|
رؤية تاريخية للصراع بين العرب والغرب
تعددت في السنوات الأخيرة، وخصوصًا بعد الأحداث الإرهابية التي وقعت ضد الولايات المتحدة الأميركية في 11 سبتمبر 2001، الحوارات العربية - الغربية لتكشف آفاق العلاقات بين الجانبين، والتي تراوحت عبر عصور التاريخ المختلفة بين المواجهة والحوار. وفي هذا السياق التاريخي الزاخر بالمناقشات الإيديولوجية التي تدور حول العرب والمسلمين، وهل يمثلون تهديدًا للغرب أو لا، عقدت مؤسسة محمد راشد آل مكتوم في دبي ندوة موضوعها الحوار العربي الألماني (26 - 27 تشرين الثاني - نوفمبر 2008)، شاركت فيها نخبة متميزة من المفكرين العرب والألمان وناقشت مواضيع شتى. مثل «دور المثقف في المجتمع»، و«تأثير الظروف العالمية على الثقافة»، و«الاستشراق والاستغراب». كما نظمت جلسة عنوانها بالغ الطرافة وهو «من سرق هيغل؟». والقصد من ذلك العنوان هو الدراسة النقدية لعملية تأويل فلسفة هيغل ومحاولة بعض المفكرين، ومن أبرزهم فرانسيس فوكوياما في كتابه الشهير نهاية التاريخ، الاستناد إلى مفهوم نهاية التاريخ كما صاغه الفيلسوف الألماني الشهير، لكي يحكم حكمًا قاطعًا بنهاية الصراع الإيديولوجي بين الماركسية والرأسمالية، والانتصار النهائي للرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة في ظل مذهب «الليبرالية الجديدة». ورغم الأهمية النسبية لبعض مواضيع الندوة، إلا أن بعضها الآخر كان مجرد إعادة إنتاج لموضوعات تقليدية مثل «دور المثقف في المجتمع». والدليل على ذلك أن المشاركين في عرض الموضوع من المثقفين العرب والألمان لم يضيفوا جديدًا، مع أن تغير دور المثقف في عصر العولمة كان يقتضي معالجة تضع في اعتبارها عملية التفاعل الكوني بين الدول والمجتمعات والبشر، وما يدور فيها من تدفقات سياسية وفكرية، أثرت ولا شك في أنساق القيم السائدة وفي تشكيل الهويات الوطنية. أما أزمة الحوار العربي - الغربي عموما فتنبع من أنه ينبغي الإلمام الدقيق بالتفاعلات بين العرب والغرب، والتي تفاوتت بين السلام والصراع، مع التركيز على المشكلات التي ثارت في كل مرحلة تاريخية. ويبدو أن الموقع الجغرافي الفريد للشرق العربي، حيث تتلاقى طرق المواصلات العالمية بين الشرق والغرب، جعل نشوء علاقات تتفاوت في عمقها - بحسب المراحل التاريخية - بين العرب والعالم الخارجي أمرًا حتميًا. ويمكن القول إن هناك - منذ القرن السابع الميلادي حتى الآن - أربع لحظات كبرى للمواجهة تمت بين الغرب والعرب. وفي هذه المواجهات كان كل طرف ينظر إلى الآخر ويصوغ له صورة محددة، وكانت مكونات هذه الصور تختلف من كل مرحلة إلى أخرى بحسب الظرف التاريخي الذي تتم فيه المواجهة، وبعبارة أخرى تحديدًا بحسب ما إذا كان كل طرف منتصرًا أو مهزومًا، قاهرًا أو مقهورًا. وهذه المراحل الأربع يمكن على وجه الإجمال تحديدها في ما يلي: 1- الغزو العربي الذي تم في القرنين السابع والثامن أساسًا، والذي تمثل في عبور الجيوش العربية البحر الأبيض المتوسط، واحتلال الأندلس والنفاذ حتى أعماق فرنسا، إلى أن صد الغزو فظل العرب لمدة ستة قرون في الأندلس، حيث أغرقت اللغة والحضارة العربية أوروبا. على أن معرفة العرب بالأوروبيين ومعرفة الأوروبيين بالعرب ظلت محدودة. ذلك أن العلاقات بين العرب وأوروبا كانت متأثرة بعوامل كثيرة جعلت أثرها محدودًا. فقد كانت هذه العلاقات تتسم بطابع عدائي، فقد نظرت أوروبا إلى العرب باعتبارهم شعبًا غازيًا خرج من الجزيرة العربية مبشرًا بدين مغاير للدين السائد في أوروبا، وناشرًا حضارة جديدة، ومن هنا وقفت أوروبا من العرب في هذه المرحلة موقف الدفاع عن دينها وحضارتها وجماع كيانها، ولذلك سادت صورة عدائية عن العرب في العالم الأوروبي. 2- الحروب الصليبية (من القرن الحادي عشر حتى القرن الثالث عشر) التي اتخذت الصليب شعارًا لها، وخلاص الأرض المقدسة هدفًا تسعى إلى تحقيقه. وكانت هذه الحروب في الواقع - في جانب منها - ضربًا من ضروب أخذ الثأر لأوروبا من العرب. وخلال هذه الحروب الممتدة، التي خاض المسيحيون والعرب غمارها، كانوا في الوقت نفسه يتعرفون على بعضهم بعضًا على كل المستويات، كما هو الحال بالنسبة الى المتحاربين في أي حرب يطول أمدها. في هذه المرحلة اتسمت الصورة الأوروبية عن العرب بشيء من الاعتدال - على عكس المرحلة السابقة - فقد تعرف الأوروبيون على الجوانب الإيجابية في الحضارة العربية. وكانت كفة العرب في هذه المرحلة هي الراجحة «فقد كانوا يملكون من مقومات الحضارة المادية والعقلية ما يستطيعون أن يقدموا منه لأوروبا، بينما لم تكن أوروبا - حتى القرن السادس عشر - تملك من هذه المقومات ما يملكه العرب، لهذا أخذ الأوروبيون من العرب أكثر مما أعطوا»، كما قرر المؤرخ المصري المعروف عزت عبدالكريم. لقد ظلت «الروح الصليبية» - إن صح التعبير - محركًا رئيسيًا من محركات التاريخ الأوروبي، لم يتوقف أثره إلا عند بداية القرن السابع عشر، وذلك لسببين مهمين: أولهما أن الحركة البروتستانتية مزقت كلمة العالم المسيحي، كما أن التعصب الديني الذي كان موجهًا نحو الإسلام وجّه ناره آنذاك إلى الحرب الأهلية في أوروبا. وثانيهما معركة «البيانتو» التي دمر فيها دون جوان النمساوي قوة الترك البحرية بالنيابة عن أوروبا المسيحية. وبعد ذلك النصر أخذ خطر الإسلام يتضاءل شيئًا فشيئًا، وإن ظلت الدولة العثمانية قوية عاتية وقادرة في بعض الأحيان على دفع رحى الحرب إلى أبواب فيينا. بيد أن الأمم الأوروبية الغربية لم يعد بداخلها أي خوف من التركي بعد ذلك. ويمكن القول إن صورة العرب في ذهن الأوروبيين تغيرت عبر هذه القرون الطويلة التي هيمنت عليها «الروح الصليبية». غير أنه مع رجحان الميزان لصالح الأوروبيين في النهاية، لابد أنه أثّر بالضرورة على تقييم الأوروبيين للعرب. بعبارة أخرى سادت اتجاهات المنتصر إزاء المهزوم، بما يصاحب ذلك من الحط من شأنه، خصوصًا أن العالم العربي كان قد دخل في مرحلة التخلف الحضاري. 3- ونأتي إلى المرحلة الثالثة ونعني مرحلة الغزو الاستعماري (الذي بدأ منذ بدايات القرن التاسع عشر وامتد حتى النصف الثاني من القرن العشرين)، الذي سمح للأوروبيين، وخصوصًا للفرنسيين والإنكليز والإيطاليين، باحتلال كل العالم العربي الذي يطل على البحر الأبيض المتوسط، وباستغلاله بصورة استعمارية، ما أدى إلى أن يترك هذا الغزو بصماته على سكان العالم العربي الذين وقعوا تحت سيطرته. في هذه المرحلة بالذات تبلورت النزعة العنصرية ضد العرب. ويقرر بيتر ورسلي بهذا الصدد: بانتهاء القرن التاسع عشر أصبح نفوذ أوروبا الطبيعي مبدأ ساريًا لا مراء فيه. وحكم بالانحطاط والضعة على حضارات الشرق المتنوعة التي كانت محترمة يومًا ما. ووصلت عجرفة بعض المفكرين الإنكليز مثل ماكولي إلى حد أنه ادعى «أن رفًا واحدًا من مكتبة أوروبية جيدة، يعادل كل التراث الوطني للهند والجزيرة العربية». في هذه المرحلة أصبحت كلمة «بدائي» سمة توصم بها شعوب العالم الملونة من دون أي تمييز، وعكست العلوم الاجتماعية في نموها هذا التقسيم للعالم، وأقدم علماء الإنسان (الإنثروبولوجيا) على دراسة العالم غير الأوروبي بمعزل عن التقاليد الشعبية لفلاحي أوروبا نفسها. في هذه المرحلة، لم يقنع الغرب بالاستغلال الاقتصادي للعالم العربي، ولكنه ركز أيضًا على ما أطلق عليه ورسلي استعمار الشخصية، وإن كان هذا النمط بالذات من أنماط الاستعمار، كان عملية معقدة ومطولة، استطاعت الشعوب العربية - رغم ضراوة محاولات الاستعمار - أن تفلت منها، من خلال نضالها البطولي في سبيل التحرر. ومن الأهمية بمكان أن نشير إلى أن الغرب - في مرحلة غزوه الاستعماري للعالم العربي - لم يقنع بالترويج لصورة مزيفة عن العرب تتسم بالإجمال، بل إنه حرص- عن طريق فلاسفته وعلمائه الاجتماعيين - على رسم صورة تفصيلية تركز على قصور العرب وتخلفهم. في هذه الصورة سنجد عديدًا من الأحكام. من بينها ما قرره جورج ديهاميل عضو الأكاديمية الفرنسية في كتابه حضارة فرنسا، «أن الذهنية الشرقية عاجزة تمامًا عن التفكير التركيبي، وعن تجاوز الذات». ويلتقط باحث آخر هو جيب في كتابه الاتجاهات الحديثة في الإسلام، هذا الخيط لكي يقرر أن الذهنية الإسلامية تتسم بالذاتية atomism، ويعني بها نزعة الفكر الإسلامي إلى اعتبار المفاهيم وظاهرات الطبيعة وأحداث التاريخ منعزلة متفرقة، يعني أن الفكر الإسلامي غير قادر على عمليات التركيب. 4- وتبقى أخيرًا مرحلة ما بعد الاستعمار، التي يتقابل فيها الأوروبيون والعرب، والتي يظهر فيها كل طرف باعتباره حرًا، وله حقوق مثل ما للآخر تمامًا. ويبدو في هذه المرحلة أن العلاقات السلمية وصورة التبادل بأنواعها كافة وعلى جميع المستويات هي التي تحكم العلاقة بين العرب والأوروبيين. ولكن هذه في الحقيقة ليست سوى الصورة الظاهرة، أما الحقيقة فهي أن الغرب استطاع أن يبقي له رأس حربة في المنطقة، ممثلة في إسرائيل مدعومة من الولايات المتحدة الأميركية. وهكذا يمكن أن نخلص من هذا العرض التاريخي الوجيز، إلى أنه باستثناء الحقبة المعاصرة، وجد العرب والأوروبيون أنفسهم دائمًا في علاقة عداوة مباشرة. *** *** *** الحياة، 07-12-08 [1] كاتب مصري.
|
|
|