|
فكر في هذه الأمور 3 من 27
ربما لم يفهم بعضكم كل ما قلت حول الحرية كل الفهم؛ ولكن، كما سبق لي أن أشرت، من المهم جدًّا أن تكونوا عرضة لأفكار جديدة، لشيء لعلكم لم تتعوَّدوه. رؤية أشياء الحياة الجميلة أمر حسن، لكنكم يجب كذلك أن ترصدوا أشياءها القبيحة أيضًا، ينبغي لكم أن تكونوا متيقظين لكل شيء. بالمثل، ينبغي لكم أن تكونوا عرضة لأشياء لعلكم لا تفهمونها بعدُ تمام الفهم؛ فكلما تفكرتم في هذه الأمور التي قد تصعب عليكم نوعًا ما وتدبرتموها، زادت قدرتكم على عيش حياة غنية. لا أدري إنْ كان أحدكم قد لحظ، في الصباح الباكر، ضوء الشمس على سطح المياه: أية لطافة خارقة هي لطافته، وكيف تتراقص المياه الداكنة، ونجمة الصبح تطل من فوق الأشجار، تلك النجمة الوحيدة في السماء. أتراكم تلحظون أي شيء من ذلك أبدًا؟ أم أنكم من الانهماك، من الانشغال بروتينكم اليومي، بحيث إنكم تنسون، أو لم تعرفوا قط، كم هو غني جمال هذه الأرض؟ – هذه الأرض التي علينا أن نعيش عليها جميعًا. فسواء سمينا أنفسنا شيوعيين أم رأسماليين، هندوسًا أم بوذيين، مسلمين أم مسيحيين، سواء كنا عُميًا، عُرجًا، أم أصحاء وسعداء، فهذه الأرض لنا. هل تفهمون؟ إنها أرضنا، لا أرض سوانا؛ إنها ليست أرض الغني فقط، ولا هي ملك للحكام ذوي النفوذ أو لأشراف الإقطاعيين حصرًا، بل هي أرضنا جميعًا، أرضكم وأرضي. نحن نكرات، لكننا نحن أيضًا نعيش على هذه الأرض، وعلينا جميعًا أن نعيش سوية. إنها عالم الفقراء بقدر ما هي عالم الأغنياء، عالم الأميين وعالم المتعلمين على حدٍّ سواء؛ إنها عالمنا، وأرى أنه لفي غاية الأهمية أن نشعر بهذا وأن نحب الأرض، لا في بعض المناسبات وحسب، كأنْ نحبها في صباح رائق، بل طوال الوقت. ولا يمكن لنا أن نشعر بأنها عالمنا فنحبها إلا حين نفهم ماهية الحرية. ليس هناك في الوقت الحاضر شيء يليق به اسمُ "حرية"؛ فنحن لا نعرف ما تعنيه الحرية. نود أن نكون أحرارًا، لكن جميع الناس، إذا لحظتم، – المدرس، الوالد، المحامي، الشرطي، الجندي، السياسي، رجل الأعمال، – يفعلون شيئًا ما، كلٌّ في زاويته الضيقة، للحيلولة دون تلك الحرية. الحرية ليست مجرد فعل ما يحلو لك، ولا هي القطيعة مع الظروف الخارجية التي تقيدك، بل فهم مشكلة الاتكال في كليتها. هل تدرون ما هو الاتكال؟ أنت متكل على أبويك، ألست كذلك؟ أنت تتكل على مدرِّسيك، تتكل على الطباخ، على ساعي البريد، على الرجل الذي يأتيك باللبن، وهكذا دواليك. ذاك النوع من الاتكال بوسع المرء أن يفهمه بسهولة إلى حدٍّ ما. لكن هناك نوعًا من الاتكال أعمق بكثير لا بدَّ للمرء من فهمه قبل أن يقدر أن يكون حرًّا: إنه اتكال المرء على سواه من أجل سعادته. هل تدري ما يعنيه اتكالك على أحدهم من أجل سعادتك؟ إن مجرد اتكالك المادي على سواك ليس هو ما يقيد بقدر ما هو اتكالك الداخلي، النفساني، الذي تستمد منه سعادة مزعومة؛ فحين تتكل على أحدهم بتلك الطريقة تصير عبدًا. إذا ظللت، وأنت تتقدم في العمر، متكلاً عاطفيًّا على أبويك، على الزوجة أو الزوج، على گورو [معلم روحي]، أو على فكرة ما، فبداية العبودية تكون موجودة سلفًا. نحن لا نفهم هذا – مع أن غالبيتنا، ولاسيما في ريعان الشباب، تتوق إلى الحرية. لكي نكون أحرارًا لا بدَّ لنا من التمرد على صنوف الاتكال الداخلي كافة؛ وليس بوسعنا أن نتمرد إذا لم نفهم لماذا نحن متكلون. فما لم نفهم صنوف الاتكال الداخلي كلها، ونفلت منها حقًّا، لا نستطيع أن نكون أحرارًا أبدًا، لأن في ذلك الفهم وحده يمكن للحرية أن توجد. لكن الحرية ليست مجرد ردة فعل. هل تعرفون ما هي ردة الفعل؟ إذا قلت لك شيئًا جارحًا، إذا نعتُّك بصفة قبيحة فغضبت مني، فتلك ردة فعل - ردة فعل ناجمة عن الاتكال؛ والاستقلال هو الآخر مزيد من ردِّ الفعل. لكن الحرية ليست ردة فعل، وما لم نفهم ردة الفعل ونتجاوزها، لن نكون أحرارًا أبدًا. هل تدري ما يعنيه أن تحب أحدهم؟ هل تدري معنى أن تحب شجرة، أو عصفورًا، أو حيوانًا أليفًا، بحيث تعتني به، تغذيه، ترعاه، مع أنه قد لا يعطيك شيئًا في المقابل، مع أنها قد لا تقدم لك الظل، مع أنه قد لا يتبعك، أو يتكل عليك؟ أغلبنا لا يحب على ذلك النحو، ونحن لا نعرف ما يعنيه ذلك بتاتًا لأن حبَّنا مطوَّق دومًا بالقلق، بالغيرة، بالخوف، – ما مضمونه أننا نتكل داخليًّا على سوانا، نريد أن نكون محبوبين. نحن لا نحب وحسب، ونكتفي بذلك، بل نطلب شيئًا لقاءه؛ وبمجرد أن نطلب نصير متكلين. وإذن فالحرية والمحبة متلازمتان. المحبة ليست ردة فعل: إذا أحببتك لأنك تحبني فهي مجرد مقايضة، سلعة تُشترى في السوق؛ إنها ليست محبة. أن تحب هو أن لا تطلب شيئًا في المقابل، ولا أن تشعر حتى بأنك تعطي شيئًا – ووحدها محبة كهذه تستطيع أن تعرف الحرية. لكنكم، كما ترون، لا تربَّون على هذا: تعليمكم يقتصر على الرياضيات والكيمياء والجغرافيا والتاريخ فحسب، لأن شغل آبائكم الشاغل هو مساعدتكم على نيل وظيفة مناسبة وعلى إصابة النجاح في الحياة. وإذا اتفق لهم أن يكونوا من أصحاب المال فقد يرسلونكم إلى الخارج، لكن كل قصدهم، مثلهم كمثل باقي الناس في العالم، هو أن يوفروا لكم الغنى والحصول على مكانة محترمة على سلَّم المجتمع؛ وكلما أمعنتم في الصعود تسببتم في مزيد من البؤس للآخرين، لأن بلوغ تلك المكانة يضطركم إلى المنافسة، إلى عدم الشفقة. وهكذا يرسل الآباء أبناءهم إلى مدارس فيها الطموح والتنافس، لكنها تخلو تمامًا من المحبة؛ ولذلك فإن مجتمعًا كمجتمعنا يتدهور تدهورًا مستمرًّا، يعاني صراعًا دائمًا. ومع أن رجال السياسة والقضاة ونخبة القوم المزعومين يتكلمون على السلام، فإن كلامهم لا معنى له البتة. والآن، علينا، أنتم وأنا، أن نفهم مشكلة الحرية هذه في كلِّيتها. لا بدَّ لنا من أن نكتشف بأنفسنا ما تعنيه المحبة؛ لأننا ما لم نحب لن نستطيع أبدًا أن نكون مهتمين، منتبهين، لن نستطيع أبدًا أن نكون مبالين. هل تعرفون ما تعنيه المبالاة؟ كأنْ ترى حجرًا حادًّا على درب تطؤه أقدام حافية كثيرة فتزيله، لا لأن أحدهم طلب منك أن تفعل، بل لأنك تشعر بشعور سواك – لا همَّ مَن يكون، ولعلك لن تصادفه أبدًا؛ كأنْ تزرع شجرة وترعاها، تنظر إلى النهر وتستمتع بامتلاء الأرض، ترصد طائرًا يحلِّق وترى جمال طيرانه، تتصف بالحساسية وتكون منفتحًا على هذه الحركة الخارقة المسماة بالحياة – لحصول هذا كله لا بدَّ من الحرية؛ ولتكون حرًّا لا بدَّ لك من أن تحب. من دون محبة لا توجد حرية؛ من دون المحبة، تكون الحرية مجرد فكرة لا قيمة لها بتاتًا. وإذن، فوحدهم الذين يفهمون الاتكال الداخلي ويفلتون منه، ويعرفون، بالتالي، ما هي المحبة، – وحدهم هؤلاء بوسعهم أن يكونوا أحرارًا؛ وعلى أيديهم وحدهم سوف تقوم حضارة جديدة، عالم مختلف. * * * سؤال: ما أصل الرغبة، وكيف أقدر أن أتخلص منها؟ كريشنامورتي: إنه شاب يسأل السؤال – ولِمَ عليه له أن يتخلص من الرغبة أصلاً؟ أتفهمون؟ إنه لا يزال شابًّا، مفعمًا بالحياة، بالحيوية؛ فلِمَ عليه أن يتخلص من الرغبة؟ لقد قيل له إن التحرر من الرغبة من أعظم الفضائل، وإنه بالتحرر من الرغبة سيحقق الله أو ذلك الشيء الأسمى، مهما تكن تسميته؛ لذا تراه يسأل: "ما أصل الرغبة، وكيف يمكن لي أن أتخلص منها؟" لكن الدافع إلى التخلص من الرغبة بعينه لا يزال جزءًا من الرغبة، أليس كذلك؟ فالخوف في الواقع هو الذي يحض عليه. ما هو أصل الرغبة، مصدرها، بدايتها؟ ترى شيئًا جذابًا، فتريده؛ ترى سيارة، أو قاربًا، فتريد امتلاكه؛ أو تراك تريد أن تبلغ منزلة رجل ثري، أو تصير سنِّياسي [ناسكًا زاهدًا]. هذا هو أصل الرغبة: الرؤية، التَّماس، ومنه ينشأ الإحساس، ومن الإحساس تتولد الرغبة. والآن، حالما تقر بأن الرغبة تجلب النزاع، تسأل: "كيف أقدر على التحرر من الرغبة؟" وإذن فإن ما تريده حقًّا ليس التحرر من الرغبة، بل الخلاص من الهمِّ، القلق، الوجع الذي تسببه الرغبة. تراك تريد التحرر من ثمار الرغبة المُرَّة، لا من الرغبة ذاتها – وهذا شيء هام جدًّا لا مناص لك من فهمه. فلو أمكن لك أن تنتزع من الرغبة الوجع، العذاب، الصراع، وسائر صنوف القلق والمخاوف المصاحبة لها، بحيث لا يبقى منها إلا اللذة، أتراك كنت تريد عندئذ أن تتحرر من الرغبة؟ مادامت باقيةً الرغبةُ في الكسب، في الإنجاز، في الصيرورة، على أي مستوى كانت، فهناك حتمًا القلق، الأسى، الخوف. فالطموح إلى الغنى، إلى أن نكون هذا أو ذاك، لا يتلاشى إلا عندما نرى نتانة الطموح ذاته وطبيعته المُفسدة. ولحظة نرى أن الرغبة في النفوذ، أيًّا كان شكله، - سواء كانت في نفوذ رئيس وزراء أو قاض أو كاهن أو گورو [معلم روحي]، – هي شر من حيث الأساس، تزول رغبتنا في أن نصير أصحاب نفوذ. لكننا لا نرى أن الطموح مُفسِد، أن الرغبة في النفوذ شريرة، بل نقول، على العكس، إننا سوف نستعمل النفوذ للخير – وهذا كله محض هراء. فالوسيلة الطالحة لا يمكن لها أن تُستعمل أبدًا لبلوغ غاية صالحة: إذا كانت الوسيلة شريرة فالغاية ستكون شريرة هي الأخرى. الخير ليس نقيض الشر؛ إنه يوجد فقط حين يبطل ما هو شرير تمامًا. وإذن، إذا لم نفهم مدلول الرغبة بكلِّيته، بنتائجها وعواقبها، فإن مجرد محاولة التخلص من الرغبة لا معنى له. سؤال: كيف نقدر أن نتحرر من الاتكال مادمنا نعيش في المجتمع؟ كريشنامورتي: هل تعلم ما هو المجتمع؟ المجتمع هو العلاقة بين الإنسان والإنسان، أليس كذلك؟ لا تعقِّد الأمر، لا تقتبس من كتب كثيرة؛ فكِّر فيه ببساطة شديدة، وسوف ترى أن المجتمع هو العلاقة بينك وبيني وبين الآخرين. العلاقة الإنسانية هي التي تصنع المجتمع؛ ومجتمعنا الحالي مبني على علاقة استحواذ، أليس كذلك؟ أغلبنا يريد المال، النفوذ، الأملاك، السلطة؛ على هذا المستوى أو ذاك، نريد المكانة والجاه، وبذا بنينا مجتمعًا استحواذيًّا. ومادمنا استحواذيين، مادمنا نريد مكانة وجاهًا ونفوذًا وما إلى ذلك، فإننا ننتمي إلى هذا المجتمع، وبالتالي، نتكل عليه. لكن المرء، إذا لم يكن يريد أيًّا من هذه الأشياء، وبقي ببساطة على ما هو عليه بتواضع عظيم، يكون عندئذ خارجه؛ إذ ذاك يتمرد المرء على المجتمع ويفلت منه. التربية حاليًّا – لسوء الحظ – تهدف إلى جعلك تنصاع لهذا المجتمع الاستحواذي، تدخل في قالبه، وتتكيف معه. ذاك كل ما يشغل بال أبويك ومدرسيك وما تنص عليه كتبك. فمادمت تنصاع، مادمت طَموحًا، استحواذيًّا، تفسد الآخرين وتحطمهم في سعيك لتحصيل المكانة والنفوذ، فأنت تُعتبر مواطنًا "محترمًا". إنك تُربى على الدخول في قالب المجتمع؛ لكن ذلك ليس تربية، بل مجرد عملية تُشرطك على الانصياع لنموذج ما. لكن الدور الحقيقي للتربية ليس أن تحولك إلى موظف أو قاض أو رئيس وزراء، بل أن تساعدك على فهم بنيان هذا المجتمع العفن في كلِّيته وتتيح لك فسحة النمو في حرية، بحيث تفلت منه وتخلق مجتمعًا مختلفًا، عالمًا جديدًا. لا مناص من وجود مَن يتمردون، ليس تمردًا جزئيًّا، بل تمرد كلِّي على القديم البالي؛ فوحدهم أمثال هؤلاء الناس بوسعهم خلق عالم جديد – عالم لا يقوم على الاستحواذ، على النفوذ والجاه. بوسعي أن أسمع كبار السن بينكم يقولون: "هذا ليس بالمستطاع أبدًا. فالطبيعة البشرية هي ما هي، وأنت تقول كلامًا فارغًا". لكننا لم نفكر قط في إبطال إشراط الذهن الراشد، ولا في عدم إشراط الطفل. التربية قطعًا علاج ووقاية في آن معًا. أنتم، الطلاب الأكبر سنًّا، مُقَولَبون سلفًا، مشروطون سلفًا، طَموحون سلفًا؛ تراك تبتغي النجاح مثل أبيك، مثل الحاكم، أو أي واحد آخر. وإذن فدور التربية الحقيقي ليس مساعدتك على إبطال إشراطك وحسب، بل وعلى فهم سيرورة الحياة هذه من يوم ليوم في كلِّيتها، وذلك لكي تتمكن من النمو في حرية وتخلق عالمًا جديدًا – عالمًا يجب أن يكون مختلفًا كل الاختلاف عن العالم الحالي. لسوء الحظ، فإن آباءكم غير مهتمين لهذا، ولا أساتذتكم، ولا عموم الجمهور. لذا لا بدَّ للتربية من أن تكون سيرورة تربية للمربي وللطالب على حدٍّ سواء. سؤال: لماذا يتعارك البشر؟ كريشنامورتي: لماذا يتعارك الصبية الصغار؟ أنت أيضًا تتعارك أحيانًا مع شقيقك، أو مع الصبية الآخرين هنا، ألا تفعل؟ لماذا؟ أنت تُعارك على لعبة. ربما أخذ صبي آخر كرتك، أو كتابك، ولهذا تُعارك. والراشدون يتعاركون للسبب نفسه بالضبط، إلا أن لعبتهم هي المكانة أو الغنى أو النفوذ. إذا كنت تريد النفوذ، وكنت أنا أيضًا أريد النفوذ، ترانا نتعارك، ولذلك تنشب الحروب بين الأمم. الأمر على هذا القدر من البساطة، إلا أن الفلاسفة والساسة ورجال الدين المزعومين يعقِّدونه. أتعرف، إنه لفنٌّ عظيم أن تتمتع بوفرة من المعرفة والخبرة، - أن تعرف غنى الحياة، جمال الوجود، الصراعات، البلايا، الضحك، الدموع، - وتحتفظ مع ذلك بذهنك بسيطًا للغاية؛ وليس بوسعك أن تتمتع بذهن بسيط إلا حين تعرف كيف تحب. سؤال: ما هي الغيرة؟ كريشنامورتي: تتضمن الغيرة السخط على أنت عليه وحسد الآخرين، ألا تتضمنهما؟ عدم قناعتك بما أنت إياه هو بالذات بداية الحسد. تريد أن تكون مثل واحد آخر يفوقك معرفة أو جمالاً، أو عنده بيت أكبر، نفوذ أكثر، أو مكانة أفضل من مكانتك. أو لعلك تريد أن تكون أكثر فضيلة، تريد أن تعرف كيف تتأمل تأملاً أفضل، تريد أن تصل إلى الله، تريد أن تكون شيئًا مختلفًا عما أنت عليه؛ لذا تراك تحسد، تغار. إن فهمك ما أنت إياه أمر على قدر هائل من الصعوبة، لأنه يتطلب تحررًا تامًّا من كل رغبة في تغيير ما أنت إياه إلى شيء آخر. فالرغبة في تغيير نفسك تولد الحسد والغيرة؛ في حين أن فهمك ما أنت إياه يُحدث تحولاً في ما أنت إياه. ولكنْ، كما ترى، تربيتك كلها تحثك أن تحاول أن تكون مختلفًا عما أنت إياه. عندما تغار يقال لك: "لا تكن غيورًا، فالغيرة شيء فظيع." فتراك تجاهد كي لا تكون غيورًا؛ لكن تلك المجاهدة بعينها هي جزء من الغيرة، لأنك تريد أن تكون مختلفًا. الوردة البديعة، كما تعلم، وردة بديعة؛ لكننا، نحن بني البشر، وُهبنا القدرة على التفكير، وترانا نسيء التفكير. معرفة كيف نفكر تتطلب قدرًا عظيمًا من النفاذ والفهم، لكن معرفة ماذا نفكر فيه سهلة بالمقارنة. تربيتنا الحالية تملي علينا ماذا نفكر فيه، لكنها لا تعلِّمنا كيف نفكر، كيف نتعمق، نستكشف؛ وفقط حين يعرف المدرس، ناهيك عن التلميذ، كيف يفكر، تكون المدرسة جديرة باسمها حقًّا. سؤال: لماذا لا يرضيني شيء أبدًا؟ كريشنامورتي: طفلة صغيرة تسأل هذا السؤال، وأنا واثق من أنه لم يحضها على سؤاله أحد. إنها في ريعان عمرها، وتريد أن تعرف لماذا لا تشعر بالرضا أبدًا. فما قولكم، أيها الراشدون؟ هذا جنى أيديكم: لقد أوجدتم هذا العالم الذي تسأل فيه طفلة صغيرة لماذا لا يرضيها شيء أبدًا. يُفترَض فيكم أنكم مربون، لكنكم لا ترون مأساة هذا الأمر. إنكم تمارسون التأمل، لكنكم بليدون، منهكون، أموات في الداخل. لماذا لا يرضى البشر أبدًا؟ أليس لأنهم يطلبون السعادة، ظانِّين أنهم، عبر التغيير الدائم، سيكونون سعداء؟ إنهم يتنقلون من عمل لآخر، من علاقة لأخرى، من ديانة أو إيديولوجيا لأخرى، ظنًّا منهم أنهم، عبر حركة التغيير الدائمة هذه، سوف يجدون السعادة – وإلا فإنهم يختارون بقعة حياة منعزلة وينتنون فيها. القناعة قطعًا شيء مختلف تمامًا. إنها توجد فقط حين ترى نفسك كما أنت من دون أية رغبة في التغير، من دون أية إدانة أو مقارنة، – الأمر الذي لا يعني أن تكتفي بتقبُّل ما ترى وتذهب للنوم. لكن الذهن، حين يكف عن المقارنة والحكم والتقييم، فيكون بالتالي قادرًا على رؤية الـماهو من لحظة للحظة دون أن يريد تغييره – في ذلك الإدراك بالذات يوجد الأبدي. سؤال: لماذا يجب علينا أن نقرأ؟ كريشنامورتي: لماذا يجب عليك أن تقرأ؟ أصغ بهدوء وحسب. أنت لا تسأل أبدًا لماذا يجب أن تلعب، لماذا يجب أن تأكل، لماذا يجب أن تنظر إلى النهر، لماذا فيك قسوة، - أم أنك تسأل؟ أنت لا تتمرد وتسأل لماذا يجب عليك أن تفعل شيئًا ما إلا عندما لا تستحب أن تفعله. لكن القراءة، اللعب، الضحك، القسوة، الطيبة، رؤية النهر، السحُب، – هذه كلها جزء من الحياة؛ وإذا كنت لا تجيد القراءة، إذا لم تكن تحسن المشي، إذا لم تكن قادرًا على تقدير جمال ورقة الشجر، فأنت لست حيًّا. لا بدَّ لك من فهم الحياة في كلِّيتها، لا مجرد جزء صغير واحد منها. لذلك يجب عليك أن تقرأ، لذلك يجب أن تنظر إلى السماوات، لذلك يجب أن تغني، وترقص، وتكتب القصائد، وتتألم، وتفهم، – فتلك كلها هي الحياة. سؤال: ما هو الحياء؟ كريشنامورتي: ألا تشعر بالحياء حين تقابل شخصًا غريبًا؟ ألم تشعر بالحياء وأنت تسأل ذلك السؤال؟ أما كنت ستشعر بالحياء لو اضطررت إلى الجلوس على هذه المنصة، مثلي، وإلى مخاطبة جمهور؟ ألا تشعر بالحياء، ألا تشعر بشيء من الارتباك، فتود الوقوف ساكنًا، حين تقع عيناك فجأة على شجرة بديعة، أو زهرة رقيقة، أو عصفور جاثم على عشِّه؟ ألا ترى أنه أمر حسن أن تكون حَييًّا؟ لكن الحياء بنظر أغلبنا ينطوي على خجل بالنفس. عندما نقابل رجلاً مرموقًا - إنْ وُجد مثل هذا الشخص أصلاً - نصير خجلين بنفسنا. فترانا نفكر: "كم هو مهم، كم هو مشهور، وأنا نكرة!" وبذا نستحي، بمعنى أننا نخجل بنفسنا. لكن هناك نوعًا مختلفًا من الحياء، وهو أن يكون المرء لطيفًا حقًّا، حَييًّا؛ وفي ذلك ليس هناك أي خجل بالنفس. *** *** *** سماوات 16-10-2009 ٭ J. Krishnamurti, This Matter of Culture, Victor Gollancz Ltd, London, 1974, pp. 23-31
|
|
|