|
في النهر وتجلياته
للنهر تمظهران فلسفيان شعريان أساسيان يندرجان تحت عنوان واحد هو التحول أو التغير، ففي التمظهر الأول يتجلى النهر كتعبير عن التحول المستمر أو الصيرورة في الحياة البشرية ذاتها، وهو ذو بعد فلسفي-إنساني يرتبط بالشرط البشري ذاته، وفي التمظهر الثاني يعبِّر النهر عن التحول من الشرط البشري إلى الشرط المجهول ماوراء الطبيعي، وهو، بالإضافة إلى رمزية التحول، يحمل رمزية الحدِّ أو الفاصل بين الشرطين. والفرق بين التمظهرين هو العيش في الأول وعبور الثاني، فالنهر-الحياة هو العيش لحظة بلحظة، وإدراك وفهم الزمن في علاقته مع الكائن الحي؛ فأنت لست كما كنت قبل هنيهة ولست كما ستكون بعد هنيهة، وهكذا حتى تصل إلى النهر الثاني: النهر-الميتافيزيقا حيث تخرج من الحياة المعروفة بأسرها إلى مكان ما آخر مجهول أو إلى لامكان ولازمان؛ فشرط النهر الثاني هو انتهاء شرط النهر الأول، والتحول من التحول المستمر في الحياة البشرية إلى الفناء الخالص عنه. ولتوحد تمظهري النهر السابقين تمظهر ثالث هو نرسيس الذي اكتشف النهر الأول فعبر النهر الثاني، ونرسيس من أوائل الصعاليك الشعراء الذين أخذتهم دهشة الحياة باكرًا فلبثوا ساكنين أمام حركتها، معاندين سيرورة الزمن ومحاولين إيقافه على لحظة الدهشة الخلاقة الأولى. ونرسيس لم يعشق صورته بل عشق صورته في جريان النهر المستمر، وتوقف حيث لا يمكن أن يتوقف تدفق النهر؛ وهو أيضًا سدهارتا، مكتشف النهر في شيخوخته بعد أن فَهِمَ الزمن، ولذلك عبَّر عن هذا الاكتشاف بالضحك: ضحك النهر. نرسيس عشق من على الضفة وسدهارتا أكمل بقية حياته في النهر، ولعل الفرق بين الاثنين هو ذاته الفرق بين الشاعر والحكيم في نفس كلٍّ منا. والنهر هو الماء أولاً ثم المجرى الفاصل بين ضفتين، ولذلك عندما يجف العنصر الأول يصبح النهر خندقًا وتنقلب رمزيته انقلابًا كاملاً في تواز بين الواقع والفلسفة أو الرمز. ولذلك ليس النهر نهرًا عندما تجف المياه فيه. وهذا النتيجة البسيطة تحمل مدلولاً شديد الارتباط بالواقع هو انتقال الفكر من الإبداع إلى الدوغماتية، من كونه نهرًا إلى كونه خندقًا، من كونه فكرًا حيًّا متدفقًا بشكل مستمر، مؤثرًا ومتأثرًا، فاعلاً ومنفعلاً في علاقة تبادلية مع كل من يحيا فيه، إلى كونه خندقًا يتحصن به المدفونون فيه ضد مدفونين في خنادق أخرى. والخندق يختلف عن النهر في كونه حفرًا سهلاً فقط، ينشئ العبيد ويستغلهم في إطالة امتداده، يحجب الضوء عنهم ويبتلع قطرات الماء الصغيرة. والنهر إذا صادف صخرة احتواها أو مال عليها، حسب القوى، مضيفًا إلى جماله جمالاً وإلى جمالها جمالاً، مغيرًا صوته لأجلها، سرعته وهيئته دون نفسه؛ وفي فلسفته ليست الصخرة عائقًا بل ضرورةً لكينونته ذاتها. وللنهر فلسفة في السقوط تختلف عن فلسفة الصعود البشرية، فأجمل وجوهه وجه السقوط من أعلى حيث تختبئ الأسرار ويتفشى الشعر والسحر خلف أفواه الكهوف أو انزلاق الصخر واخضراره، وحيث ينتهي السقوط إلى بياض هو النهر أيضًا قبل استعادة وجهه السلس المستريح. والنهر لابد أن يكون منبعه مرتفعٌ أي في جبلٍ ما راسخٍ في الأرض، فالمطر يضيف إلى النهر لكن لا يشكِّله. في المقابل، لا يوجد النهر في منطقة قاحلة. ولذلك كي يتشكَّل نهرٌ لابد من وجود جبل ومطر. وإذا كان المطر هو القادم من "اللامادة" أو "المادة المختلفة" فالجبل هو المادة الأرضية المباشرة وهو الواقع في ارتقاءه وقدرة الناظر من عل على الرؤية التي لا يحدها سوى الحد الطبيعي الملزم. وفي النهاية، النهر هو الماء المنبجس من الأرض والهاطل من السماء معًا. والنهر يتشكَّل من منبع أول ثم من روافد وسواق وجداول، وفي الجداول قال ميخائيل نعيمة مرة: إن جدولاً عكرًا ليعكر جدولاً آخر، ولكن أنى لجدول عكر أن يعكر البحر، إن البحر ليستقبله ضاحكًا. والمقصود المدى والحركة، ذلك أن اختلاف النهر عن البحر هو في أسبقية الحركة في النهر وأسبقية المدى في البحر، ولذلك فإن من الممكن أن نقول: "أنى لجدول عكر أن يعكر النهر، إن النهر ليستقبله راقصًا"، فالرقص جسد النهر كما الاتساع جسد البحر؛ فهل لأحد أن يتصور أن باخوس ولد بعيدًا عن نهرٍ ما؟ والنهر في الذاكرة البشرية كائن جميل متوحش تم ترويضه بالسدود فازدهرت حضارات حوله ونمت ثمَّ تغولت متجاهلة أن الجفاف في النفس والطبيعة متزامن، وأنها قادرة على تغيير مجراه لأنه موجود بذاته ومتى انعدم وجوده انعدمت قدرتها. وهي رؤية فكرية بدأت نهرًا ثمَّ تخندقت في النفعية المادية حصرًا ليتحول النهر وفقها من مصدر رزق إلى مصدر حرب. والفرق بين الماضي والحاضر ليس في انتفاء هذه الرؤية في الماضي القريب بل في قوننتها في الحاضر واعتبارها المثال الأعلى الذي لا يمكن أن يتسع للجميع أبدًا، فارضًا بهذه الاستحالة ذاتها ترتيبًا وفصلاً يتوافق مع المنظومة القيمية المعاصرة ويتعارض مع الإنسان، بأل التعريف، فالإنسان لم يعد وفقها "حيوانًا ناطقًا" بل "حيوانيًا حسابيًا" أو "كتلة نقدية" أو "قوة اقتصادية" أو "مورد" ... الخ؛ هذا الإنسان الذي لا ينتمي إلى كوكب بل إلى دول متخلفة أو متقدمة وفق المنطق الاقتصادي الذي احتل كل الأمكنة فارضًا على كل الحيوانات الناطقة، المنتمية أصلاً وأولاً إلى هذا الكوكب، طريقًا مستحيلاً هو المثال المعمم على حساب الكوكب ذاته: كي تحيا لابد أن تدمر الحياة ذاتها، ولا خيار لك سوى النبذ الذي تغلغل فيك حتى صرت إياه؛ فكم من منبوذ، من نفسه أولاً، بسبب ما يسميه "عجزًا" عن مجاراة الواقع وهو، في الحقيقية، عجز عن رؤية تشوه هذا الواقع. ولكن، لنعد إلى النهر: النهرُ، مثله مثل الأفعى، ذو رمزية مؤثنة-مذكرة هي الجوهر والشكل، البنية والنموذج، المحتوى وشكل الاحتواء، الماء والمجرى. وكما أن غياب الماء يعني تخندق النهر فإن غياب المجرى يعني الطوفان. وقد نجت البشرية مرة من طوفان سابق بواسطة ذكر وأنثى من كل نوع، وشكلت نهرًا جديدًا أوشك الآن على الجفاف بعد قرون طويلة من حبس الماء في شكل المجرى. ولأن مجرى النهر شكل للماء فقط كما البحر شكل والمحيط شكل والطوفان أيضًا شكل، فإن عجز هذا المجرى عن الاحتفاظ بماءه أو عن استيعاب ماءه، أي عن تحقيق التوازن بين بعدي رمزية النهر، يعني انبثاق أشكال أخرى تبدأ بالشواش الممثل هنا بالطوفان حتى يتخلق نظام جديد منها أو لنقل نهر جديد يتدفق في اتساق مع بشرية جديدة. وكما نعرف، يتجه النهر غالبًا إلى البحر أو المحيط ليصب فيه، وهناك بعض الأنهار المكتفية ببحيرة تحفظ فيها عذوبتها من ملح البحر، ولكن الغالب أن يقال "يتجه النهر نحو مصبه الذي هو بحر"، وتأخذ هذه الفكرة دلالات كثيرة منها أن النهر إنسان والبحر ألوهة أو موت، فالموت كيانُ الألوهة في الظاهر والباطن رغم اختلاف معناه بينهما؛ ومنها أن النهر فكر والبحر إنسانية، ويعني أن غاية الفكر الإنساني هي، كما يجب أن تكون، خدمة الإنسانية جمعاء لا خدمة صورة أو نموذج إنسان مؤطر في عرق أو دين أو ثقافة؛ ومنها أن الحياة الصغيرة "الشخصية" تكبر وتتسع بالحياة الكلية؛ وأخيرًا منها أن رقصتنا الفردية الحية المبدعة تنتهي إلى سكون مبدع أيضًا. *** *** *** |
|
|