|
الإبادات والجرائم وغيرها من "المجازر الجماعية"
نحو مائتي مليون ضحية: إنّه تقديرٌ تقريبيّ جدًا للمجازر التي ارتكبت على كوكب الأرض خلال القرن العشرين. وهي نتيجة مروعة يجب محاولة تحليلها وفهمها. ولم ينتظر المؤرخون، ولا رجال القانون وعلماء الاجتماع والسياسة، حتى نهاية الألفية للقيام بذلك. أول نزعة تصعب مقاومتها، تكمُن في وضع تراتبية للرعب، وفقًا للهدف المراد من منفذّيه، وعدد الوفيات، وأساليب الإبادة والظروف التاريخية: الإبادة الجماعية، الجرائم ضد الإنسانية، جرائم الحرب وغيرها من أعمال "المجازر الجماعية". من وجهة النظر هذه، هناك إجماعٌ على أن القضاء على ستة من أصل تسعة ملايين يهودي في أوروبا بين 1941 و1945، الذي ارتكبته ألمانيا النازية، بالتواطؤ مع حلفائها، يكاد يعتبر، على الأقل في الغرب، "جريمة الجرائم"، التي لا يمكن تجاوزها ولم يسبق لها مثيلٌ في تاريخ البشرية. قناعةٌ تعزّزت خاصّةً منذ الستينات بفضل عشرات ومئات من الشهادات والأفلام والدراسات التي تواصل عامًا بعد عام احتلال مقدّمة المشهد. ما يؤدّي إلى خطر استنفاد فضاء الأبحاث على حساب غيرها من "الجرائم"؟ ولكن بأيّ حق يمكن أن ننتقد أولئك الذين يكرّسون لها أنفسهم لمتابعة المزيد من الدراسات والحفاظ على ذاكرة تدمير يهود أوروبا؟ بل إنّ السؤال الذي يجب طرحه بالأحرى هو: لماذا لم يُظهِر المؤرخون ولا يظهِرون حتّى الآن نفس المثابرة إزاء ضحايا وجلاّدي العديد من المجازر المنسيّة، التي يتمّ تجاهلها وإخفاءها، لا بل تلك التي يتمّ نكرانها أو تبريرها؟ وعندما ينكبّون عليها، نادرًا ما يكون ذلك في معزل عن النوايا الإيديولوجية والسياسية. فقد أضحت تسمية "الإبادة الجماعية" هي المرجع الأعلى للرعب الإنساني، ويجري استغلالها لجميع أنواع القضايا. فتأكيد أو نفي إرادة الإبادة في المجازر الجماعية التي يرتكبها هذا النظام أو ذاك، تكفي لإدانته بلا هوادة أو منحه الظروف التخفيفية، والحفاظ على ذكرى الضحايا وحقّهم في التعويض أو تركهم طيّ النسيان. ولكن هل مصير عائلة يهودية من هامبورغ، اقتيدت إلى غرف الغاز ومن ثم أحرقت في أفران أوشفيتز، هو أكثر بشاعةً من تلك العائلة الألمانية المجاورة والتي مات أفرادها اختناقًا من الوهج المحرق للقنابل الفوسفورية الملقاة من قبل الإنكليز والأميركيين قبل أن تتفحّم في المأوى حيث لجأت؟ هل يجب إذًا القول أن الحظّ (أو "البليّة") قد حالف العائلة الألمانية تلك لأنها نجت من الإبادة الجماعية؟ وهل تسمح لنا معاملة المسؤولين بطرقٍ مختلفة، بترتيب الرعب الذي عانت منه الضحايا؟ نحن نعلم أن توصيف "الإبادة الجماعية" قد استخدم كثيرًا، وخاصة لتشويهٍ قاطعٍ لسمعة الاتحاد السوفييتي - من خلال المساواة بين النازية والستالينية - كما الصين الماويّة[1]. وفي هذا السياق، وصلت الأمور إلى حدّ المصادقة على حتميّة وصول أيّ حركةٍ ثوريةٍ جذرية تتحدّى النظام القائم، نحو الشمولية التي تحمل في طيّاتها بذور ممارسات الإبادة الجماعية. وبالتالي يمكن التكهّن ممّن يمكن له أن يستفيد من عمل هؤلاء المؤرخين. وفي نهاية المطاف، لقد أدّى استغلال استخدام تسمية "الإبادة الجماعية" حتّى إلى تسخيف الجريمة التي يصفها، بما في ذلك تلك التي وقعت بحقّ الشعب اليهودي. كما يمكن التكهن على حد سواء، من قد يُرضي هكذا انحراف. وفي محاولة للتهرب من التصلّب القضائي ومن المزالق السياسية والأيديولوجية، تمّ البحث عن مفهومٍ سوسيولوجي في علم الاجتماع محايد وشامل. على غرار ما فعله جاك سيملان، الذي وبعد تحليلٍ دقيق، يقترح الرجوع إلى مفهوم المجازر الجماعية، وتوصيفها بـ "سياقٍ منظّم لتدمير المدنيين يستهدف على حدٍّ سواء الأشخاص وممتلكاتهم" بهدف إخضاع، واستئصال أو تدمير المجموعة المستهدفة[2]. وبما أن الكاتب هو أيضًا مؤسسٌ للموسوعة الالكترونية حول "العنف الجماعي"، قد يظنّ المرء أنه تجّنب المزالق وأوجه الغموض التي يدينها ويستنكرها. لكنّ اقتراحه يثير تساؤلات أكثر من تلك التي يحاول حلّها[3]. تبدو "السواطير" أيضًا مدمّرة كما غرف الغاز وقاذفات القنابل. أمّا النزعة الثانية التي يستسلم لها المؤرّخون فتقوم على انتقاء المذابح وبالتالي الجناة كما الضحايا، بالتركيز أوّلاً على القرن العشرين على حساب القرون السابقة؛ مع فكرةٍ مفادها أنه يمثّل "عصر التطرّف الأسوأ"[4] وبروز الدول الشمولية، ووسائل التدمير الجماعية التكنولوجية والبيروقراطية التي مكّنت من إرتكاب تدميرٍ لم يسبق له مثيل. لكن هذا ليس بالأكيد. فنحن نعلم أن آخر الإبادات الجماعية في القرن العشرين، هي التي ارتكبت بحقّ التوتسي في رواندا، وقد وقعت في مناطقٍ ريفيّة تعتنق المسيحية بشغف وخالية من أي وسائلٍ تكنولوجية. وقد سقط، في ثلاثة أشهر بين نيسان/أبريل وحزيران/ يونيو 1994 ما يقارب 900 ألف ضحية. هكذا أظهرت "السواطير" فعاليّتها وسرعتها تمامًا كغرف الغاز أو موجات القصف الجويّ المكثّف. أمّا بالنسبة لنحو 200 مليون من ضحايا المجازر في القرن الماضي، فإنّها تمثل نسبة حوالي 2% من البشر الذين عاشوا خلال هذه الفترة. ومن المرجّح جدًا وجود نفس النسبة المئوية لضحايا الإبادات في القرون السابقة. وفي الواقع، أدمت المذابح العالم في جميع الأوقات وكافة الأماكن. فالجلاّدون والضحايا هم أنفسهم دائمًا تقريبًا، أينما كان. مثالٌ واحد يكفي: مدينة ليموج الفرنسية، في 19 أيلول/سبتمبر 1370، السادسة صباحًا. من خلال فجوةٍ واسعةٍ في السور الذي يحمي المدينة الصغيرة المأهولة من 3500 نسمة، أنقضّ جنود الأمير الأسود. فقد أصدر ابن ملك إنكلترا إدوارد الثالث الأمر بقتل جميع السكان، الرجال والنساء والأطفال؛ وذلك انتقامًا لخيانة المحسوب عليه، جان دو كروس، أسقف المدينة، الذي انتقل إلى معسكر الملك الفرنسي شارل الخامس، والذي وعد بقطع رأسه. انتشرت في المدينة زُمرٌ من المرتزقة والرماة وضاربي السكاكين والجزّارين واللصوص، من الإنكليز والبيكارديين والبريتانيين، وانضمّ إليهم في وقتٍ لاحق الفرسان الرمّاحون، وأمراء الحرب ومرافقيهم، لينقضّوا على حيث يتجمع الشعب البسيط الأعزل فيذبحونه بمنهجية وسط حفلٍ ماجنٍ من الدم والعنف. ورغم التضرّعات، سمح الأمير الأسود بمواصلة المجزرة في الكاتدرائية حيث لجأ حوالي 300 شخص؛ ليأتي بعد ذلك دور النهب والسلب بقسوةٍ وجشع احترافيين. ثم تمّ تدمير المدينة عن طريق إضرام النار فيها مع هبوط المساء. ومن المفارقة والسخرية أن الأسقف الخائن كان واحدًا من القلّة الناجية، وتوفّي في فراشه معتمرًا قبعة الكاردينال التي حصّلها له ابن عمه روجيه دي بوفور، من مقاطعة الليموزان، والذي انتخب "بابا" على الكنيسة حتّى قبل أن يكون كاهنًا، تحت اسم غريغوار الحادي عشر. أما بالنسبة للأمير الأسود، الجزّار الكبير خلال حرب المئة عام، فهو واحدٌ من أكثر القتلة تكريمًا في التاريخ الإنكليزي. وعلى بعد عشرين كيلومترًا من ليموج، في أورادور سور غلان، في 10 حزيران/ يونيو 1944، حوالي الساعة الثانية من بعد الظهر، طوّقت عناصر من الصاعقة الألمانية المؤلّلة Panzer division SS Das Reich، التي يقودها الجنرال هاينز برنار لامردينغ، القرية وقطعت طرق الوصول إليها. كان ذلك نهار السبت، يوم السوق وتوزيع التبغ. قلق القرويون، الذين لم يروا في السابق كثيرًا من الجنود الألمان، عندما قامت عناصر الصاعقة بتفتيش المنازل ضاربين بأعقاب البنادق والأحذية السكان المتجمعين في السوق، ثم فصلوا النساء والأطفال واقتادوهم إلى الكنيسة حيث تمّ احتجازهم. جرى تقسيم الرجال إلى خمس مجموعاتٍ من ثلاثين إلى سبعين شخصًا، واقتيدوا إلى أكبر مباني القرية وأجبروا على إفراغها من محتوياتها قبل أن يكدّسوا فيها. صفّ الجنود المدافع الرشاشة أمام كل مدخل، وراحوا يحصدون الرهائن حتى سقوط جميع الأجساد وتراكمها بعضها فوق بعض، وبعد ذلك قضوا على الجرحى ونثروا على الجثث القشّ والحطب والمسحوق الحارق قبل إضرامهم النار بها ليبتعدوا أخيرًا ويشربوا بعض الزجاجات وهم يستمعون إلى الراديو. ونحو السادسة والنصف مساءً، يسمع عددٌ قليل من الناجين الذين تمكنوا من الفرار عبر الغابات، صرخات النساء والأطفال المنكّل بهم في الكنيسة. وقد فجّر الجنود قنابل دخانية ويدوية ألقيت من الزجاج قبل دخول المبنى، وأطلقوا النار على أيّ شيءٍ يتحرك. ثم رموا القش والحطب والمقاعد والكراسي على جثث 240 امرأة و202 طفلاً، وأشعلوا النار فيها. بعد ذلك، بدأت عملية النهب المنظّم، التي تمّ خلالها إخراج كل الذين حاولوا الاختباء وتصفيتهم. هكذا أيضًا بالنسبة للمرضى والعجز من طريحي الفراش. وأحرقت القرية بأكملها نحو الساعة السابعة والنصف، في حين ابتعد الجنود لاحتساء الخمر والإكثار من الأكل مخلّفين وراءهم 650 ضحيّةً على الأقل. من سخريات القدر الأخرى: أنّ الجنرال SS لامردينغ الذي اشتهر بفظائعه خلال تقدّم فرقته باتجاه النورماندي، لا سيما في تول حيث شنق 99 رهينةً، وأكثر من ذلك، في الاتحاد السوفيتي، في كييف وخاركوف؛ إنّ مجرم الحرب هذا قد توفي في إحدى المستشفيات، بعد خمسة وعشرين عامًا، دون أن يُحاكم. كما أنّ هناك عددًا كبيرًا من الضحايا، ومنهم اثنان وأربعون طفلاً، من اللاجئين من مقاطعة اللورين، بينما عددٌ من الجلاّدين في قوات الصاعقة SS هم فتيةٌ من مقاطعة الألزاس مجنّدين "رغمًا عنهم"، جميعهم فرنسيون، أتوا من مقاطعتَين ضمّهما هتلر بالقوة. اقتيدوا إلى العدالة بعد عشر سنوات على الأحداث، ليُعفى عنهم في نهاية المطاف. عندما قام تيمورلنك بمراكمة مخيفة للتخريب هكذا، وبفارق ستّة قرون تقريبًا، وعلى مسافةٍ فاصلة تقارب العشرون كيلو مترًا، في عمق فرنسا، ارتكبت مذبحتين في ظروفٍ مماثلةٍ بشكلٍ مذهل. نفس الجناة، والضحايا، نفس تقنيات الاضطهاد. سكانٌ مدنيون عزّل ومحاصرون، ثم وبصورة منتظمة حرق النساء والأطفال في كنيسة، من جانب قواتٍ أجنبيةٍ من النخب، جزء منها من أهل البلد نفسه الذين ينهبون، ويحرقون ويطلقون النيران دون أيّ عقاب. وفي كلتا الحالتين، لم يعاقب المسؤولين عن هذه الأعمال. أكثر من كونهما أخطاء تاريخية، هذان المثلان مروعان ببداهتهم المستنسخة في الآلاف من الحالات على مرّ العصور في جميع أنحاء العالم. فمن الواضح أنّها ليست حكرًا على القرن العشرين الذي يشكّل جزءًا من سلسلةٍ متصلة. أما بالنسبة للأسوأ؟ فنحن نعلم ما لحق باليهود المجريّين في نفس يوم مجزرة أورادور، حيث تمت تصفيتهم بشكلٍ جامح في أوشفيتز 2 بيركينو. ولكن في 1370، وتحديدًا في آسيا، انطلق تيمورلنك، الذي أصبح سيد "بلخ"، والباني الكبير لأهراماتٍ رفعها بعشرات الآلاف من الجماجم البشرية، في واحدةٍ من أكثر مسلسلات التدمير رعبًا؛ وخلال ثلاثين عامًا لم تنتهِ، أوقع ملايين الضحايا بين المدنيين ذبحًا، وترحيلاً في مسيرات الموت الطويلة، وحوّل إلى رماد، عشرات الآلاف من المدن والقرى، ودمّر جميع الثقافات، في بلاد فارس والهند وآسيا الصغرى والوسطى وصولاً إلى الصين. في الأميركيتين، حرب بيولوجية من الطراز الأوّل: جدري وحصبة وتيفوئيد وحتّى ما يسمى بأسلحة الدمار الشامل، الأسلحة الكيميائية والجرثومية فيما عدا الأسلحة الذريّة، فهي ليست من خصوصيّات القرن العشرين. فتسميم الآبار وإمدادات المياه كانت دائمًا أكثر الممارسات شيوعًا؛ وكان الغزاة يعلمون أنّهم يستطيعون الاعتماد على تفشّي الأوبئة لإبادة السكّان الذين يضعفهم الجوع جرّاء الحصار الطويل للمدن. أمّا بالنسبة لتدمير هنود أمريكا في إبادةٍ جماعية لم يسبق لها مثيلٌ في التاريخ، فمن المعروف أنّها لم تنجم عن مذابح وحشيّة ونظام الاستغلال الاستعماري بقدر ما جاءت من "الصدمة الجرثومية" التي تسبّب بها الغزاة الأوروبيون. ففي غضون قرنٍ ونصف من 1492 إلى 1650، اختفى 90 في المئة من سكان العالم الجديد لينخفض عددهم من خمسين/ستين مليون إلى خمسة/ستة ملايين؛ وقد قضوا جرّاء الأمراض المعدية القاتلة المستوردة: الجدري والحصبة والأنفلونزا والسلّ، والدفتيريا والتيفوئيد والحمّى الصفراء والملاريا... هكذا تدنّى عدد السكان في المكسيك من 15/20 مليون نسمة إلى مليونٍ واحد، أما في البيرو فتدنّى العدد من 6/9 ملايين إلى 600 ألف؛ وفي منطقة البحر الكاريبي: من ثلاثة ملايين إلى... صفر. هنود أمريكا الشمالية الذين تم تجنيبهم هذا المصير في البداية، تلقّوا في وقت لاحق الكوارث نفسها لينخفِض عددهم من 4 ملايين إلى 400 ألف في أواخر القرن التاسع عشر، كما روى بودا اعتماد في جرائم وتعويضات، الغرب في مواجهة ماضيه الاستعماري. قد يقال أن هذه الحرب الجرثوميّة لم تكن متعمّدة ولم يرد لها الاستمرار؛ ولكنّ المستعمرون سرعان ما أدركوا أن الدمار الذي يتسبّبون به يسهّل إلى حدٍّ كبير فتوحاتهم، ولم يترددوا، عندما سنحت لهم الفرصة، في استخدامه. في أيّ حال، لم يغيّر ذلك من مصير الضحايا. فقط أنّ الهنود الذين "اكتشفوا" كولومبوس وخلفائه لم يتقصّدوا الكارثة التي سوف تدمّرهم. إن الانتقائيّة في المجازر ليست فقط تاريخية بل هي أيضًا جغرافية، سياسية وثقافية. كيف؟ فمنذ قرون، إن لم يكن منذ آلاف السنين، كان ثلثا البشرية يعيش في آسيا. وكلّ شيءٍ يدعو إلى الافتراض أن نسبةٍ موازية من المجازر قد حدثت فيها. ويبدو أن القليل مما نعرفه عن الصين، وشبه جزيرة الهند الصينية، وشبه القارة الهندية وآسيا الوسطى والشرقين الأدنى والأوسط، يؤكّد هذا الأمر. إذ كانت هذه المناطق مسرحًا لسلسلة متواصلة من أعمال القتل التي ارتكبت خلال حروب السلالات الحاكمة، والفتوحات، والحروب الدينيّة والأهلية والانتفاضات الشعبية. وقد أدّى الصراع الصيني الياباني في القرن الماضي، إلى أكثر من عشرين مليون ضحية في الصين، مدنيّة وعسكرية. هم ضحايا منسيّون، متجاهلون، لا يظهرون إلا هامشيًا، كمذبحة نانكين على سبيل المثال والتي كرّس لها مايكل برازان كتابًا عنوانه الفرعي بين الذاكرة والنسيان والإنكار. فإذا غاب الشهود العيان، أين هم الباحثين، صينيين أم غيرهم، وهل هم نادرون إلى هذا الحد؟ وفي العقود الأخيرة، ساعدت أعمال بحثيّة مستوحاة من كتابٍ أفريقيين، وأمريكيين من أصلٍ أفريقي ومنطقة البحر الكاريبي، ومن المؤرّخين والجامعيين الغربيين، على تسليط الضوء على إحدى الجوانب الأكثر ترويعًا من "الوحشية البيضاء"[5] للمستعمرين الأوروبيين: تجارة الرقيق الأسود في أفريقيا. ومهما كانت عمليات التقييم غير دقيقة، يُقدّر أنّه تم ترحيل ما لا يقل عن 11/12 مليون أفريقي من جرّاء الاتجار بالأشخاص نحو المحيط الأطلسي، بين منتصف القرن الرابع عشر وأواخر القرن التاسع عشر، ثلثيهم خلال القرن الثامن عشر. واختفى نحو مليون ونصف مليون من الرجال والنساء والأطفال أثناء العبور وألقي بهم من على متن السفن. ومات 30 في المئة من أصل عشرة ملايين من الذين صعدوا إلى السفن خلال الأشهر الأولى. علمًا بأنّه من أصل مئة أسودٍ أسير، قضى خمسون منهم حين تمّ أسرهم، وذلك خلال المسير نحو الساحل والاحتجاز في موانئ التصدير. فقد أدّت تجارة الرقيق إلى مقتل 24 مليون شخص على الأقلّ. وقد تمّ تحديد جميع هذه الأرقام من جرّاء العديد من الدراسات التي بدأت منذ القرن التاسع عشر، ثمّ توسّعت خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة. في المقابل، لا تزال تجارة الرقيق العربية طيّ الكتمان. وهي التي ابتدأت منذ القرن السابع؛ وتمّ من خلالها ترحيل نحو 15 مليون أسودٍ عبر الصحراء إلى شمال أفريقيا، وبعد ذلك إلى الإمبراطورية العثمانية؛ وكذلك خمسة ملايين عبر المحيط الهندي وصولاً إلى الخليج الفارسي، والهند، وماليزيا وشبه الجزيرة الهندية. مع خسائرٍ بشريّة مماثلة لتجارة الرقيق في الأطلسي خلال عمليات السبي والمسيرات الطويلة خصوصًا في الصحراء. فالاتّجار العربي قد أسفر من ناحيته عن 25 إلى 30 مليون ضحية. يبقى الالتفات إلى الاتجار الأفريقي الداخلي، حيث أسفر نظام الرق المعتمد منذ فترةٍ طويلة في القارّة السمراء، والذي تضخّم بفضل مشاريع تصدير العبيد، خلال هذه الفترة عن خمسة عشر مليون ضحيّة. أين هم الباحثون العرب والإفريقيون، ولكن أيضًا، أين غيرهم من العاملين على هذا الموضوع حيث نشهد مرّة أخرى انتقائية بين الجرائم والمجازر، مثلما بين الضحايا والجلاّدين؟ وفي مكانٍ أقرب إلى أوروبا، لا يسع المرء إلاّ أن يتساءل عن الأشكال الأخرى للإنتقائية. هكذا بالنسبة لاثنين من النزاعات الدموية في النصف الثاني من القرن العشرين، تلك التي حصلت في كوريا وفيتنام، وأدّت في كلٍّ منهما إلى ما بين مليونَين وثلاثة ملايين ضحية، معظمهم من المدنيين. نعرف بالتحديد عدد الخسائر الأمريكية بينما هناك فارقٌ يصل إلى المليون في تقدير عدد الضحايا الكوريين والفيتناميين. وخلال هذه الصراعات، ارتكب الجيش الأمريكي مجازر مروّعة، لا سيّما عن طريق عمليات "إراقة الدماء البناءة" والقصف المركّز (قنابل النابالم والفوسفور وتلك الانشطارية والألغام المضادة للأفراد...). إذ تلقّت فيتنام وحدها وزن أطنانٍ من القصف أعلى من القنابل التي ألقيت خلال الحرب العالمية الثانية، وكلّها كانت مصمّمة لتتسبّب في تشويه أو قتل أكبر نسبةٍ من الأشخاص. لا يوجد أيّ بيانٍ أو دراسة تفصيلية لهذه الجرائم، ولا أيّ مسؤولية على منفذيها، وضاع الضحايا طيّ النسيان. ويمكن ملاحظة الشيء نفسه فيما يتعلّق بالحروب على العراق. سردٌ مبنيٌّ بشكلٍ إيديولوجي انطلاقًا من حالات مختارة وقد تمكّن الغربيون من وضع إيديولوجيةٍ عنصرية على أساس الدونية البيولوجية للهنود والسود والسكان الأصليين، واليهود، وتخلّف العرب والعرق الأصفر، كشرطٍ أساسيّ لإضفاء الشرعية على إبادتهم أو انصياعهم. وإن لم يسلكوا وحدهم هذا المسار، فمن غير المؤكّد أنهم تحرروا اليوم من هذه النظرة على ضوء اختلاف سلوكهم تجاه الضحايا كما الجناة على أساس كونهم غربيين أم لا. آخر محاولة في البحوث التاريخية عن المجازر تقوم على فصلها عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي ودراسة حالتها في خصوصيّتها، وكأنّها مفصولة عن التاريخ وتشكّل نوعًا من الشذوذ والوحشية الهائلة وينبغي دراستها على حدة. ليس بسبب عدم معرفة السياق التي حدثت فيه عمليات القتل تلك والذي من خلاله يمكن تحليلها وتفسيرها، ولكن في سبيل تأكيد ما تمثّله هذه العمليات من قطيعة نسبة للاستمرارية التاريخية الطبيعية. يمكن القول، على العكس من ذلك، إنّها مجرد امتدادات متواترة من عمليات الاضطهاد المستمرّة من قبل القويّ ضد الضعيف، ومن الأغنياء ضد الفقراء، ومن المهيمنين ضد المهيمن عليهم، ومن قلّة ضئيلة ضد الأغلبية الساحقة، وهذا نسيج تاريخ المجتمعات البشرية بالأمس كما اليوم. وعندما نعي هذا الأمر، سنضطرّ للخروج من إطار الدراسات اللازمة لمحاكمة ومعاقبة مرتكبي الجرائم والمجازر، التي تضع جانبًا ضحايا الأمس واليوم، وحقهم في التعويض والدعم المعنوي والمادي. وفي حين أنّه من الصعب تحديد أين تبدأ المذبحة، فإن الحدود التي تفصل العنف الجماعي عن أعمال العنف اليومية التي يعاني منها كلّ الذين بقوا على قيد الحياة، ويتعرضون للاستغلال الوحشي ولظروف لا تليق بالبشر، وللفقر وانعدام الأمن والإذلال، هي حدود واهية يمكن تجاوزها بسهولة. والحالة التي يعاني منها الفلسطينيون لعقودٍ هي مثالٌ على ذلك، ضمن أمثلةٍ كثيرة، ولكنّها أصبحت رمزًا. إذ أنّ البشريّة لم تجد حتى اليوم أسلوبًا ناعمًا لتجريد الشعوب من رغبتها في الكرامة والعدالة. تسهم التراتبية والاختيارية والفصل في تحويل تاريخ "العنف الجماعي" إلى ملحمة، أو إلى رواية أيديولوجية مبنيّة على مواقف منتقاة ذات رسالة واضحة: وحدهما الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق قادرين على حمايتنا من الإبادة الجماعية وغيرها من المجازر. فهل يجوز الشك[6]؟ اللوموند ديبلوماتيك - كانون الأول 2008 *** *** *** المراجع: - قاموس العنف الجماعي الإلكتروني: www.massviolence.org - Bouda ETEMAD: Crimes et Réparations. L’Occident face à son Passé Colonial. (André Versailles éditeur, Bruxelles, 2008, 208 Pages, 19.90 euros). - Michel PRAZAN : Le Massacre de Nankin. Entre Mémoire, oublie et Négation. (Denoël, Paris, 2007, 304 pages, 20 euros( [1] Stéphane Courtois, Le Livre noir du communisme. Crime, terreur, répression, Robert Laffont, Paris, 1997. [2] Jacques Sémelin, Purifier et détruire. Usages politiques des massacres et génocides, Seuil, Paris, 2005. وسينشر سيملان قريبًا كتابًا جديدًا تحت عنوان: مقاومة الإبادة الجماعية. حول تعدديّة عمليات الإنقاذ. [3] مع إطلاق هذه الموسوعة التي تتناول مجازر وإبادات القرن العشرين، يسعى مركز الدراسات والأبحاث الدولية في العلوم السياسية CERI إلى الحضور في مجال تهيمن عليه حتّى اليوم الولايات المتحدة، ما يبرّر اختيار الانكليزية كلغة مرجع. هذا مشروعٌ طموح، مجانيّ المعلومات، موجّه للباحثين والخبراء والمنظّمات غير الحكومية، من شأنه المساعدة على الوقاية من المجازر الجماعية. وهو على درجة من الخطورة لأنّ الموضوع يبدو مشحونًا بالتحديات الايديولوجية التي يصعب التحرّر منها. [4] Eric J. Hobsbawn, L’Age des extrêmes, Complexe- Le Monde diplomatique, Paris, 1999. [5] Rosaz Amelia Plumelle-Uribe, La Férocité blanche. Des non-blancs aux non-aryens. Génocides occultés de 1492 à nos jours, Albin Michel, Paris, 2001. [6] Polémiques sur l’histoire coloniale, « Manière de voir, n° 58, juillet-août 2001 ; « « Les génocides dans l’histoire », « Manière de voir, n 76, août-septembre 2004 ; « Pages d’histoire occultées », Manière de voir, n 82, août-septembre 2005.
|
|
|