوايا، ويضيِّق من مساحة قبول الآخر، فهذه الاتهامات التي ساقها كاتبنا، لا تليق بحجم مفكر كبرهان غليون، وهو ما يحيلنا إلى ما قلناه سابقًا من أن مجتمعاتنا تحتاج إلى ديمقراطيين قبل الديمقراطية.
الكتاب: برهان غليون: في النخبة والشعب/حوار: لؤي حسين الأوان، الثلاثاء 1 شباط (فبراير) 2011 |
|
|