|
رحلة في البيدر
لم أشأها رحلة ولا أردته إسرافًا في بحث، وكنت أرى الأمر لا يتعدى مدونات هنا وملاحظات هناك سجلتها على هامش ديوان البيدر، وهو ما جرت عليه عادتي كلما قرأت كتابًا جديدًا. وقد قدَّرت أنَّ هذا الديوان سيلقى ما لقيه غيره من الكتب التي قرأتها، إلا أنَّ التعليقات تراكمت واتصلت حتى اكتسحت مساحة الهامش وتعدته إلى ما بين سطور القصائد، وإذ أنا أمام نص لم أسع إليه بإرادة بيَّتُّها أو نيَّة أضمرتها. كيف ولد هذا النص واشتد عوده واستتمت خلقته فهذا ما لا أستطيع أن أقطع فيه برأي، فهو ليس وليد ساعة من نهار أو هزيع من ليل، لكنها أويقات اختلستها من بين تضاعيف الهموم والأعمال كنت أرجع فيها إلى الديوان ما وجدت سانحة من فراغ، وكان القلم يكتب ما تمليه القريحة ويحثه الخاطر دون التفاتة إلى ما سبق من تعليقات ومدونات، وحسبت أنَّ الأمر قد بلغ منتهاه ووقف عند حده. لكنني كنت مخطئًا، فقد تواصلت علاقتي بالديوان، وكنت أعود إليه كلما مرَّ بي طائف الذكرى وتتابعت صور الماضي، يسوقني شوق غامر يائس إلى استرجاع لحظات مندثرة من الزمن الغابر، مستعيدًا ما خطه القلم في عجالته الحيية من أفكار ظننت أنها ستبقى لي وحدي دون غيري، ولم أجدني إلا رهين رغبة قدرت أنها ستظل حبيسة الصدر أو دفينة الإهمال، وإذ بي في لحظة من لحظات العزم ألمُّ شعث جمل وأفاريط عبارات محاولاً أن أقلل من تنافرها ما وسعني ذلك، وأن أزيد منقوصها بما يوائم طبعها من زيادات وتحويرات تغني الفكرة. طفقت أسأل نفسي: لماذا، وأنا لست ناقدًا أدبيًا ولا متخصصًا في علوم اللغة أو فنون الشعر والأدب أتقحم ساحة ليست ساحتي، وأخوض غمارًا لست من أهله؟ ألأنَّ قرابتي للرجل تلزمني نحوه بشيء من الواجب، أم إرضاء لحاجة داخلية يلح عليها غرور شخصي؟ وصدقوني، لقد قلبت الأمرين وأدرت الوجهين فلم أجد لا هذا ولا ذاك، ولو قد فعلت لمزقت ما كتبت أو تركته لنفسي على أقل تقدير. ورغم أن محبتي للرجل سوف تخرج هامتها ما وَجَدَت الفرصة كي تجليني عن مواطن الحياد المطلوب إلا أنَّ ما دفعني إلى هذه الدراسة هو ذلك الإحساس الخالد بالجمال الذي لا يحكمه قانون، ولا تحضُّ عليه منفعة عابرة، ولا تتحكم فيه رغبة منحطة؛ إنَّه ذلك الإحساس الذي يسعى إلينا قبل أن نسعى إليه موطّئًا أكنافه فاتحًا ذراعيه متعجلاً إلى اللقاء الحميم بين نسمة الصبح الرقيقة وقطرة الندى الصافية، أو التمازج الوثيق بين عطش الأرض وقطرة المطر. لم أتقصَّد في قراءتي أن أنظِّر لرأي أتعصب له، أو أروِّج لفكر يخرج عن حدود ما قصده صاحب الشعر في شعره، بل حاولت تقديم قراءة تخوض في خضم هائج من الإنسانيات والحالات الوجدانية التي يزخر بها الديوان وتجبر القارئ على الانتقال من مستوى التذوق الفني للنص الأدبي إلى مستوى التمازج العاطفي معه والاندماج فيه. وجهدت أن تنأى تلك القراءة عن نوازع ما يجنه الصدر للرجل من محبة، أو ما تكتمه العينان من غوالب العبرات لا سيما وقد غاب شخصه وشحط عنا مزاره. البيدر اسم يقدم استشرافًا مسبقًا يُفهم منه ما تحتضنه تضاعيف الديوان حتى قبل أن يقلب القارئ صفحاته. ولئن كان البيدر مربَعًا للسنابل والغلال فإنَّ شاعرنا ألقى أمامنا حزمة مضمومة من سنابل عمره ومعاناته:
قارئي هذه سنابل عمـــري وحصادي وبيدري وغلالي أليس البيدر هو الحياة ذاتها، أليست سنابله حصاد العمر وناتج الزرع؟ أليس لكل منا بيدره وغلاله وسنابله؟ ما أسرع ما يدرك القارئ المتصفح أنَّ الشاعر شطر ديوانه شطرين: أولهما ضمَّ قصائد ومقطعات في موضوعات الغزل وذمِّ الزمان والاخوانيات ونقد المجتمع، وثانيهما قصائد الرثاء. وقد رتب قصائده وفق تسلسلها التاريخي في كلا الشطرين، ولم يلق بالاً إلى تبويب ما تشتت من موضوعات، بل أقحم على كل قصيدة عنوانًا يدل على ما فيها. وسوف يلهث القارئ المتصفح المستعيد إذا تعمد البحث عن مدرسة شعرية أو قالب شعري أو اتجاه أدبي. وقد لا يرصد في غمرة تنقيبه مكنونات الإحساس المفرط والشاعرية المطبوعة والمعاناة الوجدانية للعشق والوحدة والحزن والاغتراب وهي أصداء لحالات شعورية نفسية متشابكة أرخى لها الحرف عنانه، وانصاع لها الوزن والموسيقا أيما انصياع، حتى نشأت هذه الوحدة الفريدة بين رهافة المشاعر وتلقائية الصياغة الفنية. وإذا كانت الأشكال الشعرية التي نعرفها لا تتنوع كثيرًا في ديوان البيدر إلا أنَّ الصخب الوجداني المتشائم القلق يلقي بجرانه على القارئ، ولن يظفر بطائل من يبحث في الديوان عن ضحكة مجلجلة أو ابتسامة عريضة أو بال رخي، بل سوف تنهمر عليه دموع الحزن من كل صوب ويلفحه هجير اليأس حيثما اتجه، ولن يتحول عن معاناة إلا ليقع على غيرها، وكأن الألم متصل والحزن مقيم والفرح ظاعن، وكأن غربة الشاعر قذفت به وحيدًا في المفاوز المقفرة، أو بحَّارًا تائهًا أضاع جزره البعيدة خلف الأفق. وأزعمُ دون إسراف في مبالغة أنَّ دوحة الحزن التي اخترعها كان يفيء إليها كلما اشتدت معاناته وانسدل ذلك الحجاب الصفيق بينه وبين مجتمع الغربة:
ألهذا خلقـــــتُ يارب لـلآ لام لليأس للضنــى للعذاب شاعرنا والفرح خطان متوازيان لا لقاء بينهما، فما روَّاه ورودُ غمره، ولا طابت نفسه بما حاز من يسيره، ولا انتفع إذ تدرع بالصبر على فقدانه، فكان الفرح صديقًا لدودًا أو عدوًا ودودًا، أما الحزن فهو رفيق قديم وصاحب عتيق وأنيس ملازم. ولعل أولى الإخفاقات التي قرعت بوابة حزنه كانت تجربة حبٍّ ربما عاشها كما عاشها غيره وذاق حلاوة اللقاء ومرارة الهجر كما ذاقهما غيره، لكنه بعد تلك الإخفاقة أسلس لليأس قياده وعزف عن معاودة الكرة وبقي يجتر حزنه القديم. ولو جمعتَ قصائد الغزل وواءمت بين دانيها وقاصيها لتجمَّعَ منها سياقٌ متصل لقصة يلتقي فيها الحبيبان ثم يتصارمان ويتعاتبان. ويؤكد ذلك تسلسل عناوين القصائد الغزلية نفسها: الحب الناطق، الجوارح الناطقة، وعد، أمنية، هجران، يأس وخيبة، صحوة، تحرير قلب، الحنين المتجدد. وتبيِّن القصائد بوضوح أنَّ الشاعر مرَّ بهذه المحنة في شبابه مع محبوبة بعينها لم يمكِّن غيرها من قلبه فوجَّه إليها كل قصائد الغزل، فهو يقول:
دوسي بساط الهوى في القلب واضطجعي فقد جعلت لك الأحشاء مضطجعا في غزلياته رقة اعتل نسيمها وأخضَّر ورقها وأهتز عطفها، وفيها عفة عذب لفظها وراق معناها، ولن تجد، وأنت تتنقل في مضمارها، كلمة شائنة أو معنى مبتذلاً أو اسفافًا ممجوجًا، لكن لكل قصة أمدًا تبلغه وغاية تنتهي إليها. وقد إنتهت قصته بجفوة وهجران. وعندما أغرته نفسه بإعادة العلائق تبيَّن له أنَّه وشَّج قلبه بحبيبة مخادعة فسخط عليها وانحطت مرتبتها في نفسه وسقطت من عينيه مع دموعهما، فتحرر قلبه – أو هكذا ظنَّ – من أغلال الهوى وتباريح الأسى:
سقطتِ من عينيَّ مع أدمعـي لـن يرجع الدمع ولن ترجعي الشعر عند "أحمد سلمان" صور ومشاهد ما أختطها القلم إلا بقدر ما رسمتها مشاعر وعواطف وقعت بين جاذبين: واقع مؤلم خلا من مواضع الأنس ومواضع البهجة، وخيال جامح كالبحر في هيجانه إن غضب، وكالبحر في عمقه وغموضه إن سكن وصفا. وفي شعره بعد إنساني ناضر لا غموض فيه ولا إغراب ولا اختباء خلف تزويقات رمزية ملغزة، بعدٌ يبدو فيه الحزن فاتحًا شدقيه مباعدًا ما بين فكيه مبتلعًا رحابة الزمن وفساحة المدى في لحظات الإبداع الشعوري الداخلي الذي كلما استعرت ناره عظُم وسمُق ليتجاوز في حجمه كل فضاءات القول وكل سماوات الكلمات:
لا النور في عينيَّ بعــدُ ولم ينر ظلمات نفســي يتقلب الديوان بين نزعتين لا ثالث لهما: أولاهما نزعة موضوعية متأثرة بالعالم المحيط وما يحتويه من صور وأشكال وبشر وحوادث وصخب، وهو عالم قاتم مخيف هرب الشاعر منه ما وسعه الهرب لكنه لم يستطع أن ينفك عنه، ودافعه عن نفسه ما وسعه الدفع فما قدر أن يتحرر من ثقله فخضع له على كره منه خضوع الساخط برضى أو الراضي بسخط وأحسَّه ديجورًا مطبقًا خبط فيه دون قبس باحثًا عن صديق مفقود أو أمل ضائع:
أين الطريق فقد ضللت طريقي وأضعت في هذي الحياة رفيقي وثانيتهما نزعة ذاتية تأملية حاول أن ينصِّبها عالمًا داخليًا مستقلاً يفر إليه كلما اشتدت عليه وطأة الضغوط، عالمًا يواجه عالمه الخارجي ويصده عنه أو مكانًا نائيًا يتكور في زواياه نادبًا عمره الضائع وأمله الذي عصرته قبضة الزمن. لكنه ما ظفر من عالمه الثاني بأكثر مما ظفر من عالمه الأول فإذا بالحرقة تزداد إلتهابًا بدل أن تبترد، وإذا بالغليل يشتد بدل أن ينتقع:
أنا في الكون بقـــــايا حلم ورؤى جفت على جفنَي صبي ضاع الشاعر بين عالمين: عالَم ظنَّ أنَّه يستطيع الهرب منه وعالم ظنَّ أنَّه يستطيع الهرب إليه، فلا أولهما أفلته ولا ثانيهما أحتضنه فعاش في غربتين، وبلغت مأساته أقصى درجاتها حين اقتنع أنَّ الفجر الذي لن يأتي نحر نفسه، وأنَّ السهاد الممض الجاثم في الليل الخالد سوف يبقى معانقًا أهداب عينيه، وأنَّ الموت أمنيَّة ما أطيبها لولا بقايا آمال ولولا فِلذتا كبد قذفهما في هذه الدنيا، رعى فيهما شبابه وطموحه وصبوته، وشمَّ فيهما شذا الماضي ونفح العبير:
أنا لولاهما ولولا بقـــايا مـــن بواكير أمنياتٍ عِذاب تتراكم المشاعر في الديوان ويقفو بعضها بعضًا، وتبدو الصورة النفسية الداخلية أظهر وأوضح وأكثر عفوية من الصورة المشهدية الدرامية التي لم تختف تمامًا بل استعان الشاعر بها في تثبيت بعض الوقائع التي عدها مهمة، لكنه لم يقدُر، حتى وهو يسرد بعضًا منها، على كبح فيض المشاعر النبيلة الراقية المحزنة، حتى لكأن المشهد بحد ذاته توظيف للحالة الشعورية الثائرة في نفسه:
وجائع لست أدري كيف أشبعه وكنت ألقمت فاه قــوت أولادي أليس هذا مشهدًا دراميًا متقنًا لا يحتاج إلى تعليق؟ انظر كيف قصَّ علينا باختصار بديع حكاية جائع فقير محروم ألقمه قوت أولاده فما شبع بطنه واستمر يتطلع بجوع وتوسل واستكانة إلى ما تبقى لدى مُطعمه من قليل الزاد، وانظر كيف غمز من قناة فقره هو نفسه الذي لا يملك زيادة على قوت عياله لكن الرحمة ورهافة الحس فرضا على الفقير في مجتمع قاس جاحد أن يحسن إلى فقير مثله. قد تجد مزيدًا من الصور الدرامية الاجتماعية مبثوثة هنا وهناك في ثنايا الديوان لكنها قليلة لأن الشاعر كان يبقى في كهفه لائذًا بحلمه الخاص راضيًا منه بكده وعسفه، ولم يترك صومعة حزنه إلا ليطل إطلالات سريعة طائرة طيران النسيم على عالم زوى عنه وجه الرضى فلا تقع عينه فيه إلا على خلل أو خطل أو تقصير:
أرى الحظ في شرع الحياة تناله شمــال غبي أو يمين مهرج وهل أمامه بعد هذا كله سوى استعتاب الدهر الكالح؟ ولما كان استعتاب دهر خؤون أشبه باستدرار ضرع جف لبنه ليس معه تحصيل أرب أو ادراك غاية فقد نفض شاعرنا منه يده ورضي من الغنيمة بالإياب وقنع مرغمًا بيسير ما حصَّله من الدنيا ووفرة ما جناه من الألم:
أأعاتـــــب الأيام والد نيـا وهل يجدي العتاب وفي قلب هذه الظلمة العابسة الحردة وجد نفسه وحيدًا بلا رفيق، صفرًا من الأمل، يسافر على ظهر ذكرياته إلى مطارح أحباب ثووا ومرابع رفاق مضوا، فلا يحس حركة ولا يسمع نبسًا، فلم يتبق منهم إلا ظل تينة مقفرة أو عروق دالية يابسة أو أطلال منثورة، فتشتد عليه الغربة ويقفل عائدًا إلى ملكوته الشعوري، وتنشأ لديه حالة من التضاد الصارخ بين الفردية النائية المنكسرة والمحيط المرفوض المهيمن:
وعدت في ذكرياتي حاملا أملــي إلى مطارح أحبابي وأصحابــي إنَّ هذا التقسم الشعوري بين موالاة الذات المتألمة والتمرد على الوجود الناقص، وإن كان أولهما تحصيلاً لثانيهما، يجعل المتأمل الممحِّص في الديوان يواجه ألفاظًا بعينها وعبارات بذاتها لا تكل عن اقتحام عينيه وقرع أذنيه، من قبيل: "الليل، الظلمة، العتمة، الوحدة، الألم، القهر". وهي تعبير عن حال نفسية متأزمة كانت تمسك بتلابيبه في حين أنَّ جدَّة صبره كانت تبلى، وعصب رفضه كان يتراخى. فقد رأى في تلك الكلمات وأشباهها الصلصال المطاوع لقوالب إحساسه، لكنه، رغم ذلك، ركبته قناعة مطلقة بأنَّ لسان الغيظ قد يغلو وأنَّ الطباع المستكينة قد تثور وأنَّ القلب قد يعرض عن الرضى، لكن الإيمان بالله لا يجب أن يفتر فلا راد لحكمه ولا معول إلا عليه، وأن الحياة كما قدرها يجب أن تُقبَل بغثها وسمينها وحلاوتها ومرارتها، فالله هو معقد الرجاء ومربط الأمل حين يزحف جيش اليأس ويعظم المطلوب ويقل المساعد:
إذا أنا لم أسألك عونًا لحاجتي فمن غيرك اللهم أدعو وأسأل ويعود في موضع آخر إلى التبرم بالحياة والتحسر على العمر الضائع الذي أفلت منه ومرَّ بلامعنى، وعلى الأيام التي كرَّت من أمام عينيه بعد أن امتصت منه القوة والجلد والفرح. لكن إيمانه بالله بقي ثابتًا لم يعتوره خور أو ينتابه ضعف أو يفت منه شك أو يشوبه تبرم أو ترقق منه شكوى رغم اعتقاده أن ما لقيه نوع من القصاص على جناية لم يدر ما هي:
وضقـت بالعيش إلا أنــــي أمـلاً يحييه صادق إيماني ومعتقدي ولا يحسبن أحد أنَّ هذا الايمان هو آخر أسهم الجعبة أو تعلق الغريق بالقشة أو تنفس المجترض بريقه أو لغو على اللسان أو اعتذار عن جناية، لكنه إيمان قديم متجذر، وفيه ابتهال إلى الخالق واعتذار عن المعاناة؛ فالزمن القاسي والحظ العاثر جعلا نفسه المنكسرة تأبى دون جحود وتتشكى دون كفر وتألم دون قنوط من الرحمة، وقارئ الديوان يلمس هذا النفس الإيماني التسليمي لديه حتى في قصائده الأولى، لكنها شكاة الصامت بلا ضجيج. ولو أنَّ الديوان لم يظهر لما عرف أحد كيف حبس هذا الرجل في قمقمه الصغير كل هذا اللهب، وكيف أغلق دخيلته على نار مستعرة لو سلطت على جبل لسال من حرارتها. لعل المراثي أهم ما في الديوان، فأمام جلال الموت وسطوته يقف الشاعر بخشوع وخوف خالعًا نعليه في واديه المقدس، متيقنًا أنَّ المراثي رديف لألمه واختصار لمعاناته، وهي ليست مُعينًا على البكاء وظهيرًا للمقاساة وحسب بل مضمار قذف فيه أفكاره وآراءه الفلسفية وقناعاته الدينية وتماثيل الألم الذي نحتها بيديه، فغدت المرثيات في جانب منها لسان حاله وتلخيصًا لرحلة ألمه وإخراجًا لمشاعره المطمورة. وفي هذه المرثيات تتمازج مشاعر الحزن ومشاعر الخوف وخوالج الإيمان والنظرة التشاؤمية إلى الحياه الدنيا، والزهد بما في يد الناس والطمع بما عند الله، وقد سانده إيمانه الصادق ودافعه المتجرد عن الغايات المادية على صياغة شعرية متقنة لم تبتعد عن الصنعة والتكلف إلا لكي تمشي في ركاب البديهة والطبع والسجية المحلقة المنفلتة من عقالها. ولم تفصله مرثياته عما ألفه ودرج عليه في باقي أشعاره من تبرم وسخط وأسف وألم بل حلق في الفضاء عينه وتحكمت فيه النفسية القلقة ذاتها. فبكى على نفسه قبل غيره واستهل بعض قصائده باهدار ماء الشؤون وقد أباح لنفسه ما أباح لأن المراثي لديه لم تكن تأدية لواجب اجتماعي فقد رثى فيها أحبابًا اعتبرهم جزءًا منه وقطعة من نسيج قلبه. يقول في إحداها:
هل في عيونك مخزون ومدخـر فأصدق الدمع حيث الدمع ينهمر ويقول في أخرى:
وقفت أجيل الطرف والطرف حائر أسائل نفسي هــل يعود المسافر وهل ثمة أجمل من هذا الجرس وأعذب من هذه الموسيقى؟ وهل يشك أحد في صدق المشاعر التي دفعت قريحة الشعر إلى هذا السبك الجميل البسيط البعيد عن التصنع؟ لقد أحس شاعرنا دون قصد مبيَّت أنَّ توطئة الحزن لا بد منها كي يتحول إلى توظيف فلسفته الخاصة في حزنه على نفسه وذم الزمان:
أنا أرثيــــك أم أقول أبو الشـ ـوق رثاني مؤبنا وبكاني لم انجرف كثيرًا وراء تنقيب ممل عن مدى محاكاة النصوص للواقع، أو أنجذب إلى دراسة الخلفيات التاريخية والاجتماعية التي حكمت النصوص، أو أهتم كثيرًا بتبيان الاتجاه الرومانسي المهيمن على الصورة الشعرية التي تعكس ذات الشاعر الداخلية، أو أحلل الصورة الشعرية إلى مفرداتها اللغوية الدلالية وما تنطوي عليه من ايحاءات؛ فهذا مدخل قد ألجه في قابل الأيام، بل اكتفيت هنا بالإشارة العابرة إلى ما تحمله نصوص الديوان من جمالية التعبير الشعوري المتحكم في هيكلها وتشكيلها الفني. اللغة الشعرية في البيدر وعاء جامع حمل مشاعر الشاعر وأحاسيسه، وقدمت نفسها كنتاج للانصهار بين الكلمة بوصفها ثوبًا والمعنى بوصفه جسدًا. وهي، بما حملته من دلالات عاطفية وجدانية، لم تكن سوى تعبير عن التجارب المؤلمة التي تراكمت وترسخت في وجدانه عبر سنيِّ عمره منتظرة من يصبها في قالبها اللغوي. لم تكن اللغة الشعرية لغة تقريرية تهدف إلى ايصال الفكرة الجامدة إلى المتلقي، وإنما أمسكت بيدنا تقودنا إلى أفق تعبيري حالم فيه القر والحر والنسيم والعاصفة والرضى والسخط والخيال والواقع والسكون والحركة:
واعتضتُ عن مرح الصبا وفتونه بسمــاع أنة قلبي المسحوق أدرك شاعرنا بالفطرة أنَّ التجسيم المفرط لن يساعد على إبراز الصورة الشعورية الداخلية لأن المعاناة بحدِّ ذاتها أعظم وأجل وأكبر من التجسيم وتحتاج لفهمها إلى التعاطف الداخلي قبل التصور العقلي المحسوس. وهو في هذا ليس نسيج وحده فقبله توصل كثير من الشعراء إلى نفس الاستنتاج لذلك لم تكن صوره الشعرية التي رسمتها مخيلته الخصبة بعيدة فقط عن التجسيدية الكلاسيكية وإنما ابتعد بها أيضًا عن الصور المشوشة الرمزية الملغزة. لن يحتاج القراء إلى مرشد حتى يفهموا تضاريس العالم الشعري الخصب لديوان البيدر بل سوف يكتشفونها من تلقاء ذاتهم، وسيبنى بعضهم لنفسه تصورات وآراء قد توافق تصوراتي وآرائي، وقد تتنافر معها. لكن أحدًا منهم لن يختلف معي أبدًا على جمالية الأداء الشعري والبساطة العذبة والشعور الرقيق المرهف وتحويل المعاناة الداخلية إلى صور تعبيرية بعيدة عن التزويق والتقعير والتحدب والتكسر والإبهام. أحمد سلمان أحمد شاعرٌ لو توفرت له بسطة المال وصداقة السلطان، ومشى في ركابه من يروج لشعره، لكان له في عالم الشهرة والذيوع شأن، أيُّ شأن. هامش: كتب الشاعر، بخطه البديع، قصائده ومقطعاته وأفاريط أبياته على أوراق مهلهلة أو على مزق منتزعة من الدفاتر أو على كشاكيل قديمة، فتجمع لديه قبل وفاته ركام أدبي فذ ما نوى صاحبه نشره ولا خطر في باله أنَّه سيجد طريقه إلى المطبعة يومًا. لكنه شاء شيئًا وشاء القدر شيئًا آخر. *** *** *** |
|
|