|
رجيس دوبريه: أديان رخوة وإسلام متصلِّب
يعدُّ رجبس دوبريه Régis Debray من بين المثقَّفين المعاصرين الأكثر إنصاتًا إلى الظواهر والطقوس، وإلى ما لا يكاد يُرى لأوَّل وهلة، وإن كان يقود العالم. ولم تكن الوسائطية أو الميديولوجيا – طريقة التفكير التي كان ابتدعها - تهدف إلى استكناه المادة الإعلامية ، بقدر ما كانت تسعى إلى فهم اشتغال أنظمة التفكير والجمع والإخبار الكامنة وراء حدث ما. في حوار رجيس دوبريه مع المجلَّة الفرنسية Réforme بتاريخ 7–1-2010، يعمل على فهم التحوُّلات الحاصلة في مواجهة تحدِّيات العولمة. ويكشف عن آليَّات اشتغال الظاهرة الإسلاموية الراديكالية التي نشأت، حسب رأيه، عن الاحتكاك بين التقدُّم التقنيِّ وبين التقاليد الدينية في عالم اهتزَّت فيه الهويَّات، وأمست فيه الرهانات الإيكولوجية أكثر إلحاحًا من أيِّ وقت مضى. * * * سؤال: نشهد، من حين إلى آخر، مخاوف متزايدة تجاه الإسلام. فكيف تفهمون ذلك؟ رجيس دوبريه: علينا أن نميِّز بين المدى القصير والمدى البعيد. بالنسبة إلى الأحداث الراهنة، فإنَّ قضية المآذن تمثِّل ردَّة فعل هستيرية عنصرية مسيَّسة لا تنذر بخير. لقد انتهت نزعة معاداة السامية في مظهرها القديم، وصارت العنصرية قرينة الإسلاموفوبيا. طبعًا، دون أن ننفي أنَّ معاداة السامية ما تزال تخاض بالوكالة كمشجب تعلَّق عليه تبعات الصراع العربي-الإسرائيلي. فإذا ما التفتنا، الآن، إلى المدى البعيد لاحظنا أنَّ أدياننا اتجهت أكثر إلى الرخاوة، فيما حافظ الإسلام على تصلُّبه. نحن نعيش طورًا من اليقظة الهووية في جزء من العالم العربي الإسلامي تمثِّل، في تقديري، صدمة ارتدادية. لقد كان للعولمة التقنية والاقتصادية مفعول عكسيٌّ تجلَّى في تفتيت سياسي وثقافي للعالم. وفي مقابل العولمة المادية حصلت تجزئة أخلاقية وثقافية وإيتيقية. هذا ما نسميه في الميديولوجيا الأثر الطردي أو الارتدادي: L effet jogging كلما أنشأتَ طرقًا سيَّارة مال الناس إلى المشي على الأقدام! في السبعينات، عندما كنت في الجزائر أو في تونس، فوجئت بأنَّ الأصوليين كانوا منتشرين في كليات العلوم، وبأن لا علاقة لهم بالصورة الكاريكاتورية المرتسمة عن المتطرِّف، وهو يخرج من المدينة العتيقة، بجلابيته ونعله ولحيته الطويلة وملامحه الفظَّة. إنَّ الفاعلين في القطاعات الأكثر تطوُّرا تقنيًّا هم من يجد في إثبات عاداتهم الخاصة عنوانًا روحيًا يخشون فقدانه. فالتقدُّم التقني يعدل بالمرء عن محلِّه، والعودة إلى الأصول ترجع به إليه. كذلك هو التقدُّم: متى حوَّلت شخصًا عن وجهته، وحملته على نمط معاش بلا ملامح، واستزدتَ في اللاأماكن les non-lieux كالمطارات وطرق السيارة، فإنَّك تكون قد زدتَ في نزعاته إلى الاحتماء بالموروث. كان عالمُ مستقبلياتٍ قد تنبأ، في الثلاثينات، بأنَّ الحضر مقبلون على ضمور في أطراف أجسادهم السفلية بفعل إقبالهم المستمر على استعمال السيارات. ولقد برهنت التجربة أنَّ علماء المستقبليات يخطئون في أغلب الأحيان، وأنَّ الحضر الشغوفين باستعمال السيارات يمارسون ما نسمِّيه في الميديولوجيا عمل الطرد والعكس le jogging[1]. تغدو فكرة التقدُّم فكرة غبية متى لمْ نميِّز الدائرة الثقافية عن الدائرة التقنية. تغدو فكرةً غبية متى تصوَّرنا أننا إذا وهبنا الناس أساسيات الرياضيات وأدوات الحلاقة الكهربائية والحاسوب فقد جعلنا منهم أشخاصًا حديثين، أي أشخاصًا يعيشون وفق معايير العالم الغربي. والحال أنَّ الأمر على غير هذا النحو. فأثناء صدمة اللقاء بهذه الأدوات المتطوِّرة وبطريقة عفوية، سيجد هؤلاء الناس ملاذهم في الماضي وفي ترسُّبات الطفولة. يمكن أن نبسِّط فنقول: كلما زدتَ في إغراق بلد ما بالكوكا كولا زاد عددُ آيات الله!! العكس، أيضًا، صحيح. تلك ظاهرة حقيقية تفاقمت. فلقد جرَّت الاستراتيجيات الغربية من أجل نشر ثقافة تقدمية وطنية لائكية، إلى الدفع، رأسًا، بالأوساط الدينية التقليدية إلى الواجهة. ذلك ما صنعته الولايات المتحدة في المملكة العربية السعودية وأفغانستان، وما صنعته إسرائيل مع حماس لإيذاء فتح. وما نقوله، هناك، عن الأصولية الإسلامية ينسحب، أيضًا، على الهندوسية، ففي بومباي وداخل المصانع العاملة في المجال الأكثر تطوُّرًا تكنولوجيًّا، نعثر على العدد الأكبر من المتطرفين. سؤال: ولكنْ، ألا يمكن للإسلام أن يتطوُّر في اتصاله بالغرب؟ ر. د.: ليس لي الكفاءة اللازمة للإجابة، ولكنْ أزعم أنني قادر على ملاحظة تياريْن متسابقيْن. التيار الأول يسعى إلى تجذير الجيوب الإسلامية في المجتمع الأوروبي. ولا ننسَ، قطُّ، أنَّ المتطرِّفين يقدمون من المنفى: ففي لندن بالذات، تمَّ حرق كتاب سلمان رشدي. التيار الثاني هو تيار طليعة إصلاحية تريد ابتكار إسلام مُعلْمَن مرن يأخذ في حسابه مكتسبات التاريخ المعاصر. لنسمِّه إسلامًا إصلاحيًّا. أجل. ثمَّة مصلحون في الإسلام. ولقد سألتُ هؤلاء المسلمين المصلحين إنْ كنا نسير في اتجاه مزيد من التصلُّب ردَّ فعلٍ على الحداثة، أم إننا مقدمون على إصلاح [ديني] على الطريقة البروتستانتية. والحقُّ أنهم لا يعرفون الجواب بعدُ. والنهاية غامضة. سؤال: ولكنْ، كيف نضع الحدود بين ما تقبل به مجتمعاتنا وما لا تقبل؟ ر. د.: كنتُ عضوًا في لجنة ستازي Stasi[2] عن المدرسة التي سرعان ما غرقت في مسألة الحجاب. أنا أؤمن بضرورة تحييد المدرسة، وبأنَّ الحياة على كوكب الأرض ينبغي أن تكون أدبًا متبادلاً. إذا زرنا إسطمبول أو دمشق، وهممنا بدخول مسجد، فعلينا أن نخلع أحذيتنا. وفي المقابل، إذا ذهبنا إلى مدرسة الجمهورية، فعلينا أن نضع الحجاب. وأضيف، إنه ليس من الواجب أن نخلع الحجاب وحده، بل أن نخلع القلنسوة (اليهودية) والصليب وسائر العلامات الإشهارية، أيضًا. هذا من الأمور التي بدت لي لازمة، ولكنه حُمِل على محمل ردود الفعل. لاحظوا أنَّ موقفي المذكور يترك لي هامشًا من الحرِّية لكي أقول إنَّ قانونًا ضدَّ البرقع ليس ممكنًا لأنَّ مثل هذا القانون لن يصمد أمام أنظار مجلس الدولة. وهذا عائد، أيضًا، إلى أنه إدانةٌ واضحة لديانة مخصوصة دون غيرها بناءً على ظاهرة هامشية. لا محلَّ، في تقديري، للتشنُّج إلا لتصعيد التطرُّف. سؤال: كيف تفهمون النقاش الدائر على موقف الحكومة من الهوية الوطنية؟ ر. د.: إنَّ هوية فرنسا، قبل كلِّ شيء، هي اللغة الفرنسية. والحال أنَّ من يدعوننا إلى التفكير في الهوية الوطنية هم أول من يهين لغتنا. فما إن تطأ أقدامهم ستراسبورغ أو بروكسال حتى يبادروا إلى استعمال الإنجليزية. الهوية تاريخ تجعل منه المدارس أمرًا اختياريًّا. هذا أمر مثير للسخرية. لقد كشف هذا النقاش عن اضطراب سيكولوجي في بلدنا... الهوية الفرنسية هي حصيلة ترسُّبات خمسة عشر أو سبعة عشر قرنًا بطبقات متراكبة توَّجتها صيغة مبتكرة هي الجمهورية. فرنسا هي المدرسة والجيش. هي منظرٌ طبيعي وطريقة ما في الاعتناء بالحديقة، أو في الأكل... هي، في اختصار، ارتباط مخصوص بالعالم. في كتاب لي بعنوان القوة والأحلام أقررتُ أنَّ فرنسا كانت بلد المياه الدافئة ما يميِّزها عن بلدان المحيط كبريطانيا، أو عن بلدان البحيرات كسويسرا، أو عن أمم الغابات. ها هنا، نتحدَّث عن لاوعي "محسوس". فرنسا هي، في الوقت نفسه، إرث وممارسة: لا يمكن أن تكون سعيدًا لكونك فرنسيًا، ولكنْ، نكون سعداء لكوننا نعيش على الطريقة الفرنسية. سؤال: المشهد السياسي، اليوم، لا يبدو بخير. فكيف تقرأون تطوُّر السياسي؟ ر. د.: لقد انطوت ثلاثة أطوار. الطور الأول تجسَّد زمن الحرب العالمية الثانية وحرب التحرير، وأوجزه مالرو Malraux حين قال: "ثمَّة شيوعيون، وديغوليون، ولا شيء آخر". اليومَ، لم يعد هناك شيوعيون ولا ديغوليون. وانقلب "اللاشيء" إلى "كلِّ شيء!" الطور الثاني بدأ سنة 1789 وشهد ولادة الهمِّ السياسيِّ أو السياسة حيث إنَّ مفاهيم من قبيل اليسار واليمين ظهرت ابتداء من سنة 1789. صار الناس لا يصنَّفون بحسب انتماءاتهم العائلية والجهوية أو الطائفية بلْ بحسب نظرة مخصوصة إلى العالم. ثمَّة مسافة بين الانتماءات الاجتماعية والولاءات السياسية وُجدت، ولكنها لا تعدم المنازعات الاقتصادية والاجتماعية. يمكن أن أقول إنَّ هذه المنظومة انتهت سنة 1968 في مهرجان حاشد كأحسن ما يكون الاحتشاد، ولكنه حمل مشاعل الوداع في آن. بعدَ عام، وطئت قدما الإنسان سطح القمر. وبدت تلك الصورة التاريخية للأرض منظورًا إليها من خارج كأنها مركبة فضائية. وكان لتلك الصورة صدمة في التمثُّل: لقد نظر الإنسان إلى نفسه باعتباره مجرَّد صنف من الموجودات، وحسب. الطور الثالث بدأ مع ميلاد المسيح، حين خلع الإنسان معنى على الزمان، وصار يحقِّق وجوده عبره. فبنية الترقُّب والرجاء والظفر، وذلك التصور للزمان يتحكَّمان في السياسة، أعني الدين السياسي بما هو علمنة للفداء والقيامة والخلاص والحساب. اليوم، انتهى هذا الطور الأخير. وغادرنا التاريخ إلى الطبيعة: ذلك ما نسمِّيه الإيكولوجيا. الناس، على عهدنا، كفوا عن التفكير في الزمن والتقدُّم، وصار التفكير موجَّهًا إلى المجال. أجرى الحوار: جون لوك موتون وفريديريك كاساديسوس J-L. Mouton - F. Casadesus ترجمة: مختار الخلفاوي *** *** *** الأوان [1] تحدَّث رجيس دوبريه عن هذا المفهوم في محاضرة له في جانفي 2006 نشرها فيما بعد على موقعه الإلكتروني بعنوان: L effet jogging. وقد اقترحنا ترجمة هذا المفهوم بالأثر الطردي أو الارتدادي. ويعدُّ دوبريه هذا المفهوم في اتصاله بيقظة الوعي بالهويات إحدى جراحات التقدُّم. فبقدر ما تتقدَّم العولمة في حياتنا المعاصرة، ترتدُّ الأفئدة إلى الهويات. والإنسان المعاصر يعيش أكثر وقته في اللامكان (مطار، محطة، طريق سيارة، نقطة استخلاص، مركز تسوق...). وهذه أماكن بلا تاريخ ولا ذاكرة. ولذلك، لم تقدْ إلى إنسان قياسي معولم، بل على العكس، فلقد انجرَّ عن عمليات التوحيد في الوسط التقني والاقتصادي وتفتَّت في النسيج السياسي والثقافي. [2] لجنة ستازي، نسبة إلى رئيسها برنار ستازي Bernard Stasi الوزير الفرنسي الأسبق ومفوض الجمهورية، هي لجنة انعقدت على درس اللائكية مبدأً كونيًّا وقانونيًّا وقيمةً جمهورية. وضمَّت اللجنة علماء ومفكرين متخصصين في قضايا المجتمع المدني، من بينهم ريجيس دوبريه وجيل كيبيل ورينيه ريمون وآلان تورين ومحمد أركون، بالإضافة إلى موظفين وبرلمانيين يمثلون مختلف الأحزاب، وممثِّلين عن منظمات المجتمع المدني.
|
|
|