الجمال نفي الريب
125 على ولادة جبران

 

باسكال تابت

 

"للجمال لغة سماويّة تترفّع عن الأصوات والمقاطع التي تحدثها الشفاه والألسنة"، يقول جبران في الأجنحة المتكسّرة. كتاباته عن الجمال قليلة، مما يجعل القارئ يعتقد ربّما أن ليس في إنتاجه نظريّة جماليّة. والحال أنّه طرح موضوع الجمال في بعض كتبه بشكل موجز، لكنّه في إيجازه يحمل معاني عميقة، على القارئ أن يستشفّها.

في وصفه سلمى كرامه يقول: "إنّ الجمال في وجه سلمى لم يكن منطبقًا على المقاييس التي وضعها البشر للجمال". فهو عنده خارج عن مفهوم الجمال العام، فالشيء الجميل هو المتطابق والمتوافق مع المقاييس "الحسيّة" التي حدّدها الناس. وتاليًا يكون الجمال في هذا المعنى صفة تجليّات حسيّة مثل الشكل واللون والحركة والصوت. عند جبران لا يحدّ الجمال بقواعد ومقاييس متعارف عليها بل هو "سرّ تفهمه أرواحنا" ولا تدركه عقولنا لأنّه لا يقاس بمقولات العقل والكيف والكمّ. أمام الجمال يعجز الإنسان عن الوصف. أمامه، يرتعش المرء ويرتبك، ولا سبيل للتفسير والبرهان، لذا يصبح مبدأ السبب الكافي غير كاف في التحديد. هذا الجمال ليس مفهومًا من المفاهيم الفلسفيّة أو الفنيّة أو الجماليّة القابلة للتحديد؛ فهو لا يحدّ كما أنّه لا يدرك بالعقل النظري. إنّه روحي، متجلٍّ في عمق أعماق النفس وليس في الشكل الخارجي. يقول جبران: "أمّا الوجوه التي لا تتكلّم بصمتها عن غوامض النفس وخفاياها فلا تكون جميلة مهما تكن متناسقة الخطوط متناسبة الأعضاء". يتّضح من هنا تناقض مفهومه مع المفهوم الإغريقي القائم على التناسق في الخطوط والألوان والأعضاء وعلى الكمال في الشكل والصورة. لذا، حين ننظر إلى الوجوه في اللوحة الجبرانيّة لا نرى تفاصيل دقيقة في العينين والأنف والفم بل جمالاً ينبعث من جوانيّة اللوحة، وكأنّ وراء الوجه جمالاً خفيًّا يبعث في نفس المتأمّل خشوعًا أمام وجه غائص في تأمّل أسرار الحياة التي إذا ما كشفت ذاتها للإنسان ألبسته جمالاً ليس كالجمال. والأجساد في لوحات جبران لا تشبه جسم أبولون المتناسق والكامل، ولا تشبه أجسام الآلهة الإغريق. يكمن سرّ جمال الأجساد الجبرانيّة في نور يشرق منها ويكلّلها، يكمن في توقها اللامحدود إلى المطلق، إلى بلوغ ذاتها الكبرى الكاملة، إلى بلوغ الحقيقة الجوهرية الأزليّة.

يرى جبران في الجمال "حقيقة نافية الريب، مانعة الشك، ونورًا باهرًا يقيكم ظلمة البطل"؛ فيذكّرنا بأفلاطون الذي اعتبر أن الجمال كامن في عالم المثل، عالم الحقائق المجردّة والثابتة. ولأنّ هذا العالم هو عالم الحقائق المطلقة، فهو تاليًا عالم الكمال واللاشك واللاريب. إنّه عالم النور الأزليّ الأبدي الذي يتنافى مع ظلمة الكهف والأوهام التي يراها من بداخله. الكهف ليس إلاّ عالمنا هذا، أي عالم المحسوس الذي نعيش فيه. في هذا العالم لا نرى الحقيقة المجردّة وإنما ظلّها. تكتسب الأجساد الجميلة جمالها من الجمال المطلق الذي يشكّل نمطًا من أنماط عالم المثل. والجمال من أسمى الحقائق في هرم الحقائق المجرّدة. يعتبر أفلاطون أنّ المرء ينطلق من الجمال المحسوس إلى الجمال الفائق الطبيعة مرورًا بدرجات عدّة؛ فمن جسد جميل إلى جسدين جميلين ثمّ إلى جميع الأجساد الجميلة، وبعدها إلى الأعمال الجميلة، ومنها إلى المعارف الجميلة، لبلوغ معرفة الجمال المطلق ومعرفة الجمال في ذاته. ومتى عرف الإنسان الجمال في ذاته يبلغ حقيقة لا شك فيها. جبران في هذا الإطار يعارض الجمال مع الشك. عنده، في الجمال حقيقة "واضحة وبيّنة". ليست عقليّة كما حقيقة ديكارت لكنّها نورانيّة تشرق على المتلقي فتوقظه من ديجوره. الجمال عند جبران ظاهرة من الظواهر المشبعة لا تتجلّى إلاّ بالتأمّل والكشف والتلقي فيبقى الإنسان أمامها صامتًا متفاجئًا. هنا يظهر البعد الصوفي للجمال الجبراني. "إنّ الجمال نصيب المتأمّلين"، يقول، فلا يدركه سوى المتأمّل الذي تخلّى عن المحسوس وخرج من "محبس المادّة"، وتأمّل أعماق الحقيقة ليرى الجمال في ذاته، في جوهره، ويُفتن بحقيقة لا تكشف إلا بالوحي، حقيقة هي أشبه بكلمة الله الأزليّة، "تهلّلوا يا أيها الذين أنزلت عليهم آيات الجمال وافرحوا إذ لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون". فآية الجمال كآيات الكتاب منزلة مقدّسة. من هنا، يعتبر جبران أنّ الجمال يُسرُّ بالمسبّحين إذ هو جدير بكلّ تسبيح وتمجيد وإجلال.

يمكن التكلّم عند جبران عن ثلاثيّة الجمال والجسد والروح. ليس عند الجسد شيء من أشياء هذا العالم المحسوسة. فهو ليس ما نشعر ببرودته أو بحرارته أو نعومته أو خشونته إذا لمسناه. إنّه سامٍ، هيكل مقدّس، منزل جليل لإله هو الجمال. ولمّا كان الجسد مصدر لذّة ونشوة عند الأبيقوريين وغيرهم من الفلاسفة، فهو عند جبران كما عند الظاهراتيين مصدر للألم أيضًا. فالألم إمكان من إمكانات الجسد، والحب المكرّم المقدّس على مذابح القلب إمكان أيضًا من إمكاناته. جبران يرى في الألم جمالاً لا يظهر إلاّ في هذه الحالة التي تكسب كلّ شيء بريقًا لا يمكن الإنسان إلاّ أن يتخشّع له. الحب في ذاته جمال. إنّه جمال مجرّد من الدناءات والصغائر. جمال روحيّ يضفي على وجه كلّ من يحبّ بهاءً. من هنا نستشفّ ثلاثيّة الجمال والجسد والروح المتمثّلة في حالة الحب عنده كما في الجسد المشرق. هذا الجسد مختلف تمام الاختلاف بل ومتعارض مع مفهوم الجسد الكامل من حيث مقاييسه وتكاوينه. هو موطن الروح ورحمها كما يقول جبران في المواكب "والجسمُ للرّوحِ رِحمٌ تستكنُّ به، حتى البلوغِ فتستعلي وينغمر". هذا الجسد يهرب باستمرار ولا يمكن حدّه وتحديده وامتلاكه. ليس ما يُرى بل ما لا يُرى. إنّه الداخل الذي يشعر به الإنسان في جوانيّته، ويلمسه في عمق الاختبار وقوّته، ويدركه في جوّانيّة التجربة والنشوة والألم. لذا فالجسد جميل عنده لأنّه لم يعد محدودًا بمحدوديّة الزمان والمكان؛ لم يعد عرضًا من أعراض المادة هنا أو هناك؛ لم يعد شيئًا يذبل ويصبح قبيحًا مع مرور الأيام. الجسد هو الشباب المتجدّد لأنّه الداخل المتجدّد كلّ يوم. والجمال وثيق بهذا الجسد المروحن والنوراني.

للجمال في الإنتاج الجبراني بعد فينومينولوجي يظهر في تعابيره "الظاهر"، "البادي"، وهذا لا يقتصر على ما تراه العين وتلمسه اليد وتسمعه الأذن، بل هو كاشف عن ذاته في المعرفة الداخليّة القلبيّة الحدسيّة. في تحديده للجمال يقول جبران: "هو ما تراه محجوبًا وتعرفه مجهولاً وتسمعه صامتًا"، ويقول في النبي: "هو صورة تبصرونها ولو أغمضتم عيونكم، وأنشودة تسمعونها ولو أغلقتم آذانكم". لذا، فالجمال ليس من هذا العالم بل هو الحياة عينها في طهرها ونقائها وأزليّتها وأبديتها وحقيقتها. من هنا فـ"الجمال قوة مخيفة رهيبة" هي قوّة الحقيقة، حقيقة الحياة، والحقيقة في جوهرها مخيفة تعيد كلّ إنسان إلى ذاته وتسقط الحجاب الذي يستر عيني قلبه.

في النبي يعتبر جبران أن الجمال يتعارض مع الحاجة غير المكمّلة التي يتمسّك بها الناس. كلّ يتغنّى بما ينقصه ويعتبره جميلاً؛ ففي الربيع ننتظر الخريف وفي التعب ننتظر الراحة. يذكّرنا هذا المفهوم العام بتحديد ديفيد هيوم: "ليس الجمال صفة وثيقة بالأشياء ذاتها، فهو لا يوجد إلاّ في ذهن من يتأمّله، وكلّ ذهن يدرك جميلاً مختلفًا". فالجمال يختلف بين البشر بحسب الحاجة أو الذوق. ما يبدو جميلاً للبعض يمكن أن يبدو قبيحًا للبعض الآخر، وما يبدو جميلاً لي اليوم يمكن أن يبدو لي قبيحًا غدًا وبخاصة حين أملكه. جبران أقرب إلى مفهوم كانط للجمال: فهو إشباع من دون غرض أو منفعة. يقول كانط: "الجمال هو ما يعجب كونيًّا وبدون مفهوم". فالجمال ليس المنفعة بل هو لا يُملك ولا يأتي بمصلحة شخصيّة تنفع الواحد دون الآخر. ليس الجمال عند جبران ما يُؤخذ بل "ما تراه وتودّ أن تعطي لا أن تأخذ". هو شكل من أشكال تخطّي الموت. أمامه ينسى الإنسان أنّه كائن سيموت في يوم من الأيّام، وذلك لأنّه يقف أمام "بستان تزيّنه الأزهار إلى الأبد، وجوقة من الملائكة ترفرف بأجنحتها إلى منتهى الدهور". أمام أبديّة الجمال، أمام لانهايته ولامحدوديّته يتغلّب الإنسان على الموت الذي يرى فيه جبران جمالاً إذ تبلغ الروح قمّة الجبل وتسبح في فضاء الحريّة والانعتاق، ويمتزج الجسد بتراب الأرض والطبيعة وتتهلّل النفس بجمال "تسبيحة البقاء والخلود"، والجمال خلود.

*** *** ***

النهار

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود