|
اللاعنف والواقع[1]
يُعدُّ التحقيق العملي لحلّ مشكلة العنف، في عالمٍ بلغ مستوياته القصوى من الصراع والعدوانية، مسألة صعبة غاية الصعوبة. هذا لأنّ اللاعنف أصبح بعيد الاحتمال والتطبيق، إذ بلغ العنف أقصاه. وتشير الدلائل الواقعية إلى أنّ العنف قد بلغ الحدّ الأقصى نتيجة للأحداث المأساوية، الممثّلة بمركزية الأنا الفردية ومركزية الأنا التجمعية، التي تحرّضه على انفعال شديد. وهكذا، تنبثق العدوانية إلى الوجود. وفي عالم العنف تتراجع أخلاقية اللاعنف والمحبة ومثالية معرفة الحقيقة. ومع ذلك، يكون اللاعنف أكثر فعّاليةً في وضع اجتماعي أو فردي لا يكون فيه الشرّ، وهو الخير المسلوب، قد طغى تمامًا. لذا، كان تطبيق اللاعنف في الحالات الفردية أسهل من تطبيقه في الأوضاع الاجتماعية والدولية. يتطلّب تطبيق اللاعنف وتحقيقه عاملين: أولاً- يتطلّب هذا التحقيق أو التطبيق وجود أناس يحملون بذوره، ويتزودون بمبادئه التي تتجاوز الآراء والنظريات السلبية، وظاهرة الاتحادات الإقليمية، والإحساس الزائف بالقوة المادية الغاشمة، والاعتماد على التقدم التكنولوجي العدواني، والإيديولوجيا المتطرفة، والشعور القومي المتطرف، وأنواع التسلّط والتربية الانفعالية المتصلبة، الخ. وبالإضافة إلى ذلك، يحملون هذه البذور إلى العالم من أجل زراعتها في المجتمعات العديدة، ويُعملّون هذه المبادئ بمحبة وتحمّل لجميع الناس. ولمّا كنت أؤمن بتعاون أهل الوعي والحكمة والخير مع بعضهم، وهم أناس لاعنفيون يزرعون حقل الإنسانية ببذور المحبة والوعي والسلام، فإنني أؤمن أيضًا بأنّ اتحادهم أو تعاونهم يشير إلى تجاوز السلب الذي يستفحل أرمه يومًا بعد يوم. وفي هذا المنظور، تشتدّ حاجة العالم إلى أصحاب الرؤى والبصيرة الحكيمة والسلمية، وإلى ذوي المعرفة والوعي. وتزداد الحاجة إلى وجود العاملين في حقل السلام والعدالة. ثانيًا - يتطلّب اللاعنف تربية إنسانية جديدة قابلة للتطبيق، تقوم على مبادئ التحمّل والعطاء والتضحية، وتقلّص التعصب المذهبي والطائفي والعرقي والطبقي إلى أدناه، وتلطّف أو تقلّل من خطورة الفوارق القائمة بين الأفراد والشعوب. والحقّ إنّ تربية من هذا النوع تؤمن بأخوة إنسانية، وتدعو إلى تضامن الإنسان مع الإنسان، وإلى احترام آراء الآخرين وتقدير الشخصية الإنسانية. يتضمّن اللاعنف في قانون الروح وغائية التطور الإنساني. ويتضمن اللاعنف في مركزية الأنا التي تعي ذاتها. ولقد أخطأ بعض علماء التطور الذاتي الذين أبانوا أن التطور صراع يهدف إلى بقاء الأقوى لكونه "الأفضل؟!". والحق هو أن التطور في الإنسان وفي الطبيعة يتأسس على قاعدة تكامل الأقطاب المتقابلة والتعارضات الظاهرية. وليس التكامل سوى وجه آخر للمحبة واللاعنف والخير والوعي. هذا لأن عالم الإنسانية غاية بذاته. وإذا كان غاية بذاته، فإن تطوره يبدأ من ذاته لينتهي إلى ذاته، لتحقيق ذاته. وهذا يعني أن التطور، بعد وجود الإنسان، يتجه إلى عقلانية أعلى، ووعي أعظم وروحانية أسمى. لذا كان التطور تكاملاً وليس صراعًا أو عنفًا؛ وبالمثل كان تجاوزًا أو تعاليًا وارتقاءً مستمرًا في حقول المعرفة والوعي والروح. يتحقق اللاعنف في التضحية، التي هي المحبة المطبّقة على صعيد الواقع؛ هو المحبة التي تبلغ ذروتها. لذا، كان اللاعنف خدمةً وتواضعًا وبساطةً. هو قانون أو مبدأ الإنسان الذي يرى صورته منعكسة في الآخر، فيحبّه كما يحبّ نفسه. وهكذا، يكون اللاعنف قانون أو مبدأ البقاء والتكامل في الحياة. وفي هذا المنظور، نسأل: كيف يحب الإنسان نفسه في الآخر؟ وكيف يتكبّر على نفسه في الآخر؟ وكيف ينبذ نفسه في الآخر؟ وكيف يعذّب نفسه في الآخر؟ وكيف يستغلّ نفسه في الآخر؟ وكيف يستعبد نفسه في الآخر؟ وكيف يقتل نفسه في الآخر؟ وكيف يُذلُّ نفسه في الآخر؟ وكيف يُنكر نفسه في الآخر؟ إذن، لماذا يلغي الصلة التي توحّده مع الآخر؟ كيف يحب الإنسان نفسه في الآخر؟ بات الإنسان، في هذه المرحلة الصعبة من تاريخه، يشعر وكأنّ العنف قد بلغ ذروته. لذا، يحمل الإنسان، الذي يعتمد العنف خلاصًا له، بذور شقائه وفنائه. وبالتالي، يشير وضعه الراهن إلى أمرين: أولاً - الاستمرار في نطاق العنف. ثانيًا - اللجوء إلى الوعي واللاعنف اللذين هما مؤشران لحقيقة واحدة. في هذا النطاق، أي الاستمرار في انفعال العنف، يتّجه الإنسان إلى هاوية التعاسة والبؤس والجحيم. وفي النطاق الثاني، أي طريق الوعي والحكمة واللاعنف، يتّجه الإنسان إلى السعادة والنعيم والرفاه. ولمّا كانت مسيرة الطبيعة تشير إلى تقلّص العنف، فإن مسيرة الإنسان يجب أن تشير إلى تقلّص العنف. لذا، كان لا بدّ لهذه المرحلة أن تهدأ وتعتدل بعدما عانت البشرية من الحروب وأنواع البؤس والفاقة. أقول ما أقول وأنا أعلم أنّ اللاعنف، لكونه يمثّل جدلية الحياة المتكاملة من منطق صاعد، سيكون الغاية النهائية لعقل الإنسان وسلوكه. والحقّ أنّ اللاعنف أصبح الرائد الأول للعلوم الاجتماعية والإنسانية التي تشير مبادئها إلى إفلاس النظريات السلبية، الفردية منها والتجمعية، التي لم تؤسس عقيدتها على قاعدة إنسانية. وهكذا، ندرك أنّ اللاعنف هو الحقيقة التي أضاعها الإنسان ونفاها من وجوده. لذا، تقضي الضرورة بعودته إليها في وضعه الاجتماعي المتمثّل بالسّلم، والتآلف، والاعتراف بالتنوعات العديدة في الحقيقة الواحدة. لا تكتمل فاعلية اللاعنف إلا بفعل إنساني. هذا، لأنّ الإنسان هو المشرّع الذي يبدعه ويوجّهه. لقد ابتدع الإنسان العنف، ويجب عليه، نتيجة لذلك، أن يحقق اللاعنف ليعود إلى وضعه الإنساني، الفطري والطبيعي. وبالفعل، يرى الإنسان المعاصر نفسه مضطرًا للبحث عن الخلاص وفق المبادئ التالية: 1- الانفتاح العقلي الذي يشير إلى اتخاذ موقف إيجابية من المبادئ الأخرى. هذا، لأنّ واجب الإنسان يكمن في فهم المبادئ الأخرى، والاعتراف بالآخر والقبول به. 2- الحوار الإيجابي الذي يشير إلى سعي حثيث ودائم يهدف إلى بلوغ نقطة لقاء مع الآخرين عبر إرادة ووعي يتجرّدان من الانفعال والتعصّب. 3- الموقف الإيجابي الذي يشير إلى احترام الإنسان الآخر مهما اختلف موقفه أو نظرته إلى الحياة، أو مذهبه وعقيدته، أو عرقه أو لونه. 4- الموقف المتسامح الذي يعتبر الأساس أو القاعدة التي يتوطّد عليها صرح الاعتراف الكامل بالآخر والقبول الكامل به. والحقّ إنّ الموقف المتسامح يتحقق على مستويين: أ- مستوى عقلي تتحقق فيه حكمة المنطق وصدق المحاكمة السليمة، ب- مستوى أخلاقي يخلو من الإدانة والإدانة المضادة، والمتوافق مع سموّ كيان الإنسان المتعاطف مع الآخر. 5- الواجب بوصفه المبدأ الكوني الأول لعلاقة الإنسان مع الإنسان. وحول هذا الواجب يقول الحكيم غاندي: "العمل هو الواجب، والحق هو ثمرته". ومن جانبي، أقول: "الحقّ هو أنّ أقوم بواجبي"، وبالتالي، أقول: "حقي الوحيد هو أن أقوم بواجبي". لذا، كما رأى غاندي أن يُصار إلى إحلال "وثيقة واجبات الإنسان" محلّ "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان". 6- محبة الحقيقة: تحدّث الحكيم غاندي عن الصّلة التأليفية بين اللاعنف والحقيقة. فإذا ما وعى الإنسان عظمة وجوده، أي حقيقة وجوده، أدرك أنّ تحقيقها لا يتمّ أو يكتمل إلا باللاعنف. ومن جانبي، أقول: إنّ إدراكي لحقيقة وجودي يحثّني على تبنّي مبدأ اللاعنف. لذا، كان اللاعنف موقفًا تتحقق فيه قوة الإنسان على غلبة الباطل، وكان العنف موقفًا يخضع لسلطة الجهل والضعف الذي يتجسّد، في نهايته، العنف. *** *** *** [1] هذه المقالة هي تقديم كتاب كتابات وأقوال للمهاتما م. ك. غاندي، ترجمة أكرم أنطاكي، معابر للنشر، 2009.
|
|
|