|
الحزن الموجود والأمل المنشود لدى الشاعر نمر سعدي
كان الأستاذ الشاعر نمر سعدي الذي يطلق على نفسه اسم وضاح سعدي، قد أهداني باكورة أعماله الشعرية المتمثلة بمجموعتين شعريتين أطلق على الأولى عنوان أوتوبيا أنثى الملاك وعلى الثانية اسم عذابات وضَّاح آخر، وقد تمنى عليَّ أن أكتب تعقيبًا أو تعليقًا على إنجازاته الشعرية هذه؛ ونزولاً عند رغبته تلك، فقد ارتأيت أن أتناول هاتين المجموعتين بالنقد والتحليل لما في ذلك من خدمة أدبية نحو الشعراء الواعدين الذين يسيرون في درب الإبداع الأدبي علهم يصلون إلى مبتغاهم الأسمى بخطى ثابتة وروح واثقة. إنَّ أول ما يسترعي الانتباه في مجموعة أوتوبيا أنثى الملاك هو العنوان الفريد من نوعه الذي أعطاه شاعرنا لهذه المجموعة، فالأوتوبيا هي الطوباوية والتي تعرَّف بأنها اتجاه مثالي، بمعنى خيالي، حيث يشتق من utopia الأغريقية بمعنى المكان المتخيَّل الذي لا وجود له على أي أرض، فاليوتوبيا بمعنى الأفضل، من eutopia أي الأرض الطيبة، أو الأصل الطيب، وفي القاموس المحيط "الطوبى" شجرة في الجنة أو الجنة نفسها، ومن ثم فطوبى لك بمعنى الخير والسعادة لك. والطوبى على ذلك بالمعنيين معًا هي الخيالي والأفضل. وكان أول من استعمل هذا التعبير توماس مور 1478 – 1533 في كتابه اليوطوبيا، أي المدينة الطوباوية. وكان فيلسوفًا انجليزيًا إنساني النزعة، وهو يصور مدينة خيالية ذات نظم مثالية تضمن لأفرادها أسباب الخير والسعادة. وأصبح هذا اللفظ بعد ذلك يطلق على كل كتاب يصور النظام المثالي للمجتمع الإنساني. ومن هنا فإن الأستاذ نمر سعدي يبحث عن مكان طوباوي يمتاز بالخير والسعادة يلتقي فيه مع محبوبة في نظام مثالي ملائكي ينشد فيه الأفضل مع أن ذلك يتواجد فقط في دنيا الأحلام والخيال كما يوحي اللفظ. ويدرك شاعرنا، من خلال كلمات قصائده، أنه يحلم بعالم لا يمكن الوصول إليه في هذه الحياة، وإن كان ينسج في خياله التأملات المفعمة بالأمل المشوب بحزن ظاهر يعبر عن خيبة أمله في تحقيق أحلامه مع امرأة يعشقها، امرأة تتمثل فيها السعادة والخير والهناء كأنها أنثى ملاك مع استحالة وجود مثل هذه المرأة، فالملائكة لا جنس لها، لكن شاعرنا يمني نفسه بإيجاد الأنثى المثالية ذات الطابع الملائكي الشفاف الجميل والبديع بجسدها ونفسها وروحها:
كان ينظر لي عبر بلور وهنا يمثِّل "الحنين إلى شفق أزرق في فضاء الزمن" توق الشاعر للوصول إلى الضياء العاطفي والفوقية الفكرية حيث يرمز اللون الأزرق إلى الحقيقة بإيجابيتها ونورانيتها في عالم الإنسان. ويعود شاعرنا إلى ذكر "الشفق الأزرق" وكأن شوقه أو تلهفه إلى الإستنارة العاطفية والفكرية يؤرق كيانه ويستحوذ على مخيلته:
ربما ربما في أوتوبيا وربما يكون تركيز الشاعر على اللون الأزرق نابعًا من كون اللون الأزرق هو رمز هدوء واطمئنان النفس على صعيد التفسير النفسي، لا سيما وأنه يقرن "أوتوبيا الممات" باعتبارها رمزًا للجنة في العالم الآخر مع "الشفق الأزرق" رمز الأمل في الوصول إلى مبتغاه في تحقيق السكينة والسعادة مع محبوبته في عالم طوباوي آخر يختلف تمام الاختلاف عن عالمنا هذا. من اللافت في قصائد مجموعة أوتوبيا أنثى الملاك أن شاعرنا يتطرق، بشكل بالغ، إلى ذكر أسماء أدباء وشعراء وفلاسفة عالميين في الأدب القديم والحديث أمثال: ألبير كامو، وسفوكليس، وبودلير، وهومير، وأفلاطون، ورمبو، وكيتس، وفيرجينيا وولف، وناظم حكمت، ومظفر النواب وغيرهم. علاوة على تسخيره للميثولوجيا العالمية والدينية لخدمة أغراضه الأدبية والشعرية في طرح أفكاره كذكره عشتار ويهوذا ونرسيس وايزيس وغيرهم. ومن المؤكد أن شاعرنا أراد من الإتيان بأسماء هؤلاء الأدباء والشعراء والفلاسفة وأبطال الميثولوجيا الإيحاءَ بأنهم جميعًا كانوا من دعاة مجتمع طوباوي يتمتع بالسعادة والخير والفضيلة والحب. إلا أن الواقع المرير لم يتح لهم تحقيق أحلامهم وخيالاتهم المثالية في الحب والطمأنينة وسلام النفس بنفس الكيفية التي يشعر بها شاعرنا من الإحباط والحزن والمعاناة وخيبة الأمل. لكنه مع ذلك ما زال مستمرًا في البحث عن مدينته الفاضلة السعيدة التي يتوق فيها إلى امرأة معشوقة تشاركه السعادة، كما فعل غيره من المبدعين على مدار سنوات حياتهم:
وجه من الأبنوس وفي هذه القصيدة تتبدى رمزية الإستحالة في تحقيق الأحلام والخيالات التي تعتمل في ذهن الشاعر. و"البروق" هنا هي أشارة إلى قوى، لا يمكن السيطرة عليها أو التحكم فيها، تؤثر في العواطف. كما أن البرق يتضمن معنى التبصر في كيفية جعل الحياة تسير بانتظام، وهذا إيحاء طوباوي لما يدور في خلد الشاعر من تمحور حول الأمل البعيد المستحيل الذي ينشده. ومن الملاحظ أن شاعرنا يقرن هنا الأبنوس بالبرق، ولعل في هذا تلميحًا إلى لون خشب الأبنوس الأسود الذي يرمز إلى المجهول والغموض والرهبة في مقابل البرق الوهاج الذي يشع نارًا ونورًا يستضاء به ويتم الاحتراق من خلاله. وقول الشاعر إن "البروق طفولة أخرى" هو إشارة إلى الحب الذي يلمع ثم يخبو، وبالتالي فإنه يرمز إلى الافتراق والانفصال كما يفترق الحبيب عن محبوبته بعد عهد الطفولة بكل ما فيه من براءة ومحبة وفضيلة. ويأتي شاعرنا على ذكر الشاعر الفرنسي الكبير شارل بودلير في مقطع من قصيدة تقاسيم على ماء جريح (ص 61)؛ ومن حيث أن بودلير هو شاعر اللذة والألم وقصائده غنية بالصور، والخيال البكر، والعاطفة المتأججة الجامحة، فإن الأستاذ نمر سعدي يستخدم في هذا المقطع من القصيدة المذكورة عبارة "زهور الضباب" كإشارة إلى مجموعة بودلير الشهيرة أزهار الشر حيث يريد شاعرنا هنا أن يلمح إلى أنه لا يرفض الحب العاطفي الجسدي المتأجج، بل أنه ينشد في محبوبته المرأة تلك الشعلة البدنية التي يعشقها الحبيب كما يعشق الإنسان نفسه بنرجسيته (نارسيسيته) الكامنة:
أحتويك أنا من زهور الضباب وحينما يقول الشاعر "شع ملحك في كل جسمي"، فإن الملح هنا يشير ويرمز إلى أن الشاعر عليه أن يلوم نفسه على شيء في الحياة الواقعية لم يقم بارتكاب خطأ فيه. وهذا يؤكد أن الشاعر العاشق لا يستطيع مقاومة حبه الجسدي تجاه المرأة التي يعشقها لأن هذه هي طبيعة الإنسان الذي يعشق نفسه من خلال عشقه للمرأة كنرسيس الذي أعجب بذاته وعشق نفسه وهو ينظر في البحيرة التي ترمز هنا إلى المرأة التي يرى فيها الشاعر نفسه متيمًا بهواها وذائبًا في عشقها. أما "القمر المعدني" أو "القمر البابلي"، فإنه يمثل الأنثوية البدائية واللاوعي، وبالتالي يرمز إلى تجدُّد الطاقة التي تغمر نفس الإنسان في كل زمان ومكان، وفي العالم الطوباوي الذي يرجوه الشاعر له ولمحبوبته المثالية أيضًا. ويستمر الأستاذ نمر سعدي بنغمة الحزن والابتئاس والمعاناة والاحباط في مجموعته الشعرية الثانية عذابات وضَّاح آخر، ويبلغ الذروة بنغمته هذه في المقطوعة التالية:
وأنت يا وضاح ويكثر شاعرنا في هذه المجموعة من استخدام الألوان كالأصفر والأحمر والأسود بكل ما في هذه الألوان من رمزية نفسية تعكس ما في داخل الشاعر من اختلاجات وأحاسيس ومشاعر كامنة. فهو ينعت شمس العمر بالصفراء، واللعنة بالحمراء، والثلوج بالسوداء:
خمرية شواطئ الأحلام كما أنه يقرن وجه المرأة بالقمر الأسود:
وجهها والقمر الأسود عن ومن هذه المقتطفات الشعرية، يتضح أن شاعرنا تغلب على عباراته أجواء وأوصاف الحزن والغموض. فاللون الأسود هو رمز الأسى والحزن، وفيه إيماءات إلى ضرورة تغيير أسلوب الحياة لا سيما وأن القمر يمتاز بتقلب الأحوال فلكيًا. كما أن الثلج، الذي يعطيه شاعرنا لونًا أسود هنا، يتضمن رمزية للبرود العاطفي والخوف من الوحدة بغياب المحبين؛ وفي هذه الحالة غياب المحبوبة عن الحبيب الذي يرتجيها لتؤنس سواد وحدته، ولكن الثلج يوحي بأن الحبيب قد أدرك أن حبه لتلك المرأة، التي أعتقد أنه أحبها، قد خفت واعتراه البرود. فالسواد جاء هنا لتأكيد الوحدة والعزلة والانفراد، وبالتالي مواجهة تغييرات وصعوبات في حياة الشخص. ومع كل هذا، فإن الشاعر يخاطب المرأة التي يهفو إليها قائلاً:
روحك في جسمي... وهنا يكمن مبعث الأمل الذي ينشده الشاعر في محبوبته، تلك المرأة التي ستخرجه من عالم الوحدة والخيبة بروحها البيضاء النقية الصافية التي ترمز إليها النوارس البيضاء التي ترمز أيضًا إلى الحظ الجيد وإلى آفاق الروح الحرة ذات المعنى العاطفي التحريري للنفس المثقلة بالأحمال، والتي تصبو إلى الإنطلاق والتحرر من قيودها وأغلالها. وكلمة أخيرة حول المجموعة الشعرية الثانية للأستاذ نمر سعدي، وإطلاقه عليها عنوان عذابات وضَّاح آخر حيث ربما يكون شاعرنا قد قصد إيراد اسم "وضاح" تيمنًا بالشاعر "وضاح اليمن" (708 ميلادية) والذي عرف بجماله الآسر، وكان يتقنع لشدة جماله. ومن الجائز أن سبب إكثار شاعرنا من ذكر اللون الأسود في أوصافه يعود إلى هدف تلميحي أراده شاعرنا عمدًا وهو استرجاع صورة وضاح اليمن كعاشق شديد الوسامة يخفي جماله بقناع أسود، وهو الذي يرجح أنه كان محظوظًا في الحب بعكس وضاح الآخر الذي يصوره شاعرنا والذي يعاني الحزن والكآبة ويأمل أن يجد ضالته المنشودة في حبيبة تبادله الأحاسيس والعواطف الجياشة وتعيد له نشوة الروح ولذة الحب. ولنا في حب وضاح اليمن لأثيلة قرينة نستخلصها من الأبيات التالية التي قالها وضاح اليمن في حبيبته أُثيلة:
صبا قلبي ومال إليك ميلا وختامًا، يتضح لنا أن الأستاذ نمر سعدي يتمتع بشاعرية واعدة، ويستحق كل ثناء وإطراء وتشجيع على هاتين المجموعتين، راجين له مزيدًا من الإبداع والتقدم في عالم الشعر، مع أصدق التحيات وأطيب التمنيات له بالتوفيق والصحة والازدهار. *** *** ***
الجمعة 16-9-2005 ٭ شاعر وناقد فلسطيني حائز على عدة جوائز عالمية في الشعر.
|
|
|