محمد الحمامصي.. شعر بجمال مر..
الموت وخيبات الإنسان المزدرى

 

جورج جحا

 

مجموعة الكاتب والشاعر المصري محمد الحمامصي، في قصائدها المختلفة، أقرب إلى أن تكون نشيدًا واحدًا من الشعر "المر"، تسري فيه - مهما بدت موضوعاته متعددة ومختلفة- نقمة على وصول الوضع البشري، عامة و"خاصة" كذلك، إلى ما هو عليه، وعلى تحول الإنسان إلى كائن مزدرى في مختلف ألوان حياته.

ومحمد الحمامصي، في مجموعته موت مؤجل في حديقة، بما في هذا العنوان من رمزية أو حتى نقيضها إذا شئنا فهمها كذلك - أي من واقع عميق الانحدار-، يستطيع، بقدرة، أن يستعمل "مواد مختلفة" بلغة التشكيليين. مادية رمادية يحوكها مع المشاعر والأحلام والأفكار ليرسم عالمًا محكومًا عليه، يتحرك في انحدار مستمر.

وتبدو بعض قصائد الحمامصي شبيهة بوصف "اللعنات" المختلفة والملعونين، ونشعر بها أحيانًا كأنها شتيمة مرعدة، مع أن صوت الشاعر هادئ خفيض في حالات كثيرة، لكن المصير الإنساني الذي يصفه، في وجوهه المختلفة، يبدو لنا كأنه هو الذي يرعد ويصرخ مدويًا.

جاءت المجموعة في نحو 150 صفحة متوسطة القطع ضمن سلسلة أصوات أدبية، التي تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في القاهرة.

لم يختر محمد الحمامصي عناوين تفصيلية لقصائده التي تباينت في القصر والطول، وأوردها تحت ستة أبواب أو عناوين رئيسية اندرجت تحتها القصائد، وكل منها يحمل رقمًا فحسب. ترى هل يقصد الشاعر أمرًا ما من تغييب العناوين التفصيلية وحلول الأرقام محلها لنقرأ ذلك كما يوحي لنا وعلى "مزاجنا"، أم أن خيال القارىء "يشطح" به أحيانًا فيحمل النص وصاحبه أكثر من المقصود.

على القارىء أن يبدأ القراءة بتنبه وحذر، فقد يخدعنا الحمامصي. أول ما نقرأه بعد عنوان المجموعة كلمات نتوهم للوهلة الأولى أنها عنوان فرعي إلا أنها، بالفعل، قصيدة قصيرة مرّة وبرمزية وشدة ايحاء.

يقول الحمامصي

هنا.. أو هناك.. ثقب عار لقبر يصطاد العصافير

القصيدة التي تأتي بعدها تتألف من سطر واحد يصور، في اختصار، عالمًا سرياليًا من أجواء الأحلام الغريبة. يقول:

وجها الباب يفتحان على مقعد فارغ

ونمضي معه لنقرأ، بلغة الواقع، حكمًا بعيد الأغوار والحدود على العالم، حافلاً بالازدراء للوضع البشري الذي لم يتحول إلى رماد فحسب بل تجاوزه إلى ما هو اسوأ، إلى حال عبّر عن مثلها الراحل "تموز"، أي الشاعر والكاتب فؤاد سليمان، في حديثه عن الحكام والناس إذ قال:

كأنما نحن قاذورة في بيوتهم

يقول الحمامصي ما هو بعيد المرمى وواضح:

كيس القمامة الذي يفتح فمه لفضلات المارة
دون تفرقة تذكر
حتمًا جدير ببعض الاحترام.

في قصيدة أخرى يرسم صورة قاسية المرارة حافلة بالوحشة وانعدام القيمة في أي مجال وضعنا معناها. وبالنقمة، على رغم ادعاء "المسكنة" والإيهام بأن "النهاية" هي الراحة والخلاص، يقول:

لست أكثر من صورة
سقطت من جيب أحدهم
دون أن تخلف لديه أي شعور بالحزن
عندما ذاقت طعم التراب
والماء
ودهستها الأرجل
أشرق الفراغ

وتراه، أحيانًا، يسلط رؤية تصويرية و"إحيائية" ترى في العالم حياة وحدة، لكنها عنده، هنا في نظره، حياة بؤس وشقاء تسير بهذا العالم نحو فناء أو "جفاف". يقول:

ضحك المياه الضحلة
في الشوارع التي لا تعرف اسمًا
ولا تستقبل الجميع
مجرد وجوه لم يكتمل رسمها
عبرت بخطو مثقل بالغبار
ونزيف ينتظر أن يجف

وفي قصيدة تليها قال:

ينزلق فيها الليل
فوهة بندقية
يفرغ ما يحمله من قطع الظلمة
في جوفه...
يقرأ عتبات الفقد
يصعد درج الخيانات
ويشهد لتعريها
يمر بقرابين وأصنام وهيكل ودماء
يصرخ
لأنفاس تتخلق في رؤوسها الحرائق
لأقدام تكسّر الوجوه
لايد ترسم تخاريف الأرواح الذابلة
يصرخ
كل هؤلاء قتلة
كل هؤلاء وقود نار
يصرخ
حتى يبلل الموت جفنيه

وتترافد الصور وتتكامل، صور هذا الجحيم الذي يأكل إنسانه في مجالاته المختلفة، فلا ينقذ هذا الإنسان سعيه واحتجاجه و"جرجرة" روحه في الأرض في "رواقية" صابرة حينًا وفي جنون يائس حينًا آخر. يقول:

لا تخف وتشمئز
حين تراها عارية تنفض الهواء
تتكئ
على أحد أعمدة الإضاءة
تتوسط رصيفًا أو إشارة مرور
تخطب في جمهور موقف الحافلات
أو تعترض المارة
المرأة التي تكنس الوجوه بلحم قدميها
وتحمل فوق ظهرها كيس قمامتها
وعلى وجهها تاريخها
ليست إلا
مجرد خطأ

"الانسحاب" الذي يصيب الإنسان المفكر عامة، أو هذه الغربة الداخلية التي ربما كانت تنتج عن تكوين هذا الإنسان الفكري والنفسي من جهة وفعل عالمه الظالم الذي يسحقه ويفرض عليه منفى داخليًا من جهة أخرى، ما يجعل، ربما، أنشطة هذا الإنسان كأنها تمضية وقت، كأنه إنسان محكوم عليه بترقب نهاية الانتظار وصوت ضربة الساعة الأخيرة. ولعل من أجمل صور هذا الانسحاب، مع كل كآبتها ورماديتها، قول الشاعر:

السور
النيل
قصار الأشجار
فوانيس الإضاءة
فنجان القهوة
السيجارة
الكرسي الفارغ
نظرات النادل
صخب القدمين في أسفل الطاولة
ارتعاش اليدين
الرأس الممتلئة بالفرجة
غياب الكلام
جفاف الجسد
غبار على كرسي
موت مؤجل في الحديقة

صور موحية مؤثرة تحمل بعض وجوه هذا العالم الذي يتداخل فيه الظلم والظلام نقرأها مع الشاعر إذ يقول:

الجنود الذين ينامون منتصبين على جانبي الطريق
وفي ساحات النصب التذكارية
وعلى أسطح وأبواب الأقبية والقلاع
الجنود الذين يلتحفون الأحذية والخوذات والشوم والهراوات
في الشتاء والصيف
في الليل والنهار
الجنود الذين تتورم أجسادهم فرحًا بابتلاع الأنفاس
في موكب الرؤساء..
الجنود الذين يحرسون بلا رحمة
كوابيس المحتاجين والعابرين والغاضبين..
الجنود الذين يتصاعد الغناء من عرباتهم المصفحة
في رحلة الذهاب والعودة..
ميراث ميت
لميت قادم

بيروت (رويترز)

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود