|
الدولة الدينية "الفعلية"
دولة العدل والحرية من الأخطاء الشائعة في بعض
الفكر الديني والاجتماعي والسياسي أن
المسيحية ليست دينًا ودولة كما هو الإسلام
دين ودولة، استنادًا إلى آيات إنجيلية من نوع
"مملكتي ليست من هذا العالم" (إنجيل
يوحنا 18: 36) و"اتركوا ما لقيصر لقيصر، وما
لله لله" (إنجيل متى 22: 21). إلا أن هذا
التفسير مثالٌ على فصل الأقوال عن سياقها
وأخذ النصوص الدينية لا في مجملها، بل جملةٌ
من هنا وجملةٌ من هناك، كما يتفق للمفسِّر أو
يوافق أغراضه. إن
المسيحية لا تختلف عن الإسلام من حيث كونُ
الاثنين "دينًا ودولة". والحق أن كل دين
هو هكذا في طبيعته، إذ يتناول كل شيء في حياة
الإنسان ولا يُبقي شيئًا خارجًا. ومن هذه
الأشياء ما يُسمَّى "المجتمع" و"الدولة"
و"السياسة". فالمؤمن المسيحي والمسلم
واليهودي والهندوسي والبوذي – المؤمن من
أيِّ دين كان – إما أن يبني نظرته كلَّها إلى
الحياة، بما فيها نظرته الاجتماعية
والسياسية، على إيمانه الديني، وإما أن يتحمل
تبعاتِ الفصام الذهني والنفسي والروحي
المترتِّبة على هذا الفصل. حين
أطلق المسيح عبارته الشهيرة "مملكتي ليست
من هذا العالم" فهو لم يقصد البتة أن الدين
ليس معنيًّا بهذا العالم وأن رسالته مقصورة
على "الحياة الأخرى"، أي تلك التي تعقب
الموت. إن الرسالات الدينية كلَّها تدور على
تحسين حياة الإنسان في هذه الأرض ورفع شأنها،
مع الإيمان بأن الكمال لا يتحقق إلا في "الدهر
الآتي". والمعنى الطبيعي لقول المسيح إن
مملكته "ليست من هذا العالم"، في إطار
رسالته ككل، هو: 1.
التمييز
بين "العالم" و"الملكوت"، أي بين
نظرتين إلى العالم: واحدة تجده كونًا قائمًا
في ذاته، مكتفيًا بذاته، وواحدة تراه من حيث
هو مخلوق، لا كيان له ولا معنى إلا في ضوء
الخالق. 2.
النظرة
الثانية إلى العالم تعطي الدين سمته الخاصة
بالتمييز بينه وبين سواه من النشاطات،
وخصوصًا الأخلاق والإصلاح الاجتماعي: فالدين
يتميز بنظرته الإلهية إلى العالم قبل أي
شيء آخر؛ وعلى هذه النظرة تُرسى الأخلاقيات
والاجتماعيات الدينية. 3.
في حين أن
الأخلاق والإصلاح الاجتماعي ممكنان في
انفصال عن الدين، إلا أن المؤمن يستمد نظرته
الخُلُقية والاجتماعية من دينه. 4.
كون "مملكة
الدين" من غير "هذا العالم" لا يعني
البتة أنها ليست له؛ والأحرى أن السعي
الديني هو إلى تحويل هذا العالم ملكوتًا لله. هذا
يعني أن قول المسيح "مملكتي ليست من هذا
العالم" لا يختص بالدين المسيحي وحده، بل
يعبِّر عن ماهية الدين – أي دين – بقَبْضه
على الميزة التي تمنح الدين استقلاليته
وتجعله مختلفًا عن سواه، وخصوصًا عما يشبهه،
مثل الأنظمة الخُلُقية والاجتماعية. في غياب
هذه النظرة إلى الدين، من الطبيعي جدًّا أن
يُخفَض الدينُ إلى أخلاق وألا يكون هناك أي
فرق بين يسوع المسيح وسقراط أو بين النبي محمد
وكارل ماركس! أي دين يحكم؟ ولكن
إذا كانت المسيحية دينًا ودولة، وكان الإسلام
دينًا ودولة، وكانت اليهودية دينًا ودولة،
وكانت الهندوسية دينًا ودولة، وكان كل دين
بلا استثناء دينًا ودولة، فعلى أساس أي دين
يُقام نظامُ الحكم في بلد ما؟ هناك مسألتان
كبيرتان يجدر التصدي لهما من أجل تلمُّس
الطريق نحو الإجابة: المسألة الأولى تتناول
المجتمعات من حيث تعدديتُها أو من حيث
وحدتُها الدينية؛ والمسألة الأخرى تتناول
الدين من حيث هو مصدر للتشريع. نبدأ
بالمسألة الأولى. في مجتمع متعدد الأديان، أي
دين يجوز أن تكون له اليد الطولى في الحكم؟ في
لبنان، مثلاً، أتكون الدولةُ إسلاميةً أم
مسيحية؟ لا شك أن دولة مسيحية لن ترضي
المسلمين، وأن دولة إسلامية لن ترضي
المسيحيين – مهما كان محتوى هذه أو تلك،
ومهما بلغ التسامح الاسمي أو الفعلي مع هذه أو
تلك. فلا أحد يرتضي أن يكون "في ذمة" أحد،
أو تحت راية أحد، وإن اسميًّا. وما يصح على
المجتمعات ذات الأغلبية الدينية الضعيفة يصح
على المجتمعات ذات الأغلبية القوية. فهذه
مجتمعات متعددة الأديان. وأي نظام حكم
يتكنَّى باسم دين الأغلبية لا بدَّ من أن
يشكِّل ظلمًا للأقليات. ولكن ماذا عن
المجتمعات ذات الدين الواحد؟ حتى
في مجتمعات كهذه، يواجه الحكمُ باسم الدين
مآزق. من هذه المآزق أن الشرائع، حيث وردتْ
وكما وردتْ في النصوص المقدسة، غير كاملة
وغير مفصَّلة، وإنما تحتاج إلى سدِّ ثغرات
كثيرة وإلى تفصيل وتفسير واجتهاد. وقد نشأ هذا
التفسير والاجتهاد فعلاً، لكنه كان سبيلاً
إلى الخلاف، بل الانشقاق أحيانًا كثيرة، وإلى
نشوء مذاهب مختلفة في الدين الواحد. حتى في
الحكم المذهبي الواحد، حيث يقوم اليوم، نجد
ما يسمى خطًّا "منفتحًا" أو "متحررًا"
وخطًّا "متشددًا" أو "منغلقًا"، مع
ما بينهما من خطوط تميل ذات اليمين أو ذات
اليسار. من
هنا، يبدو أن تسمية المجتمع المتعدد أو "التعددي"
تصح على أيِّ مجتمع، حتى ذاك الذي يندرج
أفرادُه تحت دين واحد أو مذهب واحد. فتنوع
التفسيرات والاجتهادات في الدين الواحد أو
المذهب الواحد، وحرية المرء في التفسير
والفهم، وكذلك في الإيمان وعدم الإيمان، أمور
كفيلة بجعل أيِّ مجتمع في العالم تعدديًّا
بمعنى واحد على الأقل، هو المعنى العددي. وبما
أن كل مجتمع "عددي"، أي مكون من أفراد،
فهو بالضرورة تعددي. وكما أنه "لا إكراه في
الدين"، فلا إكراه أيضًا في نظام حُكم قائم
على الدين. وإذا
أمكن أن يكون نظامٌ كهذا ظالمًا للبشر، فهو
ظالم لله أيضًا. فالحاكم في نظام ديني، كما في
أيِّ نظام، هو البشر. لكن بناء الحكم على
الدين يمنح الحاكم نوعًا من الإطلاقية يظن
معه أنه "ظل الله على الأرض" وأنه يفعل
إرادة الله في كلِّ ما يفعل. ولكن إذا كان هذا
صحيحًا، فكيف يمكن تفسير الانقلابات
والاغتيالات التي نُفِّذَتْ في الحكام
الدينيين باسم الدين والتصحيح الديني، ثم ما
لبث المصححون أن تعرضوا للمعاملة ذاتها في
حركات تصحيح مضادة؟ ولنتذكر قول المفكر
الألماني لودفيغ فويرباخ: "حيثما أقيم
الحقُّ على السلطة الإلهية يمكن تبرير أشد
الأمور سوءًا وظلمًا." فقه واجتهاد هذا
بعض من الصعاب التي يمكن لنظام حكم دينيٍّ في
مجتمع متعدد أو غير متعدد دينيًّا أن يواجهها.
أما المسألة الثانية في تصدينا لهذا الموضوع،
فمتعلقة بالدين من حيث هو مصدر للتشريع: هل في
الأديان شرائع مفصَّلة تصلح لكل زمان ومكان؟
وهل يمكن استمداد شرائع مفصلة من الدين تصلح
لكل زمان ومكان؟ الجواب
عن السؤال الأول أنه ليس من شرائع مفصلة في
الأديان، وإن كان الجانب التشريعي في بعض
الأديان، كالمسيحية، أقل كثيرًا منه في بعضها
الآخر، كاليهودية والإسلام. ويمكن رد هذه
الظاهرة، في جانب منها، إلى أن المسيحية
ظهرتْ في بيئة غنية بالتنظيم المدني، بما في
ذلك من شرائع متطورة، في حين أن الإسلام كان
في حاجة إلى تعديل الشرائع السائدة وابتكار
سواها لإنعاش النظام الاجتماعي. إلا أن
الشريعة الإسلامية لم تأتِ مفصلةً في القرآن،
الأمر الذي أدى إلى بروز أربع مدارس فقهية
أساسية في الإسلام السني، هي: الحنفية
والمالكية والشافعية والحنبلية، ناهيك
بالاجتهادات والفتاوى في الشيعة وإناطة
شؤونها بالأئمة. وقد اعتُمِدَتْ أربعةُ أسُس
في التشريع التقليدي، هي: القرآن، الحديث،
القياس، الإجماع؛ وقد ركزت المدارسُ
المختلفة على بعضها أو على عدد منها أو عليها
كلها. وقد أدى اختلاف التفسير إلى خلافات
واسعة أحيانًا. وهذا ما جعل أبا العلاء المعري
يقول: أجاز الشـافعي فعال
شيء وقـال
أبو حنيفة لا يجـوزُ فضلَّ الشيبُ
والشـبانُ فينا
وما اهتدتِ الفتاةُ ولا العجوزُ إلا
أن في الإسلام مبدأين يمكن لهما أن يعدِّلا
إطلاقية التشريع، أي صلاحيته لكل الأزمنة
والظروف، هما مبدأ النسخ ومبدأ أسباب
النزول. المبدأ الأول يذهب إلى أنه إذا
اختلف حكمُ آيتين أو أكثر حول موضوع واحد،
يؤخذ بحكم الآية الأخيرة في النزول. (وثمة مَن
يذهب إلى أن حديثًا قد يَنسَخ آيةً أحيانًا.)
والمبدأ الثاني يدعو إلى تفسير الآيات في ضوء
أسباب نزولها. ما
تقدَّم يعني أن في الدين نوعين من الأحكام:
المطلق والنسبي. المطلق يدور على القيم
والمثل العليا العامة التي لا يطرأ عليها
تبدل، مثل الحرية والعدالة واحترام كرامة
الإنسان؛ وهذا متعلق بالغايات أو الأهداف.
أما النسبي فيدور على الوسائل الكفيلة بتحقيق
هذه الأهداف؛ والوسائل تتبدل بتبدل الأزمنة
والأمكنة وتتعدل في ضوء الظروف، شريطة ألا
تنحرف عما يكوِّن الأهداف التي وُجِدَتْ من
أجلها. فليس من العدالة في شيء أن تحقَّق
عدالةُ أحدهم بظلم سواه؛ ولا يبقى معنى
لاحترام كرامة أحد الناس إذا أهينت كرامةُ
آخر في هذا السبيل. إن
هدف الحياة الاجتماعية هو إتاحة أفضل الظروف
أمام جميع الأفراد الذين يتكون منهم النسيجُ
الاجتماعي لكي يحققوا ذواتهم ولكي يعيشوا
ويتعايشوا في سعادة وطمأنينة وسلام. وقد تبين
خلال التاريخ، وفي سعي الأفراد والشعوب
لتحقيق هذه المطالب، أن أفضل الأنظمة المدنية
أو الاجتماعية أو السياسية الكفيلة بتحقيق
هذه المطالب هي تلك القائمة على تأمين الحرية
والعدالة والمساواة. وهذا ما دعت إليه بعضُ
التشريعات المحلية والشرائع العالمية لحقوق
الإنسان. وهذا ما يدعو إليه لا دين بعينه، بل
الأديان كلها، التي إن تلاقت على جوهر واحد،
فعلى هذا الجوهر بالذات: وهو أن كرامة
الإنسان آتية من أعلى ما فيه، أي من كونه
مخلوقًا على صورة الله ومثاله. إن
الدولة التي تنتهج قيم الحرية والعدالة
والمساواة واحترام كرامة الإنسان وإتاحة
أفضل الظروف له لتحقيق أعلى إمكاناته هي،
إذن، دولةٌ تقيم نظام الحكم على جوهر الدين.
والدين، قبل أي شيء آخر، جوهر: إنه جوهر
قبل أن يكون اسمًا. من هنا يمكن التمييز بين
دولة دينية "اسمية" ودولة دينية "فعلية".
الدولة الدينية الاسمية تتكنَّى باسم دين
معين، فتجعل من ذوي الأديان الأخرى أو ممَّن
هم خارج حظيرة الإيمان أعداء لها. (والإيمان
مسألة حرية، لا مسألة قسر.) أما الدولة
الدينية الفعلية فتنطلق من روح الدين
وجوهره ولا تتبنى أية عقيدة، مفسحةً المجال
أمام مواطنيها لكي يتبنوا العقائد التي
يريدون. الدولة الدينية الاسمية تنتهج سبيل
الإكراه والعنف والحرب لإنقاذ أسماء. الدولة
الدينية الفعلية تنتهج السلام، وتفعل كل ما
يمكن لإبقاء الجوهر أو المعنى أو الروح حيًّا.
وبما أن المطلوب هو الجوهر لا الاسم، والحرية
لا القسر، والرفق لا العنف، والنظام لا
الفوضى، والإخاء لا العداء، والسلام لا
الحرب، فلا شك أن المطلوب هو الدولة الدينية
الفعلية، لا الدولة الدينية الاسمية. هذا هو
النظام الوحيد الذي يستطيع أن يرفع من شأن
الدين ومن شأن الإنسان. وهنا
أستشهد ما جاء في مقدمة الطبعة الأولى من
كتابي الدين والمجتمع ( دار النهار، 1983،
1995): الهدف دولة عصرية تكون تجسيدًا لمثال
الوحدة في التعدد على الصعيد السياسي.
فالتعدد، بالمعنى العددي على الأقل، هو واقع
كلِّ مجتمع. لكن الدولة، من حيث طبيعتُها،
أداة وحدة وتوحيد. وهذا التوحيد ينبغي أن يتم
ليس على حساب التعدد، بل ضمن التعدد. لذلك
يجب أن تقتصر الدولةُ على كونها آلة إدارية،
لا داعية عقيدة، كيما يُتاح للأفراد اعتناقُ
العقائد التي يريدون بحرية، ولكي يكون لهم
ولاءٌ قومي واحترام لكرامة الإنسان، مهما
كانت عقائده. ولطالما
وقع الأفراد والجماعات والشعوب، خلال
التاريخ، ضحايا لأنظمة سياسية غاشمة تحكم
باسم دين معين، فتحمِّل الله أوزارها وهي
تعمل كل ما في وسعها لإنقاذ الاسم أو الشكل،
فيما تخون الجوهر أو المحتوى الذي يجب أن
يجسِّده هذا الاسم. من هذه الشعوب الأرمن
والفلسطينيون: الأرمن عانوا ويلات الاضطهاد
الجماعي على أيدي الأتراك العثمانيين الذين
قتلوهم وشردوهم وهجَّروهم من ديارهم خلال
مذابح كان آخرها وأقساها بين 1915 و1916؛ وعانى
الفلسطينيون ويلاتٍ مماثلةً على أيدي اليهود
الصهاينة، منذ ثلاثينيات القرن العشرين حتى
اليوم. وفي الحالين، ارتُكِبَتْ الموبقاتُ
باسم الدين، أو بالأحرى على أيدي "شياطين"
ينتحلون صفة الدين. أما
في لبنان فقد حملت الأحداثُ الدامية كلها،
منذ القرن التاسع عشر، صفةَ النزاع الديني.
وكان آخرها وأقساها ما جرى في حروب الخمس عشرة
سنة (1975-1990). وقد آن الأوان كي يقف اللبنانيون
جميعًا، وهم يكوِّنون خيوط هذا النسيج
الاجتماعي، ويتأملوا كيف يستطيعون صياغة عقد
اجتماعي متين وصنع نظام سياسي راسخ يحافظ
فيه الكل على كيانهم؛ نظام يحترم الحرية
والعدالة والمساواة وكرامة الإنسان والقيم
العليا كلها، وبالتالي، ينصر قضية الدين؛
نظام تكون فيه الدولةُ مثالَ الوحدة وسط هذا
التنوع الغني. *** *** *** [1]
د. أديب صعب فيلسوف لبناني، أستاذ الفلسفة
في جامعة البلمند. له رباعية معروفة في
فلسفة الدين (دار النهار، بيروت): الدين
والمجتمع (1983)، الأديان الحية (1993)، المقدمة
في فلسفة الدين (1994)، وحدة في التنوع
(2003)؛ وقد صدر له مؤخرًا كتابُ هموم حضارية:
في الثقافة والسياسة والنهضة المنشودة.
|
|
|