|
تعليق على مقال صريح
البني "الاتِّفاق والاختلاف
فوق أرض واحدة" الصديق
العزيز الأستاذ صريح، اسمحوا
لي بأن أؤكد على مضمون ما ورد في مقالتكم التي
تحمل عنوان "الاتفاق والاختلاف فوق أرض
واحدة" من آراء وأفكار، وذلك في سياق
إطارها العام الذي تراءى لي فهمُه من خلال
السطور وأوضحتموه جليًّا في الفقرة التالية
التي تشكِّل في تصوري عمودها الفقري: ربما نلعب دورًا طليعيًّا، فعليًّا،
فيما إذا اعتدنا توسيع الرؤية النقدية
الجَسورة، لتتناول ليس فقط تجربتنا
التطبيقية وإنما أسسها النظرية، مكتشفين
أخطاءنا وقصورنا، والعوامل الأساسية التي
تقف وراءها، بما في ذلك أسلوب تعامُلنا مع
النظرية: مدى استجاباتها، كنظرية، للراهن،
بكلِّ أبعاده وألوانه... في إطار
مقولتكم هذه، وتأسيسًا عليها (من وجهة نظري
بالطبع)، فإنني أود طرح الأفكار التالية،
آملاً أن تكون، كما أسلفت، تأكيدًا وتدعيمًا
لما ذهبتم إليه، وإنْ بشكل غير مباشر. في رأيي أن
النظرية الماركسية، في أبعادها الفلسفية
والاقتصادية والاجتماعية، هي نتاج أوروبي/غربي
بحت. فهي: 1.
على
الصعيد الفلسفي، جاءت تطويرًا وإضافةً لما
سبقها من نظريات وآراء ظهرت في تلك المجتمعات
(الغربية تحديدًا) – بدءًا من سپينوزا،
مرورًا بفويرباخ، ووصولاً إلى هيغل – وإن
اختلفت لاحقًا مع بعضها في كثير من الآليات
وأسلوب التحليل. وهذا أمر طبيعي ومطلوب بحكم
التطور والحداثة، لكنه لا يجعل من جذورها
موضع تساؤل. 2.
أما
على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، فقد
استلهمت تحليلاتها وحلولها كلَّها من النظام
الاجتماعي والاقتصادي الذي أفرزتْه الثورةُ
الصناعية في أوروبا ومن المعطيات
التكنولوجية التي كانت تحكم أُطُر علاقات
الإنتاج آنذاك. تأسيسًا على ما
تقدم، ومن مجمل الظروف الموضوعية التي كانت
سائدة في أوروبا الغربية خلال النصف الأول من
القرن التاسع عشر، فقد طرحتْ هذه النظرية
أداتها المتمثلة في "دكتاتورية
الپروليتاريا" كحلٍّ مرحليٍّ لأزمة صراع
الطبقات الذي أفرزتْه الثورةُ الصناعية في
حدة غير مسبوقة. لقد كان هذا الحل من أنجع
الحلول (في زمانه وفي مكانه الصحيحين) كطريق
للوصول إلى العدالة الاجتماعية التي شكَّلتْ
دائمًا الهاجس الأساسي لجميع الفلاسفة
والمصلحين الاجتماعيين عبر العصور – ومنهم
بالطبع ماركس نفسه. وتتأتى نجاعة هذا الحل من
المعطيات الأساسية كانت سائدة في تلك الفترة،
وأهمها: -
كانت
الطبقة العاملة آنذاك هي المنتج الرئيسي
لفائض القيمة (وهو أساس الاقتصاد الرأسمالي
ومحرك تطوره، كما أوضح لنا ماركس نفسه): كلما
ازداد عدد العمال في مصنع ما، ازداد تراكُم
فائض القيمة لدى مالكيه، بمعنى أن هناك
علاقةً طرديةً بين عدد العمال وزيادة تراكُم
فائض القيمة. -
كانت
الطبقة العاملة تشكل نسبةً عاليةً من المجموع
العام للسكان في معظم الدول الأوروبية؛
وبالتالي، فإن "دكتاتوريتها" هي تعبير
عملي عن ديموقراطية الأكثرية، كما هي الحال
في أيِّ نظام برلماني آخر. فهي بذلك لم تكن "دكتاتورية"
بالمفهوم الصوري/التعسفي للكلمة، وإنما كانت
في جوهرها حكم الأكثرية ولمصلحة الأكثرية. إذن، لا نشك بأن ماركس كان
على صواب مطلق في اعتباره أن دكتاتورية
الپروليتاريا (كوسيلة ديموقراطية) هي الطريق،
في مكان ماركس وزمانه، إلى العدالة
الاجتماعية (كغاية وهدف إنسانيين). لكني أعتقد
بأن ماركس نفسه ما كان ليتصور مجيء يومٍ تصبح
فيه الطبقة العاملة، بسبب التطور التقني
الهائل الذي طرأ على وسائل الإنتاج وعلاقاته،
خاصة من خلال تطبيق علم الـcybernetics
في الصناعة، عبئًا على تراكُم فائض القيمة،
بحيث أصبحت العلاقة الآن، كما هو معروف
للجميع، عكسية: بمعنى أنه كلما نقص عدد
العمال، ازداد تراكُم فائض القيمة. المشهد الدرامي السائد منذ
منتصف القرن العشرين يشي بأن الطبقة العاملة،
بمفهومها الكلاسيكي، لم تعد أصلاً هي المنتج
لفائض القيمة، وإنما أصبح العقل البشري هو
المنتج لهذا الفائض. والمثال الواضح لهذا
التحول يتبدى في شخص السيد بيل غيتس
ومؤسَّسته العملاقة Microsoft،
حيث لا وجود فيها لأية أدوات للإنتاج سوى عقول
العاملين فيها! أفلا يضعنا هذا التحول الصاعق
أمام التساؤل المشروع الذي طرحتموه عن مآل
النظرية نفسها في شقيها الاجتماعي
والاقتصادي؟ أما لجهة التطبيق، وبما أن
الماركسية هي نتاج أوروبي/غربي بحت، فقد كان
نجاحها (عسكريًّا) في الوصول إلى السلطة في
الاتحاد السوفييتي والبدء في تطبيقها هناك هو
بمثابة محاولةٍ لاستنبات بذرةٍ ما في غير
تربتها وبيئتها. وباعتبار أن هذا أمر مخالف
للطبيعة، فقد اقتضى أن يتم الاستنبات في وضع
أشبه ما يكون بالبيت الزجاجي greenhouse،
وأقصد به الماركسية–اللينينية. لقد كانت
اللينينية ضرورة ملحَّة لمحاولة إنجاح
التجربة الماركسية في الاتحاد السوفييتي؛
لكنها كانت، في الوقت نفسه، سِباحةً ضد
التيار، وكان من طبيعة الأشياء ألا يقيَّض
لها الاستمرار. والانهيار المأساوي للاتحاد
السوفييتي، ومن بعده مباشرة للمنظومة
الاشتراكية برمَّتها (لم تنشب حرب كونية ولا
حصلت كارثة كبرى!)، هو بمثابة ردِّ فعل
الطبيعة على مخالفة البشر لقوانينها، وحتى
لقوانين الماركسية نفسها! وحده الغرب
الأوروبي – على اعتبار أنه منتج النظرية
الماركسية، ولأنها تأسست حصريًّا له – كان
المستفيد الحقيقي والأوحد منها، ولا زال:
فلقد شكلت له، ربما في العمق، الحافز والمحرك
لتطوير نظامه الرأسمالي الذي بدأ متوحشًا، ثم
تدرَّج في أنسنته عبر مجموعة متعددة من
القوانين والتشريعات بغرض الوصول إلى
العدالة الاجتماعية (القوانين الضريبية، منع
الاحتكار، الضمان الاجتماعي، الضمان الصحي،
التنظيمات النقابية، تنظيم العلاقات بين
العامل ورب العمل وضبطها لمصلحة العامل، إلخ)،
حتى إنه استطاع إيجاد نوع من المصالحة، بل
والتزاوج، بين الطابع الفردي والطابع
الاجتماعي للعملية الإنتاجية. وقد تم ذلك كله
في جوٍّ من الممارسة الديموقراطية؛ بل تم،
على التوازي، تطوير ديموقراطيتهم وتجذيرها. في المحصلة
النهائية لهذا التدرج، لا أعتقد أن هناك في
أوروبا الغربية حاليًّا صراعًا طبقيًّا
تقليديًّا، بسبب أنه لم يعد هناك من وجود
نمطيٍّ لطبقة عاملة مستغَلة ولا لطبقة
رأسمالية مستغِلة. وقد تم لهم ذلك دون الحاجة
إلى الدخول في عصر دكتاتورية الپروليتاريا
والملكية الجماعية لوسائل الإنتاج. وسبب ذلك،
في رأيي، هو فهمهم العميق/الواعي وغير
المسطَّح للأسُس الفكرية والمنهجية للنظرية
الماركسية، وليس من خلال التطبيق الميكانيكي
والمبتسر لأدواتها. بمعنى آخر: لقد وظَّفها
النظامُ الرأسمالي الغربي كـ"ناقوس خطر"
ليُصلِح كثيرًا من الخلل الكامن فيه، لا
كبديل تاريخي وحتمي له! ألا يطرح هذا
الذي تم في أوروبا الغربية كثيرًا من
التساؤلات، المشروعة كذلك، حول مقولة
المادية التاريخية والحتمية التاريخية؟ –
خاصة عندما نرصد تلك المفارقة المحزنة
المتمثلة في أن هذا الصراع الطبقي (حتى
بمفهومه الماركسي الكلاسيكي المؤسَّس منذ
أكثر من قرن ونصف من الزمان) موجود الآن لدى
الطرف الآخر الذي تبنَّى نظام الاشتراكية
العلمية مدة سبعين عامًا، ناهيكم عن الحقيقة
المُرَّة المتمثلة في أن طبقته الرأسمالية
السائدة حاليًّا هي نفسها التي كانت تتولَّى
في يوم من الأيام قيادة التحول الاشتراكي
وتُمسِك بزمام القرار السياسي والاقتصادي
والاجتماعي في بلادها – وهي لا زالت كذلك،
ولكن تحت اسم اقتصاد السوق. (ولنلاحظ هنا
أيضًا أن الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج،
التي كانت في حقيقتها ملكًا للدولة وتحت
سيطرتها المطلقة، ساهمت، إلى حدٍّ بعيد، سواء
في الاتحاد السوفييتي أو في غيره من الدول
التي اتبعت هذا النظام، في زيادة اضطهاد
العمال وفي قمع مكاسبهم وتحجيمها بالمقارنة
مع رفاقهم في أوروبا الغربية، مع أنهم كانوا
– بلا منازع – منتجي فائض القيمة في
مجتمعاتهم، بل وربما بقدر أكبر من رفاقهم
الغربيين!) كما لاحظتم في سياق هذا
الاستعراض، فإنه قد انحصر جغرافيًّا في
أوروبا وفيما كان يُعرَف بالاتحاد السوفييتي
والمنظومة الاشتراكية، ولم يتم التطرق إلى ما
يسمى بـ"العالم الثالث" (على الرغم من
عدم دقة هذه التسمية الآن)؛ إذ هي في رأيي
مسألة أخرى لا ينطبق عليها كل ما ذكرناه
سابقًا. ففي هذا "العالم الثالث"، لم
تتشكل بعدُ الطبقةُ العاملة (حتى بمفهومها
الماركسي الكلاسيكي الذي تلاشى الآن في
أوروبا)، وطبعًا لم تدخل دولُه المختلفة بعدُ
في عصر النهضة الصناعية، من حيث عدم توافُر
التراكم البدئي لرأس المال، الذي هو،
ماركسيًّا، شرط أساسي لدخول هذا العصر، لأنه
لم يتم السماح للإقطاع والبرجوازية الوطنية
بالقيام بهذا الدور التاريخي، ولا استطاعت
رأسمالية الدولة (إن لم نقل شيئًا آخر) أن تقوم
به. ولا زلنا أبعد ما نكون عن معرفة – ناهيكم
عن الاستفادة من – علم الـcybernetics. فعلى ماذا
نؤسِّس؟ وإلى ماذا نرنو من الحديث عن ماركسية
أو ماركسية–لينينية أو حتى ماركسية محلية
"معدلة جينيًّا"؟ ألا يبدو هذا، في حدِّ
ذاته، ترفًا فكريًّا أو محاولةً رومانسية
للتعلق بالماضي وأمجاده؟ – إنْ كانت له
أمجادٌ تُذكَر! أم أنه نوع من "الأصولية
العلمية" التي ترتدي طابعًا عَلمانيًّا (إن
جاز التعبير)؟ إذا كانت النظرية نفسها قد
أضحت، في معظم أطروحاتها، تنتمي إلى عالم ما
قبل مايكروسوفت وإنتل و"وادي السيلكون"،
وعالمنا الثالث لا زالت تفصله أحقابٌ عن هذا
العالم الجديد، فهل هناك من جدوى في التنقيب
عن "پيريسترويكا" محلية أخرى، ولمصلحة
من؟ وإذا قمت
بتلخيص كل ما أردت قوله في جملة واحدة، فسأقول
– دون تحفُّظ – إن الماركسية، من منطلق كبير
الاحترام لها ولدورها في بيئتها الأصلية (الزمكانية)،
ومن منظورها أيضًا، هي، مثلها كمثل غيرها من
النظريات والعقائد، سواء الوضعية منها
أوالمُنزَلة، ليست بالنظرية الشمولية
الصالحة لكلِّ مكان وزمان! لكنْ، حتى لا نجافي
الحقيقة، فلا زال هناك جزء مهم – بل وأساسي –
من النظرية الماركسية باقيًا وشامخًا، لم
تؤثر فيه رياحُ التغيير التي عصفتْ بباقي
النظرية، وهو ذلك الجزء الذي استند إليه
ماركس نفسه في بناء نظريته، ألا وهو المادية
الجدلية (الجدل وصراع الأضداد). وهنا أعتقد
أننا، من نقطة البداية هذه نفسها (التي
استقاها ماركس من هيغل)، سنكون – بل يجب أن
نكون – قادرين على الوصول إلى نتائج حاسمة في
عملية إعادة التقييم وصياغة أسُس عصرية
لبدائل أخرى مجدية. لكن، كما أكدتم، من خلال
فعل ديموقراطي حقيقي وإيجابي. فكما قال
فولتير: "قد أختلف معك في الرأي، لكني على
استعداد لأن أدفع حياتي ثمنًا لحقِّك في
الدفاع عن رأيك." ***
*** ***
|
|
|