|
العـالَـم المجـهــري
تنقسم حياةُ العالِم الكبير پيير أوجيه Pierre Auger إلى أشواط: فبين سنِّ الخامسة والعشرين وسنِّ الأربعين، لعب أوجيه دور الباحث–المكتشف. ونذكر من منجزاته في تلك الفترة الاكتشافات التالية: – "مفعول أوجيه" lʼeffet Auger: وهو الظاهرة التي تعود فيها ذرةٌ مُستَثارة إلى حالة غير مُستَثارة عبر إصدار إلكترون. – التشظِّي spallation (من فعل to spall الإنكليزي الذي يعني "تفجَّر"): ظاهرة تحدث لدى تفاعل نووي، ناجمة عن تفجُّر نواة ذرة إلى قُسيمات عديدة بتأثير قصفها جسيميًّا بقُسيم عالي الطاقة. – اكتشاف حِزَم الإشعاعات الكونية الكبيرة.
طابع
بريدي أرجنتيني يمثل "مرصد پيير أوجيه" في جبال الآندِس بالأرجنتين، ثم ما لبثت الحرب العالمية الثانية أن نشبت لتبدِّل من عمله ولتحوِّله من باحث إلى منظِّم ومؤسِّس مبدع. فإبان الحرب، أسَّس نشرة المركز القومي للبحث العلمي الوصفية في فرنسا، وشغل في كندا منصب باحث رفيع. وقد عرف الرجل كلاًّ من إنريكو فيرمي E. Fermi وج. روبرت أوپنهايمر J.R. Oppenheimer، أبوَي القنبلة الذرية، معرفةً وثيقة، فكان واحدًا من الفرنسيين الثلاثة الذين طرقوا باب غرفة الجنرال ديغول في فندق في أوتاوا ليُعلموه بأن القنبلة الذرية قيد الصنع. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، عاد أوجيه إلى باريس، فتسلَّم إدارة التعليم العالي في فرنسا وأوجد أول كرسي جامعي للإلكترونيات ولعلم الوراثة إلخ. ثم، طوال إحدى عشرة سنة، أدار أوجيه القسم العلمي في اليونسكو، تلك المنظمة التي ساهم في تأسيسها. وهو أيضًا من مؤسِّسي "مفوضية الطاقة الذرية" CEA الفرنسية. وفي اليونسكو، طرح فكرة "المجلس الأوروبي للبحث النووي" CERN. كذلك، أسَّس أوجيه "المركز القومي لدراسات الفضاء" CNES، ثم نظيره الأوروبي: الـESRO.
پيير أوجيه (1899-1993) تبيِّن هذه العجالة بُعد پيير أوجيه العالمي. مع ذلك، يبقى أوجيه غير معروف، ولاسيما بين العوام. وقد نشر هذا العالم الجليل تأملاته الشخصية في أمور الحياة والوجود بعنوان حوارات مع نفسي[1]، ويُعد هذا النص بمثابة وصية المؤلِّف الفكرية. الكتاب مبسَّط للغاية، اتَّبع فيه المؤلِّف أسلوب الحوار بين شخصيتين هما "العلم" و"الثقافة"؛ وطبعًا تمثِّل هاتان الشخصيتان معلمَين من معالم شخصية أوجيه الكلِّية. وقد اخترنا من الكتاب ترجمة المقطع التالي. سمير كوسا * * *
العـالـم المجـهـري العلم: كثيرًا ما يُقترَح تقسيمُ تاريخ البشرية إلى أربعة عصور: عصر البشر "الصيادين–القطَّافين"؛ ثم عصر المزارعين؛ يتبعه عصر الصناعة والطاقة؛ وأخيرًا، حديثًا، بدأ عصر الاتصال والمعلوماتية. ويقول رجل العلم عن طيب خاطر أن العصر الحالي هو عصر قدوم "المجهري" le microscopique مع الفيزياء الذرية والبيولوجيا الجزيئية[2]. أكبر الأجسام، من العالم المادي وكذلك من العالم الحي – النجوم والحيتان –، تحكمها بنيتُها المجهرية: النووية فيما يخص النجوم والجزيئية فيما يخص الحيتان. الثقافة: بوسعنا أن نتخيل الدهشة التي ستنتاب السيد بوفون Buffon حيال العالَم الحديث، وهو الذي رفض في تاريخه الطبيعي الاهتمام بدود الجبن، قراديَّات الجبن هذه، لأنها "حقًّا صغيرة جدًّا"! والحال أن علماء الطبيعة، منذ أن أمكن لهم استخدام العدسات المكبِّرة، عاينوا بواكير عالَم جديد؛ وسرعان ما تخلوا عن البحث لدى النقاعيَّات عن أعين وأفواه – وذلك ما اعتقد رؤيته الراصدون الأوائل – حتى يكتشفوا روائع الانقسام الخلوي و"باليه" صبغياته. وقد لزمت عدة سنوات من البحث البيولوجي حتى تمَّ الاعترافُ بأهمية المجهري هذه: يكفي التذكير بأنه لم يتم الاعتراف بالبنية الخلوية "العالَمية" المشتركة لدى الكائنات الحية كلِّها سوى منذ حوالى أكثر من قرن بقليل. فحياة الأفكار التقليدية حياة قاسية! العلم: نعم، لقد لزم "حوالى خمسة وعشرون قرنًا"، كما قال جان پيران J. Perrin، حتى تأتي النظرية الذرية، التي ظهرت في اليونان "على ضفاف البحر الإلهي"، لتتيح للفيزياء والكيمياء تنويرًا جديدًا وفرصةَ اكتشافات حاسمة. لكن، تبلغ حاليًا الحركةُ نحو الأصغر – وهو الذي يُعَد أساسيًّا أكثر – آفاقًا لا يمكن لـ"الحسِّ المشترك" le sens commun أن يتصوَّرها على الإطلاق. فنحن نعرف الآن أنه يجب أن نعتاد على منظورات هذا العالَم الجديد المدهشة، حيث تسود "ميكانيكا كوانتية" mécanique quantique تختلف كثيرًا عن ما سُمِّي بـ"الميكانيكا العقلية" أو "النظرية" في زمن الحرب العالمية الأولى البعيد. ويمكن لنا دراسة المراحل الهامة للحركة العلمية من خلال بعض الأسماء: أسماء العناصر البنيوية للمادة غير الحية وللأجسام الحية. في خصوص المادة غير الحية، ظهرت كلمة "ذرة" atomos لدى الإغريق حتى قبل انطلاق العلم؛ ثم، في نهاية القرن التاسع عشر تقريبًا، ظهرت الإلكترونات والنويات الذرية، وهي مرحلة طبعتْها أسماءٌ مثل هنري بكرل H. Becquerel، اللورد رذرفورد Rutherford، الزوجين كوري، ونيلز بوهر N. Bohr. وقد اعتُقِدَ، عند ظهور نظريات "كمَّات" quanta الضوء، أننا اقتربنا من النهاية وأننا نمسك بالبنية البسيطة الأساسية للمادة؛ واعتُقِدَ أنه قد تمَّ التعرف إلى مركِّباتها الثلاثة "القصوى": الپروتون والنوترون والإلكترون، حيث تتم بفضل الأولين صناعة النويات الذرية، وبإضافة الإلكترون، نحصل على الذرات وعلى الجزيئات molécules. وعلى الإجمال، بعد أن تمَّ التحقق من طبيعة الضوء الكهرومغناطيسية، وجدت المادة ذاتها مزودة ببنية كهربائية! ودخلنا بعزم قرن الموجات والكهرباء. وسرعان ما "اجتاحت" الموجات، وبقوة، ميدان القسيمات المركِّبة للمادة. وعُمِّمَت نظرية لوي دوبروي Louis de Broglie التموجية الخاصة بالإلكترون على سائر القسيمات الأساسية les particules élémentaires، سواء كانت مشحونة كهربائيًّا أم حيادية، سواء امتلكت كتلة أم لم تكن لها سوى الطاقة. لأنه حتى لو كانت معادلة [أينشتاين] E = m.c2 (الطاقة تساوي جداء الكتلة في مربع سرعة الضوء في الخلاء) صحيحة، فإن الطاقة والكتلة لا تتكافآن في النوترينو والفوتون "الساكنَين": فهما في الواقع لا يعرفان "السكون"، بل "يسافران" من نقطة انبثاق إلى نقطة امتصاص، أو على الأقل نقطة فعل، وهما لا يقبلان الاحتجاز بين هاتين النقطتين! ناهيكم أننا حتى لو نجحنا في رصدهما خلال ارتحالهما، فإنه لا يمكن لنا، في الوقت ذاته، معرفة موقعهما وسرعتهما معًا في دقة، لكنْ إحدى هاتين الخاصيتين وحسب. القسيم، إن صح القول، محتوى في "خلية كوانتية" من الفضاء ومن الحركة؛ ومن البين أن طلب معرفة أين هو بدقة في لحظة معينة لا معنى له. فإذا حدَّدنا الموقع، تصير السرعة غير محددة في حدود كوانتُم فعل؛ ونرى، بالعكس، الشيء ذاته إنْ باشرنا قياس السرعة. ويبقى ما وقع قبل القياسات غير معيَّن أساسًا في الحدود الكوانتية. الثقافة: بقول آخر، ليست هناك في كلِّ لحظة حقيقة خارجية صحيحة، على كلِّ حال في هذا الميدان المجهري حيث تسود الكمَّات؟ العلم: صحيح. إذا حاولنا تعميم عاداتنا "الجهرية" macroscopiques التي تقود إلى تعيين موقع الأجسام وحركتها على سلَّمنا المعتاد، فإن السلَّم الكوانتي يبدو لنا غير حقيقي. والحال، فإننا نحاول دائمًا بشكل غريزي تمثيل الإلكترونات وكأنها "كريات" كهربائية صغيرة يعادل قطرها جزءًا من مئة ألف مليار من السنتمتر. إننا نتصورها تتحرك داخل أسلاك كهربائية، مندفعة من القطب السالب إلى القطب الموجب في أنبوبة كروكس! لكن تجربة التداخلات الكهربائية وحدها، المماثلة لتلك التجربة الأخرى المسمَّاة بـ"ثقبَي يانغ" les fentes de Young على الضوء، تبيِّن الخاصية التموجية هذه المرة للإلكترونات ذاتها! إنها تتصف بصفتين متكاملتين: الشحنة الكهربائية والدورية[3]. يصعب تمثيل ذلك كلِّه؛ ولهذا قال عالمٌ إنكليزي شهير: إنني أعرف تمامًا أن ذرات الهواء ليست كريات بلياردو من ألوان مختلفة يرتطم بعضها ببعض، لكنَّ من المبهج أن نرتاح إلى هذه الصورة. الثقافة: أن لا تكون الذرات كريات، حتى لو كانت صغيرة جدًّا، هو أمر نحن على يقين منه. مع هذا، عندما نفحص نقطة ماء تحت المجهر، فإننا نرى حبات من الغبار تحييها حركةٌ تسمَّى بـ"الحركة البراونية" تحت تأثير تصادُم ذرات السائل. العلم: إن دراسة هذه الحركة وآثار مُناظِرة هي التي أتاحت، من جهة أخرى، لجان پيران أن يبرهن على "الحقيقة المادية" للذرَّات. وعندما نرصد النقاط الدقيقة اللامعة التي تشير إلى ارتطام جسيمات ألفا – وهي نويات ذرة الهليوم – على شاشة متألقة، فإننا "نرى" الأثر الفردي لهذه الجسيمات، وهو دليل مباشر على حقيقتها المادية. مع هذا، فقذائف ألفا هذه الواردة من نويات مشعَّة ليست رصاص بندقية! الثقافة: إننا نعرف، إذن، وعلى كلِّ حال بدقة، أين كانت هذه الجسيمات في لحظة معينة. ومن ناحية أخرى، فإن طاقة هذه الجسيمات – وبالتالي سرعتها – معروفة. فأين هو، بالتالي، عدم التعيين indétermination "الأساسي"؟ العلم: يتعلق الأمر أيضًا بالعبور إلى العالم المجهري: المواقع والسرعات المقيسة بأدواتنا معروفة في الواقع، لكن مع تقريبات فاحشة في خصوص قيمة "كم" quantum پلانك. لا يلعب عدم التعيين الأساسي، في الحقيقة، دورًا هامًّا سوى في عالم القسيمات "البسيطة"؛ وهذه الأخيرة ظهرت على مستويات متتالية في تاريخ الفيزياء الحديث، إذ تبعت قدومَ الذرات الإلكتروناتُ والفوتونات. ومن المعترَف به اليوم أنها "مركَّبة" وتحتوي على قُسيمات جديدة هي "الكواركات"، وعددها ستة، التي تبدو – مع الإلكترونات – "غير قابلة للتقسيم" بحق، كما كانت ذرات ديموقريطس. لكن مَن يدري؟ الثقافة: يُسرَّى عنَّا أمام الصعوبات الهائلة التي يتطلَّبها تصورُ هذا كله بأن نقول إنها في الواقع لا تلعب دورًا عمليًّا في الميدان الماكروجزيئي (الجزيئات الكبيرة)، وهو الأهم لنا لأنه ميدان الحياة. العلم: الميدان الماكروجزيئي هو أيضًا عالَم جديد جدًّا بالنسبة للبيولوجيا الحديثة، لا علاقة له بعلوم آبائنا الطبيعية. نظرية فيرشوڤ Virchow الخلوية، ومن بعدها اكتشاف الصبغيات chromosomes والـDNA (الحمض الريبي النووي المنقوص الأكسجين)، ثم البنية الحلزونية لجزيئات هذا الـDNA الطويلة جدًّا وآليات صنع الپروتينات – كلها قاد إلى تصور آلية عجيبة تفسِّر على المستوى الجزيئي الحفاظَ على الحياة وتكاثرَها. لقد أفلحنا على هذا النحو، من بعدُ، في إيجاد قاعدة فيزيائية–كيميائية متينة للتنوع اللانهائي لظواهر التاريخ الطبيعي وأجسامه. لكن رجال العلم لا يرغبون في رضا ساذج، ويجب الإشارة فورًا إلى وجود "ثغرة" ضخمة في هذا العبور من المجهري إلى الجهري، يمكن صياغتها على شكل سؤال: مَن (أو ما) هو المسئول، لدى الكائنات الحية، عن التحولات المسجَّلة منذ الخلية "البيضة" حتى هذه الأجسام عالية التعقيد، ألا وهي الكائنات الحية، بعد نموِّها؟ إنه القضية المسماة "التمايز الخلوي" كلها. نحن نعرف أن المعلومات مسجَّلة في جزيء الـDNA، وقد بدأنا نجيد قراءة هذا "النص". لكن كيف يتم تشغيله وبِمَ؟ عندما يتوفَّر كتاب تقني كبير، يمكن للمهندسين أن يقرؤوا كل التفصيلات الخاصة بسيارة، بطائرة، بغواصة، وأن يشرعوا في العمل بغية صنعها. بالمثل، أين هم "المهندسون" الذين يترجمون المعلومات المسجَّلة في الـDNA إلى أجهزة، إلى هيكل عظمي، إلى مخ؟ لقد تمَّ بيان النتف الأولى من هذا العمل في آلية الـDNA والـRNA (الحمض الريبي النووي) والريبوسومات ribosomes والپروتينات. نعرف أيضًا الأوپرون[4] والسيسترون[5] والمثبِّط[6]... لكن ذلك أشبه بمعرفة الكتاب فقط، المدق، اللاحمة. نحن نعرف بعض أقسام سلسلة التركيب، لكن ليس أسباب العبور من طاولة الرسم إلى آلة قادرة على العمل، لا نعرف سبب عبور المعلومات المجهرية نحو الجسم الحي الجهري. تلك هي المسألة الكبرى، ربما، في البيولوجيا الحديثة. الثقافة: بين العبور من المجهري إلى الجهري، يقع الفارق الذي يعارض بين الفيزياء والبيولوجيا. في الحالة الأولى، أي الانتقال الشهير من الذرة إلى النجم، الذي صار الآن من الكوارك إلى المجرة، يتم هذا العبور بصورة منتظمة تقريبًا مع مراحل النوكليونات[7]، نويات الذرات، النجوم. أما في حالة البيولوجيا فنرى، على العكس، وقوع تحول مفاجئ عند مرحلة الجزيء. العلم: نعم، في ذلك فارق هام مع علم الفلك، لأنه حتى في المذنَّبات والكواكب تبقى الجزيئات بسيطة. في خصوص البيولوجيا، يولد، عند ظهور الجزيئات الكبيرة الذاتية التكاثر، فرعٌ جديدٌ تمامًا يحتوي على نموِّ الأنظمة المعقدة، المتزايدة في التعقيد، التي يتطلب وصفُها تقييمات عددية معلوماتية هائلة، تغيب كليًّا في الحالة الأولى، حيث نصادف تعقيدات عديدة، لكن حيث تبقى التعقيدات بسيطة. الثقافة: أخيرًا، مع ظهور الإنسان، يتواصل ذلك بقوة متزايدة، كما في السيرك؛ و"السيد المخلص" للبيولوجيا، علماء الوراثة مثلاً، يبقون أحيانًا مشدوهين أمام نجاحات البهالين الجزيئية! لنهلِّل، فحياتنا هي المعنيَّة، لكننا يجب ألا نتخلَّى عن دخول الكواليس بغية فهم كلِّ شيء! *** *** *** ترجمة: سمير كوسا [1] Pierre Auger, Dialogues avec moi-même, Éditions Albin Michel, Paris, 1988, 205 pp. [2] ليس المقصود بـ"المجهري"، بداهةً، ما يمكن لنا أن نراه بواسطة المجهر، حتى لو كان إلكترونيًّا؛ فالمجهري يذهب إلى أبعد من هذا. [3] للاطلاع على تجربة "ثقبَي يانغ"، يمكن للقارئ أن يعود في معابر إلى دراسة للأستاذ فايز فوق العادة بعنوان "ثالوث الريبة". (المحرِّر) [4] opéron: مجموعة مورِّثات متجاورة على الصبغي تتعاون على إنجاز وظيفة خلوية بعينها عندما تلزم. [5] cistron: جزء من مورثة تشكِّل وحدة وظيفية. [6] répresseur: جزيء افتراضي يثبِّط في الخلايا الحية إنتاج إنزيم في حال عدم لزومه. [7] nucléon: قسيم مركِّب لنواة الذرة (الپروتون أو النوترون).
|
|
|