حـول المثقَّـف والسُّـلطـة

 

أكـرم أنطـاكي

 

1
مـاهيَّـة المثقَّـف

إذا كان مصطلحُ "مثقف"، المشتق عربيًّا من "ثقافة" (وهي ترجمة لكلمة culture الفرنسية)، يربط مَن تنطبق عليه هذه الصفةُ بالموروث المعرفي المتراكم لمجتمعه وللإنسانية، فإن مصطلحه الفرنسي المتعارَف عليه intellectuel يربطه، أولاً وقبل كلِّ شيء، بالعقل والقلب والفهم والفطنة intelligence. الأمر الذي يضعنا أمام إشكالية لا بدَّ من توضيحها قبل أن نتوسع قليلاً في محاولة فهم طبيعة المثقَّف، من جهة، وعلاقته ببيئته وبالمدينة وسلطاتها، من جهة أخرى.

ذلك أنه فارقٌ واسع فعلاً الفارقُ بين المعنى الذي يدل عليه المصطلحُ العربي المشتق من "ثقافة" وبين المعنى الذي يفترضه المصطلحُ الفرنسي الذي يربطه بالعقل والفكر والفطنة. واسع، نعم، ذلك الفارق بين إنسان هو في النهاية مجرد مطَّلِع على موروث ومقيَّد به وتجوز تسميتُه "مثقفًا"، وبين إنسان آخر هو، إضافةً إلى اطِّلاعه، ليس مقيدًا إلاَّ بقلبه وضميره (أو مناقبيَّته) وبوسعه، عن طريق عقله، أن يستوعب، ويحلِّل، ويتخذ مواقفه انطلاقًا من ذلك، وينسحب عليه أيضًا مصطلحُ "مثقف".

لكن لمَّا كان من المفترَض أن يكون المصطلحُ الأصلي وترجمتُه متكاملين، رغم عدم تطابقهما، فإن المثقف l’intellectuel، الذي يصفه بعضُ القواميس بـ"الإنسان الذي يتعاطى الثقافة" والذي، انطلاقًا من واقعه الاجتماعي، يتمتع ببعض "سلطان" autorité يجعله ينخرط في الحقل العام دفاعًا عما يؤمن به[1]، هو تحديدًا ذلك المطَّلِع الذي يستوعب ما بوسعه من موروث وواقع، فيتعاطى مع الحياة والمجتمع والسلطة والسياسة ضمن إطار المدينة انطلاقًا من عقله وقلبه وفطنته وضميره.

2
في السلطات والمدينة

قلنا "ضمن إطار المدينة" (أو الوطن)، وهذا طبيعي: فالمدينة la cité هي – مجازًا – الإطار الذي يعيش فيه الإنسانُ الاجتماعي، مثقفًا كان أم لم يكن؛ فيها تنتظم العلاقاتُ بين البشر الذين من المفترَض أن يكونوا "مواطنين" citoyens متساوين في الحقوق؛ وهي تتجسد، أولاً وقبل كلِّ شيء، فيما يُصطلَح على تسميته بـ"السلطة السياسية" le pouvoir politique، وخاصةً فيما يُتعارَف على تسميته بـ"الدولة" État التي هي

[...] مجموع المؤسَّسات السياسية والإدارية والقانونية والشُّرَطية والعسكرية التي تنظِّم السلطاتِ والخدماتِ العامة [...][2]

والتي من أولى مهمَّاتها

[...] توطيد السِّلم الأهلي والحفاظ عليه واستعادته، إذا لزم الأمر، بغية ضمان وحدة المدينة وأمن المواطنين[3]

الأمر الذي يجعلها (أي الدولة)، بالقوة وبالفعل، قوَّامةً على وضع الفرائض والمحظورات على مواطنيها وتطبيقها عليهم ويخوِّلها "سلطة إكراه" لا بدَّ منها لـ

[...] إجبار الأفراد على احترام "العقد الاجتماعي" المؤسِّس لنظام المدينة ولتماسُكها [...][4]
[لأن] هناك حق الدفاع وواجب الدفاع عن المجتمع ضد المُخِلِّين بالنظام العام. [ولأنه] لا يمكن لمجتمع القانون أن يستغني عن قضاء وشرطة مُمَأسَسَين قادرَين، عبر "القوة العامة" [أجهزة الأمن]، على "كفِّ أذى" – أي على تحييد – الأفراد والمجموعات التي تُعرِّض السلم الأهلي للخطر.[5]

ولكن ما يحدث غالبًا، خاصة في المجتمعات والأنظمة ذات الطبيعة العقائدية التوتاليتارية و/أو الأصولية، هو أن يستغلَّ القوَّامون على السلطة السياسية ما يخوِّلهم سلطانُها من صلاحيات لقمع منتقديهم ومعارضيهم من المواطنين المحتجِّين على عسفهم وتسلُّطهم. وهؤلاء المنتقدون المعارضون هم غالبًا من "المثقفين".

وأيضًا، لمَّا كانت "سلطات" المدينة ليست سلطات سياسية مباشرة تتمثل في الدولة وأجهزتها وأحزابها فقط، إنما هي أيضًا سلطات أخرى، قد تكون أدنى منها مباشرةً لكنها لا تقل عنها نفوذًا، كالسلطات الدينية والعقائدية التي، استنادًا إلى قداسة كتب و/أو ثقافة نقلية تدَّعي "القداسة" والإطلاق، خوَّلت نفسَها الحقَّ في محاسبة الناس على أفكارهم ومعتقداتهم، فإن المثقَّف، الذي هو أول مَن بوسعه فهم الكتب والعقائد والمؤسَّسات، غالبًا ما يكون أول مَن يرفضها أو يتبنَّاها: فإما أن يجعل نفسَه المدافع الأول عنها، وإما أن يتلمَّس مدى هشاشتها وما توقِعُه من ظلم وضرر فيكون أول مَن ينتقدها.

3
لمـاذا؟

لأنه إذا كان من الممكن، مثلاً، أن يكون العسف، المادي أو الفكري، عامًّا ويطاول الجميع، فإن المثقف هو، بالقوة وبالفعل، أول مَن يستطيع أن يتفهَّم طبيعة ذلك العسف ومسبِّباته، فيشير إليه بدقة ويتصدى له بجرأة. فالمثقَّف، الذي هو أول مَن بوسعه أن يتفهم كيف تؤسِّس الدولة شرعية عنفها الخاص

[...] على ضرورة التصدي الفعَّال لعنف الأفراد والمجموعات الاجتماعية التي تُخِلُّ بالنظام العام. ولا جَرَمَ أن من الممكن أن توجد حالاتٌ قصوى يبدو فيها من الصعب – بل ومن المتعذر – تحييدُ الجانحين الثابتة خطورتهم العامة و"المستعدون لكلِّ شيء" لبلوغ مآربهم وكفُّ أذاهم دون اللجوء إلى العنف [...][6]،

هو أول مَن بوسعه، في المقابل، أن يتفهَّم طبيعة "الخلل" الذي قد يصيب القوَّامين على الدولة ومؤسَّساتها في بعض البلاد ويجعلهم

[...] يكبِّدون الفكرَ اعوجاجًا خطيرًا، [فـ]ـيتذرَّعون بتلك الحالات القصوى التي يمكن للعنف فيها أن يكون ضروريًّا لكي يبنوا عقيدة تخوِّل الدولةَ الحق في اللجوء لجوءًا سويًّا إلى العنف المادي لضمان السلم الأهلي. فمادام المواطنون يتنازلون للدولة تنازلاً نهائيًّا عن حقِّ اللجوء إلى العنف للحفاظ على النظام العام، يسهل على الدولة التذرعُ بهذا الحق للدفاع عن أمنها الخاص ضد المواطنين في أثناء تأدية وظائفهم. وعند تجاوُز هذه العتبة – والتاريخُ يبيِّن لنا أن هذه ليست فرضية هواة مدرسية –، لا تعود الدولةُ [أو المؤسَّسة] تشكل ضمانًا لأمن المواطنين، بل تهديد له؛ إذ إن نظام الدولة [أو المؤسَّسة] ينزع أيضًا إلى تنميط الآراء [...][7]،

فيكون، بالتالي، أول مَن يرى كيف يُصان أو ينتفي العدل الذي هو

[...] المبدأ الأخلاقي الذي يؤسِّس لاحترام الحقوق الثابتة للكائن الإنساني التي لا يجوز التصرفُ فيها [...][8]

الأمر الذي يؤكد المبرِّر الأخلاقي الذي تستند إليه السلطةُ في تبرير شرعيَّتها أو ينفيه، فيسخِّر محصلةَ ثقافته التحليلية والنقدية في خدمة ما يصبو إليه من أهداف سامية أو مناقبية – ممَّا يجعله، في أعين السلطات التي ينتقدها، أخطر بكثير من غيره من المظلومين والرافضين؛ كما يمكن له أن يصير في أعين السلطات التي يدافع عنها ذلك "المبجل" الناطق باسمها – لأنه حين يقسو القلبُ و/أو يعتري الضميرَ الوهنُ، غالبًا ما يكون المثقف أفضل خادم وشريك لتلك السلطات الغاشمة، فيبرِّر لها مجمل سلوكياتها ويمهِّد لها فكريًّا معظم تجاوُزاتها.

فكل شيء يعود، في المحصلة، إلى مقدار تزاوُج العقل والفطنة مع القلب والضمير!

لذا ظلَّ هناك دائمًا، وسيبقى هناك ما بقي عالمُنا على أوضاعه من حيث الانحطاط في المفاهيم والقيم، "مثقفون" يُعرِضون عن الإصغاء لضمائرهم، فيسخِّرون عقولهم وذكاءهم لخدمة عسف سلطات غاشمة ولتبرير تجاوزاتها؛ كما ظلَّ هناك دائمًا، وسيبقى أبدًا، مثقفون آخرون أخلاقيون أحرار يرفضون الظلم ويقاومونه.

4
والنتيجة...

أنه في الحالة الأخلاقية الرافضة للظلم، يصبح المثقف "المتمرِّد" هو ذاك الناقد الذي يفضح العسف؛ هو ذلك العادل (البار) le juste الذي، حين يجد نفسه في مواجهة العسف أو التسلط الذي يُذِلُّ الآخرين ويبرِّح بهم، تراه

[...] يطيع القانون غير المكتوب – القانون الأخلاقي المنقوش في أعماق الكائن الإنساني – الذي يستعلي عن قوانين المدينة ويقتضي احترامَ حقوق كلِّ كائن إنساني، وفي الدرجة الأولى، حقوق المقموع والمُهان والمستبعَد والمتهَم [...][9]،
[فـ]ـيقرر الصمودَ بينما يستكين الآخرون حواليه للظلم ويرتضونه ويظلون أسرى جُبنِهم [...][10]،

فيكون كما كان ڤولتير وروسو وزولا وثورو وسولجنيتسن، كل في زمانه؛ بينما لا يكون في الحالة الأخرى، مهما كانت أهميةُ دوره العام وعلوِّ منصبه، إلاَّ مجرد "موظف" خادم للسلطان، أي، في أحسن أحواله، مجرَّد مكياڤيللي أو ليو شتراوس.

ونستطرد هنا فنقول – وهذه أجمل الحالات وأكثرها مثالية – إن من الممكن أيضًا، حين يصل إلى رأس السلطة في المدينة مثقفون كبار يتمتعون بمناقبية عالية، كما كان في القرن الماضي في فرنسا الجنرال ديغول الذي أحاط نفسه بمثقَّفين مرموقين، كأندريه مالرو (وزير الثقافة) أو جورج بومپيدو (رئيس وزرائه)، مثلاً وليس حصرًا، والذي يُروى عنه أنه جاءه ذات يوم، إبان الاضطرابات الطلابية والعمالية التي اجتاحت بلاده في أيار 1968، قائدُ شرطة باريس ليخبره بأن الفيلسوف جان پول سارتر انضمَّ إلى المتظاهرين يرمي الشرطة بالحجارة ويستأذنه لاعتقاله[11]، فرفض رفضًا قطعيًّا اعتقال سارتر "المعارض" ووبَّخ رئيس الشرطة قائلاً: "هل تريد أن يقال عنِّي إنِّي اعتقلت ڤولتير؟!" – ما يعني الاحترام الفعلي للمثقَّف الحقيقي، حين يكون في السلطة، لنفسه ولذلك الآخر الذي يُخالِفه ويُعارِضه، فيتعامل معه بكلِّ احترام ونِدِّية – إذ ذاك، وإذ ذاك فقط، يصبح من الممكن جدًّا أن تتجسد على أرض الواقع تلك العلاقةُ المثاليةُ المرجوةُ بين المثقَّف والسلطة التي هي، في التحليل النهائي، من صنع البشر الذين يطبعونها بطابعهم كما تطبعهم هي بطابعها. لذا فإن أية سلطة تعكس حتمًا، سواء في تخلُّفها أو في رقيِّها كما في رحمة نظامها أو في قسوته وقمعه، تخلُّفَ أولئك الذين صنعوها وطبعوها بطابعهم أو رقيَّهم، فكرًا وثقافةً ومناقبية؛ وهو الأمر الذي يجعلها تستوعب (أو ترفض) ذلك الذي هو ابن بيئته والذي غالبًا ما يكون أول مَن يتجاوز، بحكم "ثقافته"، المفاهيم السائدة في مدينته، فتتفهَّم موقفَه من الأوضاع فيها على أنه موقف فكري وأخلاقي بالدرجة الأولى أو تعتبره، على العكس، موقفًا هدامًا يهدد "شرعيتها".

لأنها قيم سامية ومناقب (أو مصالح ومآرب) التي تحدِّد، في التحليل النهائي، موقف المثقَّف من السلطة وموقعه في قلب المدينة: هل هو "في صفِّ مَن [يعتقدون أنهم] يصنعون التاريخ أم في صفِّ [البشر] الذين يعانون منه"، كما قال ذات يوم، بكلِّ بلاغة، المفكرُ الفرنسي الكبير ألبير كامو.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] Voir: Wikipedia – Intellectuel.

[2] راجع في قاموس اللاعنف لجان ماري مولر تعريف "الدولة"، معابر.

[3] المرجع نفسه والتعريف نفسه.

[4] المرجع نفسه والتعريف نفسه.

[5] المرجع نفسه والتعريف نفسه.

[6] المرجع نفسه والتعريف نفسه.

[7] المرجع نفسه والتعريف نفسه.

[8] المرجع نفسه، تعريف "العدل".

[9] المرجع نفسه والتعريف نفسه.

[10] المرجع نفسه والتعريف نفسه.

[11] وهو حق يخوِّله إياه القانون.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود