المُـثقَّـفُ الحَـقيـقـيُّ قُـوَّةُ عَقْـل 
يجـب أن نتـمثَّـل المـاضـي تمثُّـلاً معـرفيًّـا 
ليـس هنـاك "صـراع حضـارات" 
 

لقاء مع محمود أمين العالم 
 

هو صاحب حضور كبير في ثقافتنا العربية. في بداياته، عُرِفَ من خلال معاركه النقدية والفكرية. ولعلَّ أهمَّ معركة نقدية خاضها كانت في العام 1954 مع د. طه حسين وعباس محمود العقاد.

وفي العام 1959، سُجِنَ في "سجن القلعة"، وفيه كتب ديوانَه الشعري قراءة لجدران الزنزانة. وإلى جانب الشعر، كتب في الفلسفة وعُرِفَ بـمنهج النقد الجدلي. وهو أيضًا صاحب أفكار سياسية يناضل في سبيل وضعها موضع التنفيذ.

إنه المفكِّر العربي المعروف محمود أمين العالم.

أ.ع.

* * *

 

نَظَمْتَ الشعرَ وكتبتَ في الفلسفة والسياسة. فماذا تعني لك الكتابةُ بعد هذه السنوات كلِّها؟

محمود أمين العالم: الكتابة هي التعبير عن الذات والتأكيد عليها، في هذا الوجود المعقَّد، وفي ظلِّ السلطات التي تُمارَس علينا كافة، سواء العائلية منها أو الدينية أو الاجتماعية أو السياسية. ويبقى الشعر والفلسفة والسياسة مقولاتٍ أساسيةً في حياتي، حيث يطغى الشعرُ على كتاباتي في لحظات وحدتي وضيقي، فيما تتغلَّب الفلسفةُ حينما تُثار قضيةٌ من القضايا، لتظهر السياسةُ في ظلِّ الظروف التي نمر بها أحيانًا. وأحيانًا تتداخل الأمور، فأكتب حول قضية فلسفية، لأكتشف أن الشعر يتغلغل في جوانبها؛ أو أشعر أحيانًا، عندما أكتب في السياسة، أن لها إيقاعًا شعريًّا عندما تقوم على خلق إيقاع جديد في علاقاتنا الإنسانية. وأحيانًا أخرى تنفصل هذه المقولات بعضها عن بعض، ربما لتعود مرة أخرى للتكاتف وللتشابك.

سُجِنْتَ في العام 1959، وامتدَّ سجنُك حتى العام 1964. في تلك المرحلة الصعبة، ماذا كتبت، الشعر أم في الفلسفة أم في السياسة؟

م.أ.ع.: كتبتُ الشعر، فكان ديواني قراءة لجدران الزنزانة؛ وهو الديوان الثاني لي بعد أغنية إنسان. وكان ديوان قراءة لجدران الزنزانة يحمل مشاعري ويعبِّر عن أحاسيسي وعواطفي، فيه تحدثتُ عن ابنتي، عن الحبِّ الذي يضيء الأمكنة والعالم...

بدأتَ شاعرًا... لذلك أرغب في معرفة رأيك في الشعر العربي الحديث الذي يُتَّهم بسطحيته وفقره...

م.أ.ع.: دافعتُ عن الشعر الحديث، وسأدافع عن كلِّ ما يمكن له أن يدعو إلى التجديد. الشعر يجب أن تتعدد أشكالُه واتجاهاتُه وموسيقاه، ويجب أن يتغير مع تغيُّر الحياة وتلوُّنها. لذلك تحرَّر الشعرُ من إيقاع إلى آخر مختلف لأن الحياة بدت مختلفة. وهذا ما حصل على صعيد الفنِّ التشكيلي والموسيقى: لم يعد موجودًا بيتهوڤن ولا پيكاسو، بل ظهرت شخصياتٌ موسيقيةٌ وفنيةٌ أخرى كسرتْ رتابة ما قدَّمه هؤلاء، فظهر إيقاعٌ مختلف، وظهرت الموسيقى الإثناعشرية الصوت واللامقامية. وعلى صعيد الشعر، أرى أن التفعيلة القديمة كانت ركيزة تسهِّل ذلك النوع من الشعر، في حين أن الشعر الحديث يعتمد إيقاعاتٍ كثيرةً وقواعد متعددة. وليس صحيحًا أيضًا أن مضمون الشعر الحديث سطحي ولا يستوعب القضايا الكبرى، لأن ذلك يعتمد أساسًا على الشاعر ذاته؛ ويكفي أن نذكر هنا محمود درويش وما يقدِّمه من شعر ذي مضامين هامة جدًّا.

وقصيدة النثر، ماذا عنها؟ كيف تراها؟

م.أ.ع.: قصيدة النثر مازالت في بداياتها، وهي في مراحلها الصعبة. لذلك نرى أن التجارب المبدعة قليلة. وهي قصيدة ليست موزونة ولا مقفَّاة، لكن فيها موسيقى خفية ذات إيقاع واسع. ولنعترف كذلك أنه لا يوجد نقَّاد يتابعون هذا الشعر متابعةً حقيقية؛ والجمهور، بناءً على ذلك، غير مُقبِل عليها هو الآخر. إذًا التجارب في هذا المجال في حاجة إلى النضج؛ وهي مرتبطة أيضًا بالأوضاع الاجتماعية المتردِّية التي تنعكس آثارُها على كلِّ شيء.

عُرِفْتَ في عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات بمعاركك النقدية مع بعض الشخصيات الأدبية المعروفة. ما أهم هذه المعارك؟

م.أ.ع.: أهم معركة نقدية كانت معركة العام 1954 مع د. طه حسين وعباس محمود العقاد، وقد شارك فيها د. عبد العظيم أنيس (يمكن للقارئ أن يجد وقائعها في كتاب في الثقافة المصرية). وقد سبقتْها معركةٌ فلسفيةٌ مع زكي نجيب محمود حول الوضعية المنطقية؛ كما لحقتْها معركةٌ مع د. عبد الرحمن بدوي حول الوجودية.

أما فيما يتعلق بمعارك الستينيات، فقد كانت مع د. محمد كامل حسين حول كتابه التفسير البيولوجي للتاريخ، ومع محمد عفيفي حول التفسير السيكولوجي للتاريخ، ومع مصطفى محمود حول "شطحاته الصوفية"، ومع د. عصمت سيف الدولة حول مفهومه المثالي للجدل والفكر القومي بعامة، ومع محمد حسنين هيكل حول "المجتمع المفتوح"، ومع غيرهم.

باعتبارك أحد أعلام النقد العربي الحديث، أسألك: هل توافق أن النقد العربي أخفق في مواكبة الإبداع؟ وما هي السبل لإرساء حركة نقدية عربية متطورة؟

م.أ.ع.: أنا لست مع مَن يقول بأن النقد العربي أخفق في مواكبة الإبداع لأن هذا النقد، بحسب قناعتي، قد واكبه فعلاً، وبشَّر به أيضًا، وقيَّم منجزاته. والمدارس النقدية العربية تعددتْ وتنوَّعت، واختلفتْ أيضًا فيما بينها وفي مستوياتها، لكنها واكبت الشعر والقصة والمسرح إلخ، نقدتْ وحلَّلت. ولكنني أعترف أنها لم تكوِّن نظرية متكاملة؛ إذ إن هذا لا يتم إلا بانتعاش الحركة السياسية والاجتماعية، وبانتعاش الديموقراطية والحرية – وهذا كله غير موجود عربيًّا.

كيف ترى علاقة المثقف بالسلطة؟

م.أ.ع.: هناك نوعان من السلطة: ثقافة السلطة وسلطة الثقافة. أما "ثقافة السلطة" فهي السائدة لأنها هي الثقافة التي تكرِّس السلطة، مع إضافات "إصلاحية" صغيرة هنا وهناك. و"مثقَّفوها" تابعون لثقافة السلطة، وهم بذلك يشبهون "أجواخ السلاطين" في العصور السابقة، أو ما يطلق عليه الشيخ إمام "المبرِّراتية" أو "وعَّاظ السلاطين"، حيث لا ينصح هؤلاء إلا بما يريده السلطان، محاولين تبرير الواقع القائم. في حين أن دور المثقف الحقيقي هو البحث عن الخير والحرية والإبداع. المثقف الحقيقي قوة عقل، وليس أداةً في يد السلطة. لذلك نحن في حاجة إلى مزيد من الحرية لتنضج الثقافة التي هي ليست مجرد كلمة، بل هي فعل يقوم على تثقيف الروح[1].

إذا أردنا أن ننتقل من التعريفات العامة للثقافة إلى التحديد الخاص لثقافتنا العربية الراهنة، فكيف تجد واقعَها؟

م.أ.ع.: تسود في المجتمعات الراهنة ثقافةٌ ملتبسة، غير متوازنة، فضلاً عن هشاشة بنيتها المعنوية والمادية وسطحيتها على حدٍّ سواء. فلا القديم التراثي الذاتي عميق الجذور في تأصيله المعرفي والقيمي والوجداني في ثقافتنا العربية بعامة (اللهم إلا في بعض الاجتهادات المستنيرة التجديدية، الفكرية والعلمية، ذات الطابع النخبوي، لبعض القوى الثقافية المعارِضة)، ولا الفاعل الخارجي له أسُسه وركائزه الراسخة، المستنبَتة، النابعة، في الوقت نفسه، من الإبداع المجتمعي الذاتي؛ بل إن هذا الفاعل الخارجي يمارس تأثيره السلبي في عرقلة التنمية الذاتية. ولهذا تكاد أن تصدُق العبارةُ الشائعةُ في أغلب كتاباتنا التي تقيِّم الوضع الثقافي الراهن والتي ترى أن مفاهيم عصر النهضة العربية التي بزغتْ في القرن التاسع عشر لا تزال مفاهيم معلَّقة، بل مجهَضة، حتى الآن.

التداخل والتشابك بين مفهومَي "الحضارة" و"الثقافة" كبير جدًّا. فماذا عنهما؟

م.أ.ع.: الثقافة هي الرؤية العامة للعالم، وهي المعرفة بالمعنى الشامل، أي الامتلاك النظري والروحي والعلمي والتقني لحقائق الواقع الطبيعي والاقتصادي والاجتماعي والإنساني بعامة. ولهذا تختلف الثقافات وفقًا لذلك. فضلاً عن أن في كلِّ مجتمع ثقافةً مرتبطةً كثيرًا بالسلطة السائدة، إلى جانب الثقافات المناهضة الأخرى. وبرأيي، ليس هناك فارق ملموس بين تعريف الثقافة وتعريف الحضارة من حيث هذه الأدلة الأنثروپولوجية؛ الفارق بينهما أن الحضارة هي ثقافة معمَّمة، تمتد وتتوسع خارج حدود خصوصيتها المجتمعية المحددة[2].

وماذا عن "صراع الحضارات" في عصرنا الراهن في إطار العولمة الرأسمالية السائدة؟

م.أ.ع.: برأيي، ليس هناك "صراع حضارات"، كما يقال. فالصراع السائد والمتفاقم في عصرنا هو صراع مصالح اقتصادية بين البلاد الرأسمالية نفسها بعضها مع بعض من أجل الهيمنة والتوسع وزيادة الربح من خلال العولمة.

مازال الجدل قائمًا حول موضوع التراث. حبذا لو تلخِّص لنا موقفك من التراث وآلية فهمك له.

م.أ.ع.: أنا أعترف أن القطيعة مع التراث – وهناك كثيرون يدعون لذلك – هي انتحار حضاري. وأرى كذلك أنه يجب ألا نعتمد "منهج الانتقاء" الذي يذهب إليه د. زكي نجيب محمود، أي أن نأخذ من التراث ما ينفعنا في حاضرنا ونترك الباقي، بل يجب تمثُّل الماضي تمثلاً معرفيًّا واستيعابه استيعابًا كليًّا قائمًا على المعرفة النقدية في إطار الشروط التاريخية الخاصة الذاتية لكلِّ جانب من جوانب هذا التراث[3].

محمود أمين العالم، كيف تنظر إلى إشكالية العلاقة بين الديني والسياسي؟

م.أ.ع.: في تقديري أن الديني في الممارسة العملية متعدد التوجهات، واقعًا وإمكانية. صحيح أنه يستند إلى مرجعية أولى هي النص الأصلي، إلا أن ثمة توجهاتٍ مختلفةً موجودة في مقاربة هذا النص: فهناك التمسك الحرفي به من حيث القراءة الفكرية والعملية؛ وهناك تأويله من خلال حرفيته نفسها (وهنا يختلف التأويل باختلاف المكان والزمان والأحوال)؛ وهناك تأويله تأويلاً عقليًّا يتجاوز منطقة الحرفي؛ وهناك مطلق الإيمان به إيمانًا دينيًّا خالصًا يتبدى في تأدية الطقوس الشرعية دون الخوض في تأويله فكريًّا وعمليًّا. وكذلك السياسي: فهو متعدد التوجهات. ومن تعدُّد هذه التوجهات بين الديني والسياسي تقوم هذه الإشكالية وتتفاقم وتتداخل بحسب الشروط الموضوعية السائدة وفق العديد من العوامل الذاتية والمصلحية والإيديولوجية، فيكون الديني سياسيًّا بامتياز في بعض تجلِّياته السلطوية (وخير مثال على ذلك إسرائيل)؛ وهذا، كذلك، ما يجعل السياسي الخالص، في بعض تحليلاته السلطوية، يتخذ من الدين بُعدًا من أبعاد مشروعيته. ويفسِّر المفكر صموئيل هنتنغتون الصراع العالمي الراهن على أنه صراع حضارات على أساس ديني.

*** *** ***

التقتْ به: أمينة عباس
عن أوروبا والعرب، العدد 118، آذار/نيسان 2003
تنضيد: نبيل سلامة


 

horizontal rule

[1] راجع: محمود أمين العالم، الإبداع والدلالة: مقاربات نظرية وتطبيقية، دار المستقبل العربي، 1998.

[2] راجع: محمود أمين العالم، الفكر العربي بين الخصوصية والكونية، دار المستقبل العربي، 1998.

[3] راجع: محمود أمين العالم، مواقف نقدية من التراث، دار الفارابي، 2004.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود