|
المذهـب الإنسـاني الإيكـولوجـي
الفلسفة مرآة تنعكس فيها البُنى العميقة لمجتمع وثقافة بعينهما، لكنها أيضًا تعكس ما يتخلَّل هذه البُنى من شقوق عميقة. لقد كتب الشاعر شيلي: "الشعراء مرايا عملاقة يلقي المستقبلُ من خلالها ظلالَه على الحاضر." تعمل الفلسفة أيضًا، في بعض الأحيان، بهذه الطريقة: إنها تحاول أن تكون مرآة يتراءى فيها مستقبلُ مجتمع بعينه، وإنْ على نحو خافت. تحاول الفلسفة الإيكولوجية، بمدارسها المختلفة (حركة الإيكولوجيا العميقة والحكمة الإيكولوجية عند آرني نيس، الإيكولوجيا الاجتماعية، النسوية الإيكولوجية)، أن تأخذ على عاتقها المهمة التي نسبَها شيلي إلى الشعراء. إننا نحاول أن ندرك شكل العالم البازغ وأن نعبِّر عنه بمصطلحات الفلسفة؛ وأكثر من ذلك، نحاول أن نؤثر في هذا الشكل بافتراض ما يجب أن يكون. وبذلك فإن دورنا رؤيوي ومعياري. إذ ينبغي أن يتوافر في كلِّ مجتمع أناسٌ ينظرون إلى المستقبل في وضوح وبصيرة. إبان الخمسين عامًا الماضية، وخصوصًا منذ أواسط الثمانينيات، ازدهرت الفلسفة الإيكولوجية ازدهارًا جارفًا بعض الشيء. عندما ينبثق نمو جديد ينطلق أحيانًا إلى الأمام سريعًا غير مضبوط. وهذا ما حصل مع الفروع المختلفة للفلسفة الإيكولوجية. إن غزارتها علامة على نموِّها السليم. لكننا، نحن فلاسفة الإيكولوجيا، لسنا مجرد كائنات بيولوجية تستحثها وتحدِّدها القوى الحيوية المزروعة بداخلنا، بل يُفترَض فينا أن نكون ولوعين بالتأمل والتفكير العميق وأن نكون أيضًا على وعي بطبيعة نشاطنا. إن ما يوحِّدنا، كفروع متعددة، هو الحرص على الصالح العام للكوكب الأرضي كلِّه ولمخلوقاته كافة والاهتمام لها – وهذا ما أدعوه الحافز الإيكولوجي. إننا نتشارك في هذا الحافز، وينبغي له أن يكون قوة موحِّدة ترشد عملنا وفكرنا. في الوحدة تكمن قوتنا، وبها نستطيع أن نساعد بعضنا بعضًا في تطوير فلسفة متماسكة شاملة تكون أساسًا لحضارة جديدة. نحن بعيدون الآن عن إنجاز مثل هذه الفلسفة، لكن في هذه اللحظة ثمة إرهاصات واعدة. كتب أوزڤالد اشپنغلر: "التقنيات وسائل من أجل الحياة." هذه عبارة مفيدة جدًّا، أنتفع منها بينما أعرض معضلتنا وأبحث عن حلول ممكنة. التكنولوجيا الحديثة – أو الأفضل أن نقول التكنولوجيا الغربية – خذلتْنا، لا لأنها أضحت مدمِّرة إيكولوجيًّا، لكن بشكل رئيسي لأنها نسيت وظيفتها الأساسية؛ وأقصد أن جميع التقنيات هي في نهاية المطاف "وسائل من أجل الحياة"، ولأن التكنولوجيا الحديثة أخفقت في هذه المهمة: فقد تكشفت عن خسران اقتصادي وتخريب إيكولوجي. وقد حرَّض هذا الاتهام على نمو "التكنولوجيا البديلة" التي استهلَّت مسيرتها بقوة ملحوظة وأسَرَتْ خيال الكثيرين، لكنها تخفق الآن أيضًا. لماذا؟ لأنها لم تكن جدية بما يكفي، أقصد كمجموعة جديدة من الوسائل من أجل الحياة. فإذا ما دفعناها إلى أقصى حد، تصبح التكنولوجيا البديلة عبادة وثنية جديدة لضروب جديدة من الأدوات أو إيديولوجيا بلهاء لليسار الجديد: عملية محمومة تريد أن تديم ذاتها على الرغم من أنها فارغة المضمون. لم تعد التكنولوجيا البديلة مجدية لأنها لم تنفذ إلى جذورها ولم تجابه المهمة النهائية للتقنيات كلِّها: أن تصبح مجموعة وسائل من أجل الحياة. هذه الوسائل من أجل الحياة ليست مجرد استخدامات جديدة لأدوات قديمة؛ إذ إن الثقافة مكوِّن أساسي من مكوناتها. تقدم الثقافة السليمة المزدهرة مجموعة من البُنى الدينامية للحياة. لكننا نلحظ أنه في الثقافة الغربية – في فترة المائة وخمسين سنة الماضية، وخصوصًا في الخمسين الأخيرة منها – تعرضت الثقافة (وكذلك الدين) إلى شتى ضروب إساءة الفهم، وأحيطا بالغموض والإبهام والتشويه، واعتُبِرَ كلٌّ منهما منتجًا سقيمًا للعقول المتدهورة أو إحدى مفارقات حقبة ما قبل التكنولوجيا. وقد اعتُبِرَت الثقافة زائفة، قليلاً أو كثيرًا، مع أن الثقافة والدين جزء أصيل من إستراتيجيات الإنسان من أجل البقاء والسعادة. مع هذا، فإن ثقافة ما بعد الحقبة الصناعية لا يمكن لها أن تكون إحياءً ساذجًا لبعض الثقافات النقلية؛ إذ ينبغي لها أن تجابه شروطًا جديدة للحياة، بمعنى أن عليها أن تعيد النظر في منتجات العقل والروح الإنسانيين ضمن صورة مختلفة للعالم. أدعو الوسائل الجديدة من أجل الحياة بـ"الإنسية الإيكولوجية" Ecological Humanism، وهي تضم تكنولوجيا جديدة وثقافة جديدة وإيديولوجيا جديدة. ليست الإنسية الإيكولوجية عنوانًا جديدًا لأشياء قديمة، كما أنها لا "تصب الخمرة القديمة في دنان جديدة". ينبغي أن أشير، على الخصوص، إلى أن الإنسية الإيكولوجية على صلة واهية بالإنسية التقليدية، وهي تنأى أيضًا في حدة عن الإنسية الاشتراكية أو الماركسية التي تدعو (مثل الإنسيات الأخرى) إلى سيطرة الإنسان على الطبيعة. شددتْ الإنسية التقليدية على رفعة الكائن الإنساني وعلى استقلالية البشر، على عظمة البشر الذين جُبِلوا من تراب؛ وقد مضى هذا المفهوم يدًا بيد إلى جانب فكرة الطبيعة المسخَّرة للغايات والحاجات البشرية. وقد وافق ماركس موافقةً كاملةً على مفهوم الإنسية هذا وعلى فكرة الطبيعة المسخَّرة لمنفعة الإنسان. تتأسَّس الإنسية الإيكولوجية على مقدمة معاكسة لما سبق: إنها تدعو إلى انسجام البشر مع الطبيعة. ينبغي لنا أن نرى الإنسان كجزء من نظام أكبر للأشياء: الطبيعة والكون؛ ينبغي لنا أن نتجاوز فكرة الإنسان الپروتيوسي[2] (أو الفاوستي) ونبطلها. إن نتائج هذا الانقلاب مازالت بعيدة عن التحقق، لكني سوف ألامس بعضًا منها وحسب. في المستوى الأكثر التصاقًا بالعمل، تعني الإنسية الإيكولوجية، من بين أشياء أخرى، الترشيد frugality والتدوير recycling واحترام الطبيعة Reverence for Nature، وهي ثلاثة وجوه متكاملة للشيء ذاته؛ وبذا فهي تتكشف عن ضرب جديد من التكنولوجيا يتأسَّس على هذه العناصر الثلاثة، عن اقتصاد جديد لا يكون إجلالُ الطبيعة فيه زينة خادعة، بل جزءٌ جوهري من مشروع جديد. ينبغي أن أؤكد أن الإنسية الإيكولوجية ليست وهمًا آخر بديلاً عن قولنا إننا يجب أن نقلِّل من الهدر والتبذير، بل هي تدل على إعادة توجيه جذرية فيما يخص وفرة الأشياء. ثمة قلَّة من الناس، ليس من بينهم الماركسيون قطعًا، على دراية ووعي بأن الإنسية التقليدية، المؤسَّسة على مثال الإنسان الپروتيوسي وعلى فكرة الاستيلاء على الطبيعة (مع القبول الضمني بالعلم والتكنولوجيا في شكلهما الحالي)، هي، في بساطة، لا تتوافق مع مثال التناغم والانسجام harmony بين النوع البشري وبقية الطبيعة. على مستوى الفرد، تعني الإنسية الإيكولوجية الثراء الداخلي الروحي بدلاً من النشاط القلق المحموم في البحث عن الملذات، تعني التراحم والتعاطف أكثر من التنافس الضاري، تعني الفهم العميق أكثر من مجرد تبادل المعلومات. على مستوى الثقافة ككل، تعني الإنسية الإيكولوجية تحولاً أساسيًّا من اللغة التقليدية التي يؤكد الناسُ فيها ذواتهم ضد الأشياء التي "في الخارج هناك"، فيحاولون غرس أنفسهم في العالم، إلى لغة التواشج بين الناس والأشياء التي "في الخارج هناك". في حقل الإيديولوجيا، تتجه الإنسية الإيكولوجية نحو علاقات اجتماعية قائمة على فكرة المشاركة والخدمة بدلاً من أسلوب حيازة الأشياء وخوض معارك مستمرة لا ترحم في حروب اجتماعية مضلِّلة. إن تكنولوجيا جديدة وثقافة جديدة وإيديولوجيا جديدة لا تقدم بذاتها حلاًّ أو جوابًا، بل يجب أن يصبح كلٌّ منها وجهًا من وجوه نموذج إرشادي paradigm جديد أوسع، وفي عبارة أخرى، وجهًا لمجموعة جديدة من الوسائل من أجل الحياة. في اختصار، تتأسَّس الإنسية الإيكولوجية على ترابُطات جديدة للعالم ككل: – إنها ترى العالم لا كمكان للسلب والغنيمة أو حلبة لصراع العبيد، بل كحَرَم sanctuary نسكنه إلى حين وينبغي لنا العناية به إلى أقصى حد. – إنها ترى البشر لا كأفراد غزاة مولَعين بالكسب، بل كأوصياء وحراس على الأرض. – إنها ترى المعرفة لا كأداة للسيطرة على الطبيعة بل كوسيلة لتهذيب الروح. – إنها ترى القيم لا كمكافآت مالية، بل أساسًا كوسائط تعبُر بنا نحو فهم أعمق متبادل ما بين البشر وتلاحُم عميق بينهم وبين سائر الخليقة. – وترى في كلِّ ما تقدَّم جزءًا من الوسائل الجديدة من أجل الحياة. كان واضحًا لي، منذ البداية، أن إعادة بناء فلسفية في سبيل تقديم أساس فلسفي جديد لحضارتنا وإبداع فلسفة جديدة ينبغي لها أن تتوجَّه، في آنٍ معًا، إلى بنية الواقع (لذا يجب خلق ميتافيزيقا أو كوسمولوجيا جديدة) وإلى الظاهرة الإنسانية وإلى مشكلة القيم. يجب، في مقابل الرؤية العالمية الميكانيكية أو الكوسمولوجيا الميكانيكية، أن نبدع تصورًا جديدًا للواقع، أي كوسمولوجيا جديدة؛ والاسم المناسب لها بالطبع هو الكوسمولوجيا الإيكولوجية، وعلى عاتقها تقع مهمةُ إعادة التعريف ببنيان الكون بمصطلحات جديدة. وسوف يستتبع هذا البناء الشامل حتمًا بنيانًا متوازنًا وتعاونيًّا تكافليًّا لعالم الإنسان؛ ولن يكون هذا شذوذًا بل نتيجة طبيعية. ثمة بُعد آخر لأية فلسفة إيكولوجية حتى تكون قابلة للحياة، ويتمثل في مفهوم جديد للإنسان. لقد اقترحت في كتاباتي فكرة الإنسان الإيكولوجي (وقد يكون تعبير "الشخص الإيكولوجي" أكثر دلالة) كنقيض لمفهوم "الإنسان الفاوستي" أو "الإنسان التكنولوجي" أو "الإنسان الصانع"، وأيضًا كنقيض للإنسان العقلاني. الشخص الإيكولوجي هو مخلوق التطور: إنه ينبثق عند منعطف محدَّد من منعطفات التطور البشري، وسوف يختفي عند منعطف آخر عندما يتجاوز التطورُ (تطورنا) ذاته إلى مراحل أخرى. يقر الشخص الايكولوجي بالطبيعة المخلِّصة والضرورية للألم والرحمة والمحبة والحكمة، هذه العناصر الأربعة التي تعرِّف بالشرط الإنساني. ثمة بُعد آخر يتمثل في المشكلة الخُلُقية: ينبغي له أن يجهر بالقيم الإيكولوجية باعتبارها متميزة عن القيم النقلية وعن القيم البيئية الأداتية الخالصة، وأن تُربَط هذه مع مفهوم الشخص الإيكولوجي ومع الفلسفة القاعدية للكوسمولوجيا الإيكولوجية. من الواضح أن مشكلة القيم تمثل صعوبة تعترض الفلاسفة الإيكولوجيين: إنهم لا يريدون اختيار أخلاق وضع راهن، وعلى الأخص المذهب النسبوي relativism، لأن أولئك الذين يستغلون وينهبون البيئات الطبيعية يتصرفون وفق قواعد وتراخيص وأذونات رسمية. من جهة أخرى، يحذر هؤلاء الفلاسفة القبول بأية قيم مطلقة أو موضوعية لأن هذه تحمل نكهة الدين القديم، لذا نراهم يتجهون إلى اختيار ضرب من القيم البيئية الأداتية قائلين: يجب أن نصون البيئات لأنها على المدى الطويل مصدر رزقنا وعيشنا. من الواضح أن هذه ليست أخلاقًا إيكولوجية فلسفية مقنعة يمكن أن تكون جزءًا متكاملاً من النظرة الإيكولوجية إلى العالم. نحن نحتاج، في مقابل ذلك، إلى التسليم بنواة من القيم الجوهرية الحقيقية. ويحصل هذا عندما نعتبر الكوكب الأرضي حَرَمًا ذا قيمة جوهرية، وعندما نعتبر أن الأنواع الحية الأخرى مساوية للحياة البشرية. عند ذاك، فإن إجلال الحياة Reverence for Life، في كافة تجلِّياتها، يجب أن يبزغ كقيمة جوهرية للأخلاق الإيكولوجية. *** *** *** ترجمة: معين رومية [1] هنريك سكوليموڤسكي Henryk Skolimowski: عمل في جامعات عديدة في أنحاء أوروبا وأمريكا ومستشارًا لمنظمة اليونسكو. وهو حاليًّا أستاذ الفلسفة في برنامج العلوم الإنسانية في جامعة ميتشغان وصاحب كرسي الفلسفة الإيكولوجية في جامعة وودج بپولونيا. تدور مؤلَّفاته حول "الفلسفة الإيكولوجية" Eco-philosophy التي وضع أسُسها وحول الإپستمولوجيا التطورية والفلسفة ما بعد المعاصرة. [2] نسبة إلى پروتيوس Proteus، وهو إله إغريقي بحري تلقى من پوسيدون، أبيه، موهبة تبديل شكله كلما أراد، وكذلك موهبة التنبؤ بالمستقبل لِمَن يرغمه على ذلك؛ كناية عمَّن يبدل من دوره أو من رأيه تبديلاً مستمرًّا لبلوغ مآربه. (المحرِّر)
|
|
|