أطروحات من أجل إصلاح الفلسفة[1]

 

الياس مرقص

 

1- يجب على الفكر العربي والوعي العربي الانتقال من الرمزية والشيئية إلى المفهومية والواقعية.

الرمز ليس المفهوم وليس الحقيقة.

الواقع لا يُستنفد في أشياء أو أجسام أو موجودات. وهو ليس موجوداتٍ- جواهر.

فكرةُ الواقع الصحيحة تُحيلُ على منطقٍ هو منطقُ الواقع.

الوطن ليس علمًا. العلم رمز الوطن، لا أكثر.

الحزب ليس لافتة.

"الصورة 4" أو "الكلمة أربعة" ليست المفهوم أربعة والحقيقة أربعة. إنها رمزٌ فقط، أيْ، شيء محسوس (يُرى، يُسمع، الخ) واصطلاحيّ، وبمعنى مهم، اعتسافي. هذه الصورة كان يمكن أن تكون غير ذلك، وهي بالفعل تتغير تمامًا حسب أنظمة الترقيم أو الكتابة الرياضية. أما الحقيقة الفعلية الواقعية التي وراءها فهي ثابتة.

الكلمات رموز. إنها بدائل عن الفِكَر أو المفاهيم. يجب الذهاب من الكلمات إلى المفاهيم، من اللغة إلى الفكر.

العلاقة أو المقابلة الكبرى هي: الفكر/الواقع. هذا في المعرفة الواعية أنها معرفة. اللغة وكلماتها وسيط بين الاثنين: الفكر/الواقع.

المعرفة الواعية ذاتها تعي أنها، في النهاية والغاية، معرفةُ الواقع، وأنها ليست الإيديولوجيا، وأنَّ الواقع ليس المحسوسُ والمباشرُ.

المعرفة الحقة ترتكز على مسلَّمة او مصادرة أوليّة هي المنطق.

الفكر يجب أن يحترم ذاته كفكر.

2- يجب الانتقال من الوجودية إلى الفكرية، من عنصر الوجود إلى عنصر الفكر. يجب على الفكر والوعي تبني مبدأ الـ"أنا أفكِّر".

هذا المبدأ ليس مبدأ ديكارت وحده، بل هو مبدأ فيثاغورث والخوارزمي، هيغل وابن خلدون، نيوتن وآينشتاين، الخ، الخ.

إنه، في المستوى الروحي والفكري "لحظةُ moment الذاتية المطلقة"، "الأميّة"، الصحيفة البيضاء، العقلانية والتجربيّة بضمنها، الصفرُ حاملُ اللانهاية.

بدلاً من البَدْء بالقبض على حدٍّ أو حدود، ثم الركوع لِحدٍّ أو حدود، أبدأُ بالتجرد المطلق، وأتقدم بالحدود- المفاهيم في بناء الجملة، في إنشاء اللوحة المترابطة الحية، التي هي الغاية ونقطة الوصول في المعرفة لاسيما المعرفة التي تريد إرشاد العمل.

بالمقابل، إنّ وثنيةَ الروح تُقِيمُ شيئيّةَ المعرفة.

يقول لينين وراء هيغل ووراء سقراط ووراء أفلاطون: "الكليّ، إنه الفكر."

في ساحة الفكر العربي، يجب فَتْحُ وخوضُ هذه المعركة: معركةِ الفكرة والمفهوم والفكر ضد أشباح الحس والوجود والجوهر، الآتيةِ إلينا من ماضٍ سحيق ومن حاضرٍ عالميٍّ إمبريالي بالغ التقدم.

إن تيارات غربية متنوعة تُعزِّز عندنا منحىً قديمًا يُراد له أن يكون مَنْحانا القومي وخصوصيتَنا "الروحية."

3- يجب الانتقال من الجوهر والماهية ومن المادة والكم إلى الشكل والعقل والروح.

يجب إقامة الحد على ألفاظ محبَّبة في قاموسنا المتداول، ضخَّمتها مدارس مختلفة ومتخاصمة، لكنَّها التقتْ على تكوين ذهنية جوهرية واحدة.

يجب الانتقال من "الصورة" إلى الشكل والمفهوم.

بدون ذلك لا تاريخيَّة ولا تقدميَّة. التاريخُ تَشكُّلٌ، تَحوُّلٌ، "تغيُّرُ أشكالٍ، "بل" وتنويعة على الأشكال" (ماركس). إذا كان الماركسيون عندنا (وعند غيرنا) يركبون على"التشكيل" و"التشكيلة formation" (التشكلية الاقتصادية والاجتماعية) ويجهلون مقولة الشكل forme، ويجهلون مسأليَّة الصورة- الشكل- المفهوم- المثال؟ فهذه مفارقة مهمة من مفارقات الوعي العربي المعاصر.

"المادة " مقولة أساءت للفكر الماركسي وللفكر العربي عمومًا.

في الفكر الماركسي، ضُحِّي على مذبح "المادة" بمقولات مختلفة لا يمكن أن تنوب عنها المادة، قصدتُ مقولاتِ الواقع، والطبيعة، والطبيعة/التاريخ.

يجب ردُّ الاعتبار إلى وحدة عنصر المادة- الكتلة- الكم- الذرات الخ ويجب أن يقام إزاء هذا العنصر عنصرٌ مقابلٌ هو: العلاقة- العقل- الروح، بحيث يكون العنصر الأول تابعًا ومرؤوسًا.

أمّا "مفهوم المادة الفلسفيُّ" فلا يمكن أن يَعْني سوى أنَّ الواقع قائم بتمامه خارجَ رأسي، ولا يجوز أن يُضَمَّن أي شيء آخر؛ لا يجوز أن يغطِّي أية مُسَلَّمة أو مُصادرة ضمنية، لاسيما مسلَّمةً تلغي أو تخفض المنطق في حربٍ على "المثالية" باسم "ماديَّةٍ" ملتبسة وباطلة.

4- يجب على الفكر العربي الانتقالُ من التجربيَّة- الدوغمائية إلى الجدل.

الطريق الأول (التجربيّة-الدوغمائية) يبدأ أو يعتقد أنه يبدأ من الواقع وينتهي إلى تبخيره "تبديده" في مُجَرَّدةٍ أثيرية يسميها "القانون" أو"الجوهر."

الطريقُ الثاني، "المعاكس"، يبدأ من الصفر، يبني اللوحة، ينتهي إلى الكل أو الجملة tout, totalite، إلى الواقعِ كعالَمٍ، أيْ لا كجوهرٍ أو كقانون.

بهذا المعنى، إن بلدًا من البلدان أو بيتًا من البيوت، الخ، هو عالم.

والوطن العربي والأمة العربية عالَم.

هناك من يرفض هذا القول، ويقاتل ضده.

من جهتي، إن بيتي الصغير هو عالَم وكونٌ (ليس"جوهرًا أو" قانونًا"). هذا ما أدعوه أيضًا: الديمقراطية. الديمقراطيةُ موقفٌ فلسفي هو الجدل.

5- ثمة تعارضٌ يجب وَعْيُهُ بين الوَضْعويّة والعِلْمَويَّة من جهة والجدل من جهة أخرى.

الوضعوية positivisme هي المذهب الوضعي أو الإيجابي. أما الجدلُ فهو - بحكم التعريف- جدلُ النفي negation.

الوضعوية هي مذهبُ تقدُّمٍ على خطٍ مستقيم، مثلاً من الحالة اللاهوتية إلى الحالة الميتافيزيقية إلى الحالة الوضعية (أوغست كونت). أمّا الجدل فهو يؤكِّد مع الخط المستقيم فكرةَ الدائرة، يؤكد "وحدتهما."

الوضعوية تكره المجرَّدات،" أي بالحقيقة المقولاتِ الكبرى. بالمقابل، إنَّ عِلْمَ آدم سميث أو كارل ماركس يتأسس على الشُّغْل المُجرَّد. أيْ المجرَّدِ عن موضوعاته المادية. ومنطقُ هيغل يبدأ بالكائن- العدم، الخ.

الوضعوية تكرهُ الفلسفة. الجدلُ يّعِي أنه فلسفةٌ، منطقٌ، نظريةُ معرفة. الفكر العربي يجمع وضعويةَ أوغست كونت مع وضعويةٍ تقليدية.

إنه يتصوَّر أنه مع العلم والعلمية. بالحقيقة إنه مع "العلموية" مجردةً أو مُضافًا إليها المجاز و"الخيال،" و"الشعر،" الخ.

الميكانيكيةُ أحدُ أهمِّ أشكال الوضعوية والعلموية والتجربية- الدوغمائية.

هذا المجموع الذهني مُسخَّرٌ بشكلٍ طبيعي في خدمة الذاتوية subjectivisme، إذنْ الإرادوية، المثالية.

هذه الذاتوية تتعامل مع الواقع بوصفه مادةً للتحريك أو المُلاعَبَة manipulation.

العملُ الثوري يصبح كأنه مماثل لعمل الإسكافيّ في حانوته أو لعمل عالم الكيمياء في مخبره. ينسون أنّ الموضوعَ ذاتٌ.

6- بصدد "العقل"، يتصوَّرُ الذِّهنُ العربي الحاضر أن العقل شيء في رأسه، إنه بعيد عن معقولية الواقع أو لا يتخذها كمبدأ.

وهو يخفض العقل إلى "العقل السليم" لا أكثر.

إنه يجهل فكرة التناقض.

يجهل- مثلاً- أنَّ "في اللغة لا يُوجدُ سوى الكُلِّيّ"، وأن قولنا "هذه طاولة" (الإدراك الحسي) هو انفتاحٌ نحو الكلي ("طاولة"= عامّ) ويجهل - مثلاً- الصفرَ، اللانهاية، 2Ö( العدد الأصمّ)، الخ... رياضيَّته بسيطة، ابتدائية.

وهو، إذْ يتبنَّى "العقلَ السليمَ" بلا سؤال، يريدُ في أحسن حال أن يطوِّرَ هذا "العقل السليم" "علميًا": استحالة، عبث.

يجب على الفكر العربي الانتقال من "العقل السليم" و"العقل السليم المُطوَّر علميًا" إلى العقل فحسب. يجب عليه أن يسعى إلى فكرة العقل الأعلى الفلسفية والهيغلية، اللوغوس والـ vernunft.

7- يجب الانتقال من ثَوَران الأزليّ والعَابِر إلى التاريخ والتاريخيَّة.

الأزليُّ والعابرُ وجهان لعنصر واحد يعيش فيه الذهن العربي. لا يمكن أن توجد هوية حقيقية بالعنصر المذكور.

كثيرًا ما يبدو ثابتُ الذهن العربي هو الشعور وهو المادة. ويكون عالَمُ الفكر والعلم والعقل هو العابرُ، الشبحيُّ، الذي ليس له قرار. (هذا الموقف يصرح به، على سبيل المثال، شوقي ضيف في كتابه دراسات في الشعر العربي المعاصر، مصر 1969، ص 78-79 وص 85).

والحقيقة، إذا وُجدتْ، فهي لا تصير حقيقة تاريخية.

"الثابت" و"المتحول" قطبان أخيران متحاربان متطاردان. الثابتُ سرمديةٌ محافظة والمتحولُ ثورةٌ فردوسية مستحيلة.

في القاموس العربي المتداول، "النسبيُّ" مَهْرب. إنه هروب من المفهوم، من الحقيقة، ومن التاريخ.

8- يجب الانتقال من ثَوران السرمديَّة وسرمدية الثَوَران إلى فكرة التقدم.

في الواقع الذهنيِّ، الروحيِّ والفكريِّ، فكرةُ الثورة قَتَلتْ فكرةَ التقدم، تريد أن تعيش بدونها بدلاً من أن تقوم على أساسها، تريد أن تنوب عنها.

في الحاصل، إنّ ما يراد هو تحويل الأرض إلى سماء والدنيا إلى جنة.. وهذه الإرادة تُسمَّى"ثورة." هذه القفزة الشاقولية إلى السماء تحمل معها السقوط، حتمًا.

هذا الموقف الذهني انتكاسٌ كبير عما كُنَّا عليه قبل ربع قرن، حيث جاءت الثورة امتدادًا لنهضةٍ وتأسيسًا لنهضةٍ أعمقَ وأشمل.

9- يجب الانتقال من الليبرالية النخبوية ومن تنظير التلاعب بالبشر إلى الديمقراطية.

ليست الليبرالية هي الشيطان.. (الشيطان لا يتجسد مباشرة في شيء، في قطعة، أو لنقل إنه قابلٌ للتجسد- جزئيًا ونسبيًا- في شتى الأشياء وكل الأشياء). الليبراليةُ لها ما لها وعليها ما عليها. لنقلْ إنها مرحلةٌ تاريخية ومنطقية.

باختصار، ومع التبسيط، الليبرالية ترتبط بالطبقة الوسطى الميسورة. الديمقراطيةُ ترتبط بالطبقة العَوَامية، الشعبية، العمال والفلاحين وصغار الكَسَبة، الخ...

هذا مَلَفٌّ يضم مونتسكيو وروسو وتوكفيل، "إنجلز ولينين" و"بليخانوف والمنشفيك، و... عبد الناصر" و"المثقف العربي وأحزابه".

المثقف العربي النموذجي لم يفهم هذه القضية في يوم من الأيام، لم يَفْكر تاريخنا الأخير. كأنه يريد ديمقراطيةً لنفسه، ديمقراطيةً بدون قاعدةٍ جماهيرية، نهضةً ليس أساسُها مجموعُ الأمة، نهضةً أساسُها شطرًا من الأمة هو "المجتمعُ الحديث" داخل كل قطر (فعصر الإمبريالية والنهضة والحركة الوطنية و"الليبرالية" انتهى إلى شَطْرِ كلِّ مجتمع عربي إلى مجتمعين: حديث وتقليدي). والليبرالي العربي يمكن أن يتحول إلى ما يشبه الفاشستي على قاعدةِ نخبويَّته ذاتها.

والوعي العربي منشطرٌ بين باطلين: إمّا الحزب-الصنم أو اللاأحزاب...

10- يجب الانتقال من "الديمقراطية"(مع مزدوجين!) إلى "دولة حَقٍ" وديمقراطية.

"دولةُ حق" Etat de Rechtstaat droit، دولةُ حقٍ وقانون الخ، هذا هو الأساسُ المنطقي للديمقراطية.

لا دولة ديمقراطية إذا لم تكن أوَّلاً "دولةَ حق."

لا ديمقراطية بلا دولة.

لا ديمقراطية مع اللاَّدولة.

واللادولة هي الدَّوَل (بالجمع)، الفوضى والعسفُ والاستبداد، وهي المخلوطة دُوَلٌ - طبقاتٌ- طوائفُ- قبائلُ وهلمجرًا.

دولة حقّ: هذا يعني أولاً سُموَّ القانون. بدءًا من الدستور (دستور الدولة) وصولاً إلى نظام السير في الشوارع مرورًا بالقوانين.

إذا كانت فكرة "الله تعالى" لا تؤسِّس فكرةَ سموِّ القانون، فهذه مفارقة كبيرة تستحق الاهتمام.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] نُشر المقال أول مرة في مجلة الوحدة، العدد (6)،1985. وأعيدت طباعته بعد وفاته في الكتاب التالي: الياس مرقص، العقلانية و التقدم، منشورات المجلس القومي للثقافة العربية، الرباط، 1992. (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود