الـعِـبْـرَةُ لِـمَـنْ يَـعْـتَـبِـر

سـلـيـم الـحـص

 

كنت أردِّد القول إن الإنسان إنْ واجَه مشكلةً وقضيةً غلبتِ المشكلةُ في نفسه على القضية. لا تَسَلْ أمًّا تبحث عن قوتٍ لطفلها الجائع كيف تُحرِّر القدس؛ فجوابها سيكون حتمًا: هات قوتًا لطفلي!

هذه المقولة راودتْني وأنا طريح الفراش أعاني من المرض. تفاقَم المرضُ الذي ألمَّ بي، فغدا في منزلة "المشكلة" التي طغت في نفسي على "القضية": إنْ سألتَني عن المجازر التي يتعرض لها الشعبُ الفلسطيني على يد الإسرائيلي وتلك التي يتعرض لها الشعبُ العراقي في ظلِّ الاحتلال الأمريكي وبفعله، لوجدتَني منصرفًا إلى التقاط نَفَسٍ أعبُّ به بعض الهواء في صدري المختنق. صاحب المشكلة يغدو في نفسه هو القضية!

هذه الحقيقة – كون الإنسان، إن واجَه مشكلةً وقضيةً، طغت المشكلةُ في نفسه على القضية – لطالما استخدمتْها قوى الطاغوت العالمي في إخضاع الشعوب المستضعَفة، بصرفها عن حقوقها، عن قضاياها، إلى مشاكلها وهمومها. العصبيات المذهبية والإثنية والفجوات الفئوية المفتعلة توظَّف في العراق لهذه الغاية، والجوع المصطنَع بالحصار، كما الحساسيات المحتدِمة بين فصائل المقاومة منذ الانتخابات الأخيرة، تُوظَّف في فلسطين لهذا الغرض.

تقاطرت في خاطري، على فراش المرض، أفكارٌ كثيرة من مخزون ثلاثين سنة من تجاربي المتنوعة في الحياة العامة – ومنها كثرة تُختصَر بعناوين ملتبسة: تحتمل من المعاني النقيض ونقيضه، ويختلط فيها الحق بالباطل.

* * *

المجد هو، بطبيعة الحال، غايةُ الناشط في الحياة العامة. والعبرة التي استخلصناها: إن أعزَّ ما في العزِّ الحفاظ عليه. ما أهون أن تحلِّق عاليًا في الحياة السياسية بدفع من عصبيات فئوية أو بوسائل فاسدة، وما أصعب أن تحافظ على عليائك فيها. إن كان سبيلك إلى المجد عصبياتٍ فئويةً أو فسادًا في الأرض، فالتحليق ميسور، ولكن الحفاظ على عليائك طويلاً لن يكون كذلك.

*

الاستقامة من فضائل السلوك في الحياة العامة، وهي غير البراعة في حالات كثيرة. فالاستقامة هي السير على خطِّ الفضيلة، لا محيد عنه. أما البراعة فهي السير على خطٍّ متعرِّج بحسب مقتضيات المصلحة الذاتية. كاد البارع المستقيم يكون كالعنقاء، مخلوقًا ليس له وجود فعليًّا.

*

والوفاء من الصفات الحميدة الملازمة للاستقامة في الأوقات كلِّها. فالوفاء فضيلة إنْ كان التزامًا لمبدأ أو رسالة أو قضية؛ ولكنه يغدو في مستوى الرذيلة أو النقيصة إذا كان ترجمةً لعبادةِ شخص أو لاستتباعٍ لذي مأرب دنيويٍّ عارض.

*

والصدق من الصفات الحميدة الملازمة دومًا للاستقامة. ما أسعد الصادق! فهو حي الضمير، وضميره مرتاح. حسبه اطمئنانه إلى أنه إلى جانب الحق والحقيقة، وكلاهما إلى جانبه. والكاذب لا يعرف السعادة، فهو يُخفي الحقيقة، والحقيقة تفضحه. والكاذب لا يعترف بكذبه، لأنه لو فعل لكان صادقًا، وهو ليس كذلك.

*

والجرأة والإقدام من الفضائل المكمِّلة عضويًّا للاستقامة. الجرأة قوة ومزية لصاحب القضية الوطنية أو الاجتماعية أو الإنسانية. ولكن الجرأة تغدو في منزلة التطاول والقحَّة إنْ كانت في طلب مجد زائف أو جاهٍ عابر أو كسب رخيص. أما الإقدام فإقبال على التضحية في سبيل الخير العام. والحيطة، في المقابل، حكمة إنْ كان فيها تفادٍ لشرٍّ يصيب الغير؛ وهي جبن وصغار إن كان فيها تنكُّب عن خير عام يتنافى ومصلحةَ صاحب حَوْل أو طول في المجتمع.

*

وأما الحصافة فهي الحكمة، هي التروِّي، هي التعقل، هي الحذر. ولكن الحصافة تفقد كلَّ معانيها السامية إن كان مبعثها التردد أو الدجل أو حتى المجاملة في نصرة الحق.

*

والعفة والطموح صفتان لا تجتمعان إلا في نفس امرئ مستقيم أصيل. فالعفة غنًى إن كانت ترفُّعًا عما يضير الغير، وبخاصَّة إنْ كان فيه للمرء مصلحة ذاتية. أما الطموح فتطلُّع إلى تحقيق الذات. وفي الطموح المشروع عطاءٌ للمجتمع. ويجب ألا يكون ثمة قيد على الطموح إلا حدود العفة.

*

أما عزة النفس فهي في التواضع على غير مذلة، وهي في الطموح إلى تحقيق الذات على غير كِبَر.

*

واحترام الغير هو من احترام النفس. وسرُّ احترام الغير هو في الحرص على كرامتهم.

*

والأمانة هي التزام الحقيقة. والحقيقة كالجمال: فهي كما تبدو لرائيها. شرطها أن تكون نابعةً من اقتناع، وليست صادرةً عن هوًى. والأمانة أن تكون صادقًا مع نفسك قبل أن تكون صادقًا مع الآخرين.

*

والسعيد هو الراضي عن أدائه والمكتفي به. فالسعادة هي الرضا عن النفس، هي راحة الضمير. فالعذاب – كل العذاب – في الندم على شيء فعلتَه أو لم تفعله – ففيه وخز للضمير. ولا سعادة لمن لا ضمير له. إلا أن الاعتراف بالذنب، وطلب الصفح والمغفرة، مفتاحا السعادة، والإحسان طريقها الذي لا يخطئ.

*

أسعدُ الناس مَن أسعدَ الناس.

*

والبريء ليس هو الذي يمتنع عن اقتراف ذنب أو ارتكاب خطيئة خشية العقاب، بل هو الذي لا يفعل اقتناعًا، لأن ضميره يردعه عن ذلك.

*

ثقة الناس بك أغلى من محبتهم لك وأبقى. والفلاح لمن يجعل ثقةَ الناس سبيلَ محبتهم له. وخائب مَن يجعل محبةَ الناس له سبيلاً لانتزاع ثقتهم به.

*

لا حياة لمجتمع من دون سلطة ناظمة له، عنوانها دولة القانون، الدولة القادرة والعادلة. ولكن المجتمع لا ينتظم، حتى في ظل دولة قادرة وعادلة، إن لم يكن نسيجه قيمًا أخلاقية واجتماعية حميدة. لذا فإن طلاب الدولة يجب أن يكونوا هم أيضًا طلاب المجتمع الفاضل. ونحن في لبنان يجب أن نكون في مقدِّم مَن يدرك هذه الحقيقة في كنف واقع مرير عشناه ونعيشه. والسرُّ هو في التلاقي حول مفاهيم واحدة أو متجانسة للمجتمع الفاضل. وهذا ليس مضمونًا في ظلِّ واقع محكوم بالطائفية والفساد في الدولة والمجتمع.

*

قضيتنا تبقى منيعة، مهما عصفتْ بها من عاديات، مادامت تستند إلى قوة الحق، وقوة الشرعية، وقوة الوحدة الوطنية. وقوة الحق هي من قوة الإيمان به؛ وقوة الشرعية مرتبطة باحتضان الدولة للقضية؛ وقوة الوحدة الوطنية إنما هي مستمَدة من إرادة شعبية حرَّة وموحَّدة، ولا تعبير عنها إلاَّ ديموقراطيًّا.

*

والوحدة الوطنية في لبنان لا تعني انعزالاً عن المحيط العربي أو استعداءً له، بل انفتاحٌ عليه وتفاعلٌ إيجابي معه.

*** *** ***

عن السفير، 20/06/2006

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود