قوس قزح

 

محاسن الجندي

 

كان يراها في قاعة المحاضرات، أو في الحديقة الجامعية، أو في الشوارع القريبة، تخطر بقامتها المديدة الرشيقة، وخطواتها الريمية المفعمة بالحرية، تلتفت بعينيها الغامضتين كأسرار الغابات، فتخلق عاصفة سحر وفتنة. لذلك، وبكل طاقته، حشد وعزَّز لباقته وخبرته وموهبته في اجتذاب النساء. أما هي فلم تتجنَّبه ولم تقترب منه. كانت تتصرف بثقة وهدوء، مبتسمة بعض الأحيان، محافظة على مسافة محددة بينهما، أو بالأحرى بينها وبين الجميع. وضعت دائمًا حاجزًا، لم تتخطَّه مطلقًا.

حاول باستمرار أن يكسر الجدار المنيع أو السور الذي أحاطت به نفسها، بيديه، برأسه، بذكائه... قال:

-       لنذهب لحضور مسرحية؟

-       لا وقت لديَّ.

-       لنتنزَّه في الحديقة؟

-       لا أتنزَّه في الحدائق مع أحد.

-       لنذهب في رحلة على متن زورق؟

-       لا أحب البحر، ولا أريده.

مرة أخرى، في مناسبة ما، حمل الزهور والحلوى.

قالت له:

-       يجب ألا تزعج نفسك، وتهدر نقودك، لأنني لا أحتفي كثيرًا بالمناسبات وأرجو ألا تعيد ما فعلت، فلن أقبل شيئًا من أيٍّ كان.

فكَّر: يجب ألا يغلب أبدًا.

أهداها قصائد شعر واثقًا هذه المرة من النتيجة. لكن الجليد لم يذب، والشمس لم تطرد الغيوم.

في نهارٍ ربيعي، كانت تمشي في الشارع. تقدم إليها، رافقها. لم تعترض، ولم تهتم أيضًا، اقترب منها شحاذ مشوَّه، يمسك الناس بغيظ وعصبية طالبًا بعناد:

-       أحسنوا إلى العاجز، أتسمعون؟ وكأنكم لا تسمعون... هه...؟ ألا ترون وضعي...؟ أعطوني نقودًا أيها البخلاء..؟!

التفتت إليه وقالت بحزم:

-       بماذا تتشابهان أنت والشحاذ؟

توسَّم خيرًا... إذ سيبدأ نقاشًا...

أجاب:

-       كلانا نطلب. هو يطلب مالاً، وأنا أطلب حبًا!

قالت:

-       تصحيح بسيط : كلاكما لا تطلبان، بل تلحَّان وتلحَّان في السؤال بعناد وإصرار وتهديد ووقاحة. وغذَّت السير وهي تنظر إليه شزرًا.

أحس بالمهانة. ودَّعها ببرود. ودون أن ينبس بحرف، قرَّر في نفسه أن يسرع في هجوم أخير.

ظل يقلِّب الأفكار بضعة أيام. وبمحاولات مكثفة، وجهود مضاعفة، تعرف إلى بيتها، وقرع الجرس. فتحت الباب ودهشت:

-       أنتَ؟ مجددًا؟ من الذي...

لم يدعها تكمل فقال بارتباك ولهفة:

-       أرجوكِ أن تسمحي لي بالدخول. فالوضع خطير جدًا.

فوجئت بالأمر. وبما أنها كانت واثقة من نفسها قالت بتهذيب وعطف:

-       تفضل!

وبسرعة باح لها، كإله يُلتمَس. رجاها تخليصه من العذاب والآلام، ذاب، أنَّ، ابتهل، مزمعًا على قتل نفسه. ذُهِلتْ، وأخذتها الدهشة. تراجعت قليلاً عن مواقعها الأمامية، وظهر ذلك جليًا في عينيها المشفقتين.

منتظرًا تلك الفرصة، ركع على ركبتيه، وأخذ ينشج كالطفل، ويتمتم بحزنٍ وأسى واضطراب:

-       لم أعد أحتمل. لن أستطيع التحمل أكثر. لم يبقى أمامي... انتهى أمري... سوف أفعل بنفسي شيئًا لن تقبليه مطلقًا.

ازدادت حيرة، وتبلبلت أفكارها، وأثَّر العطف والشفقة في كسر الجليد وطرد الحذر، وتحطيم القسوة، فضعفت ولانت بعض الشيء. جلست إلى جانبه، لكن بدافع الخوف عليه، فأخذت تداعب شعره كطفل وتقدم إليه العزاء قائلة بصوتٍ متهدِّج:

-       انهض. انهض. لقد أثرت شفقتي. كفى، لا تتألم، ولا تبكي حسنًا. أنا لا أستحق أن تهين نفسك هكذا أمامي، وأمام أي إنسان. المشكلة أنني لا أحمل أي مشاعر من أي نوع و...

لم يترك لها فرصة للتكلم، بل التصق بيدها، وحرقها بدموعه، ثم أخذ مرفقيها بكلتا يديه وضمها إليه بسرعة وقوة.

فوجئت بالحركة. مانعت بشدة. بدأ يضمها بقوة أكثر، مبديًا إصرارًا أكثر فأكثر. ثم احتضنها تمامًا بيديه، وشدَّها إلى صدره. خافتْ. انتفضت كعصفورةٍ فاجأها المطر. قاومتْه. ردَّ على القوة بالقوة. ازداد تعنتًا وخيبة، ثم اشتعل حماسًا وتهورًا وتوحشًا. خاضت يداه في أنحاء جسدها. ردَّته بعنفٍ، تحولاً للعراك، ناضلت بشراسة وبسالة.

ألقاها أرضًا. تناثرت خصلات شعرها، واحتقن وجهها بالانفعال، فبدت أجمل. وعندما أشرف على النصر، غرزت في الوقت المناسب، بشراسة لبؤة، أسنانها في زنده ومرفقه. صاح من الوجع. وبسرعة البرق أمسكت آلة حادة تستخدم لشق الكتب، ثم انصرفت لاهثة، متقطعة الأنفاس:

-       هيا... أيها السافل الوغد... غادِر فورًا، أيها الخسيس الشنيع - وإلا طلبت الشرطة.

تمتم بلغة الجبان المنكسر المضطرب:

-       اعذريني... اغفري لي أرجوك... لم أكن أقصد أن...

-       أقول لكَ هيا انصرف من هنا، وإلا قتلتك!

ومشتْ باتجاهه، والآلة الحادة في يدها تلمع، والشرُّ يتطاير من عينيها:

-       حيوان سافل! من تظنني أيها الحشرة...؟!

لاحقته حتى الباب، ثم ضربته بقدمها على قفاه، وأغلقت الباب بتشنج ثم تداعت على أقرب كرسي وأجهشت ببكاءٍ مرير...

في الليل أرَّقه الرفض، وكوته اللامبالاة، وعصفت به المقاومة والإهانة. تقلَّب في فراشه. حاول أن يهدأ. لم يستطع حتى ساعة متأخرة. وعند الظهر أيقظه رفاقه، ساخرين معلقين.

فتح عينيه، تمطَّى، تثاءب بتثاقل ودلال، كعاهرة، سألوه:

-       هل نجح الأمر...؟

بذكاء وخبث ثعلب، ابتسم ابتسامة لها أكثر من مدلول. تمطَّى من جديد مبديًا اللذة والنشوة، مبديًا أن الليلة كانت رائعة. لكن فمه ظلَّ مغلقًا كما يليق بإنسان يحفظ السرَّ، وكما يليق بالفارس والرجل الحقيقي، حفاظًا عن الشرف وصونًا للعرض.

وإذ نظروا إلى ساعده الموشوم بالأسنان، تأكدوا من الأمر، وتبدَّدت شكوكهم في رجولته وتأثيره الساحق على الفتيات.

منذ ذلك اليوم، سيطر على الوسط الطلابي ضباب مسموم، هادئ غير مرئي أو ملموس. كروح الشياطين سبح السم متهاديًا كالأفعى، وتسلل كموجة هواء دافئة إلى كلِّ أذن، ودخل كل غرفة. ومن الغرف إلى الوحدات. تلطخ اسمها الطاهر. تلاشت الهالة التي كانت تحيط بها. وكالوحش المفترس، صادَ في الماء العكر، نما، تطاول، استحال إلى مستنقع نتن من الإيماءات والإيحاءات الكاذبة بالوصول.

مشى متخائلاً أمام زملائه، منفوش الريش كديك رومي، مدفوعًا بحقده وتفاهته.

أما هي فقد نَمَتْ زهرة برية نادرة، بين الصخور والأشواك. وما تزال شامخة نائية، وبعيدة وشفافة كقوس قزح بعد هطول مطر.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود