|
الأدب والمقدس قراءة في سفر الجسد علاقة الأدب بالقدسي علاقة جدلية معقدة. فالنص الديني هو الذي أسس للأدب في جل الحضارات إن لم نقل كافتها، ابتداء من النصوص الميثولوجية القديمة وحتى الديانات التوحيدية، ومرورًا بالديانات التي سبقت التوحيد أو عاصرته (شأن البوذية وديانات أفريقيا وأمريكا قبل الفتح الأبيض). كما أنه شكل انطلاقة جديدة لكثير منها. وذلك ما حصل في ثقافتنا العربية بعد ظهور النص القرآني، الذي شكل منعطفًا أدبيًا جديدًا، أهون ما فيه ابتكار الأسلوب النثري طريقة للتعبير تكمل الأسلوب الشعري. وإن استقل الأدب فيما بعد عن مصدره الديني، فإنه بقي يقتبس منه رموزه وقسمًا كبيرًا من عناصر متخيله ومنحاه الأسلوبي، ليوظفها في مشروع تحديثي ليس بالضرورة معاديًا للدين - ونادرًا ما كان كذلك - بل مختلفًا عنه، يتناول هموم البشر وطموحاتهم، بعد أن بدأ عالمهم الفكري ينفصل عن الماورائي ليتمحور حول الإنسان ومصيره كما شاؤوا أن يصنعوه بأنفسهم. وخير مثال على ذلك ما حصل للأدب الأوروبي في عصر النهضة، حيث راح، وهو يؤسس لحضارة إنسانوية (تركز على الإنسان لا على الماورائيات)، يغرف من الكتب المقدسة. يكفي أن نذكر بمقولة وليام بليك الشهيرة: إن العهد القديم والعهد الجديد يشكلان المنظومة الرمزية للأدب[1] التي سعى الناقد الكندي المعروف، نورثروب فراي، إلى شرح أبعادها من خلال مؤلفات عديدة[2] دلل فيها على الدور المركزي الذي لعبه الكتاب المقدس في الإبداع الأدبي الحديث. فإذا ما انتزعت من هذا الأدب رموزه الدينية وإحالاته إلى القدسي تهاوى على نفسه وضمر معناه إلى حد كبير. هذه العلاقة يحكمها التأويل بمعناه الواسع. فالأدب، إذ يقتبس النص القدسي، لا يقاربه من الزاوية الدينية البحتة (وإلا اندرج في باب الفقه وعلم اللاهوت والتبشير)، بل يؤوله لكي يتسنى له أن ينقله من المستوى الميتافيزقي إلى المستوى البشري ويوظفه في مشروع إنساني، سياسيًا كان أم اجتماعيًا أم انثروبولوجيًا. وإن كان هذا التأويل يقوم على عملية انزياح من المستوى الإنساني المباشر، فإنه لا يختلف اختلافًا راديكاليًا عن التأويل الديني المتعارف عليه، فأي نص لا يقارّب إلا تأويلاً مهما تعددت الوجوه. وهو على كل حال اعتراف صريح بقدرة الرموز القدسية على التعبير عن أعماق المبدع وعلى تحريك مخيلة القارئ أكثر من أي رموز أخرى. إنه تأكيد على بنية الفكر الإنساني، عندنا كما في كل مكان، لا تزال، أقله حتى هذه المرحلة التاريخية التي نعيشها، وثيقة الصلة بالمتخيل الديني[3]. فالقدسي الذي شكل الرحم الأول للأدب، لا يزال يكون رافدًا من روافده الأساسية. وكما أن الأدب استطاع أن يكتمل بالاقتباس من المتخيل الديني دون أن يستغرق فيه ويعتنق موقفه، فإن الفكر الديني، بدوره، لم يزدهر إلا عندما استوعب طاقة الأدب الإبداعية ووظفها بدوره في عملية البيان التي، بالرغم مما يشاع، لا تقوم أولاً على البراعة اللفظية بل على قدرة التعبير عن الحقيقة والتغلغل إلى النفس الإنسانية لتغذيتها، وفقًا لطبيعتها الخاصة، بما تحمله من شحنة فائضة عن العقل (ليست بالضرورة نقيضة له، بما أن للعقل والدين مستويين مختلفين). بذا أصبحت الكتب الدينية (بما فيها الميثولوجيات) نموذجًا أدبيًا، لا تزال تكّون مرجعًا للإبداع الأدبي فضلاً عن الإبداع في العلوم الإنسانية الأخرى. وبذا أيضًا نهضت الحركات الدينية الإصلاحية التجديدية، في مختلف الأديان وفي كافة العصور، اقتبست من الإبداع الأدبي (ناهيك عن الفكر الفلسفي) زخمًا أتاح لها أن تجد التأويل المناسب للعصر، وإن انتكست، في أكثر الأحيان، انتكاسًا هو في حقيقته تأجيل إلى زمن لاحق. ويبدو لي أنه كلما افترق الديني والإبداع الأدبى انتكس كلاهما فتجمدا أو تقهقرا. هذا الافتراق بين المقدس والأدب تبدو بعض ملامحه، عندنا، في العقدين الأخيرين، ولاسيما بعد سقوط الماركسية كإيديولوجية وصعود مقولة الصدام بين الحضارات. فبعض المهتمين بالقدسي (أو من تنطع منهم ليقيم نفسه وصيًا على أصالة الدين) يتربص بالأدباء لينقض عليهم عند أول زلة لسان، فيما أصحاب الأدب يتوجسون خشية من المقدس فيجانبونه. إن هذا الموقف ينذر بويل عظيم يصيب الدين كما الأدب، يرمي الأول بين المتشنجين فكريًا ويحرم الثاني من رافد إبداعي تبدو آثاره واضحة في النهضة الأدبية الحديثة منذ انطلاقها[4]. فالمشروع النهضوي، الذي يضطلع بعبثه الأدباء منذ عقود للحاق بالفكر العالمي، كثيرًا ما وظف صورة المسيح الفادي أو الرسول اليتيم، الذي شيد دولة وبنى أمة، في دعوته إلى التحرر، وصورة موسى والإنجيل للحث على إقامة مجتمع جديد مبني على قيم حقيقية، وصورة القرآن للتأكيد على الهوية العربية في وجه من يريد طمسها. كما أنه لجأ إلى وجوه دينية أخرى لمساءلة المجتمع البشري الراهن ومحاولة إعادة تأسيسه على مبادئ تتفق والقيم الإنسانية الحقة. ويحق لنا أن نتساءل: ماذا عساه يتبقى من نصوص بعض الرواد وبعض الروائيين المعاصرين ابتداء من أشهرهم، نجيب محفوظ ومن عاصره أو لحقه، إذا نقيناها من مراجعها الدينية الصريحة أو الضمنية؟ وماذا يتبقى خاصة من الشعر الحديث، ابتداء من شعر المهجر والتيار الرومانسي المواكب له، وحتى من شعر نزار قباني والشعر الحر - لا سيما في تياره التموزي - والشعر الفلسطيني وشعر أدونيس نفسه إذا ما نزعنا عنه إشارته إلى القدسي؟ وفي هذا الإطار يندرج النص الذي بين يدينا الآن. كتب في أوئل الثمانينات في مرحلة اشتدت فيها التساؤلات حول أهمية الجسد وموقعه في حياة الفرد والجماعة، فانخرط، على طريقته الخاصة، في التيار الساعي إلى استعادة ملكية (بل أكاد أقول ملكة) الجسد بكل أبعاده، جسد بكل أبعاده: جسد الأرض بالتحرر من الاستعمار (خاصة في فلسطين)، جسد المواطن بالتحرر من القمع وصولاً إلى الديمقراطية، وجسد الفرد أيضًا بالتحرر من المحرمات القمعية السائدة ليكتمل الحب بكل أبعاده. وقد شكل نقلة نوعية في مقاربة العلاقة الجسدية ما بين الجنسين تتجاوز أكثر ما كتب في هذا المجال. الجسد حضارة، موقف من الكون، رؤية للشرط الإنساني في بعده الميتافيزيقي والاجتماعي، هذا ما تقوله قصة رجوع الشيخ لعبد الحكيم قاسم[5]، موظفة لذلك كافة طاقات التراث الأدبية والدينية. وسنقوم بتحليلها على ثلاث مراحل. فندرس أولاً البنية الحديثة وما تحيل إليه (رحلة المريد إلى الأصول) ثم الموقف الإنشائي وتوظيفه للتراث (سلطة النص) ونتقصى أخيرًا مدى الحداثة في هذا النص (الجسد بين التراث والحداثة). 1 - رحلة المريد إلى الأصول أو الطريق العجائبية إلى الجسد يخبر هذا النص عن رحلة، رحلة في المكان تتبطنها رحلة في الزمان، توغل في سعيها نحو الأصول الأولى لتصبح رحلة زمكانية إلى البدء، حيث اكتملت الرؤية العربية الإسلامية للكون - أو هكذا تبدى للراوي - وأثمرت حضارة فذة يشع النص بالحنين إليها. ينطلق الراوي الرحالة من الواقع (هنا والآن) ليدخل في الحلم والرؤيا قبل أن يعود إلى الـ"هنا والآن" ليعيد صياغته من جديد وفق مبادئ التاريخ المتخيل. 1. 1 الحج إلى الأعتاب 1. 1. 1 المكان الآخر: الوعي بالثنائية راو كهل يخبر عن مغامرته، متوسلاً أنا المتكلم. تبلغه دعوة الأصدقاء لمشاركتهم في حجهم إلى "المناسك المبرورة في المدينة القديمة" أي مدينة فاس[6]، فتبدأ فورًا مراسيم التحول بما يتطابق والهجرة إلى عالم الأصول الأولى. يفرح "يزدهي"، يتحول عالمه الداخلي بما يتناسب والمكان المقصود. يتمثل دور الأب الذي يضطلع بدور المثال: على الأب أن يقرب لبنيه معنى الجرأة والمغامرة، ص 45. بعد أن أدمن على حالة لا تبعث في عياله إلا الرثاء، فتصعد من أعماقه إلى وعيه صورة أخرى لنفسه وللكون على طرف نقيض من العالم الواقعي الذي يعيش فيه. فيتوازى في وعيه عالمان: أولهما داخلي خارج من رحم التاريخ يتميز بالفرح، وآخر خارجي موسوم بالترح[7]. فها هو يقابل الصخب والقهر والقعقعة والوجوه المجدورة بالمشي تراقصا وبإقراء السلام ناسًا ملهوجين – ص 46 ثيابه "تضغط على صدره ولكنه يسير مختالاً في سراويله وقفاطينه الخيالية -ص 46. وحين يجلس في جوف الطائرة يهرب من الضيق إلى عالم الحقيقة المتوهجة في أعماقه: تسللت من الكوة، لملمت قفطاني وسويت شالي، لا حد لكبريائي، هذه السحب صحرائي ومطيتي ناقتي تمضغ ما تلتقطه من شوك الصحراء، تسير الهوينى وأنا أهتز على إيقاع سيرها وأغني: فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن / فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن ].....[ ذلك هو كبرياؤنا، كبرياء موزون مقفى. ص 47 تستمر هذه الازدواجية حتى بعد لقائه الأصحاب في المكان الآخر، إذ يتعرف لديهم على بعض عالمه الداخلي: "جلوس" والود هو الود. من خمسة عشر قرنًا والدفء هو الدفء. ص 47 بينما يبقى الخارج ما حوله نواحي رثت معالمها كما سحن الناس - ص 148. تغير المكان غير أن الزمان نفسه، والإنسان في هذا الزمان غريب، غريب عن نفسه، في عالم الغربة كما بين الأهل. عتبة أولى. 1. 1. 2 المكان والزمان الآخران: التوحد والأنوثة عتبة أخرى يطؤها عند دخوله فاس، ذلك القلب الحافظ، مستودع السر، فباب بوجلود يقوم يقينًا دون عالم فذ - ص 48. هنا يبدأ حجه الفعلي. وللحج شروطه: لا يكون إلا بالانخراط شخصيًا وفرديًا في المغامرة الروحية، ولذا ينفصل عن أصحابه ويتركهم متجهمين، دعوني وحدي، خلوا بيني وبين مدينتي - ص 48. وللحج مراسيمه، يبدأ بكرة وها هو ينطلق من رائعة النهار - ص 48، يقتضى مؤونة وها الساقي يتقدم بأكواب تتدلى مصطفقة تروي عطشه كما على بئر زمزم، يلزمه دليل عليم بمكة وشعابها وها زبيدة، امرأة فذة بين النساء فصيحة الشهوة بليغة التشوق، تتقدم نحوه فيتخذها دليلاً ومطوفًا - ص 49. ولكن موسم الحج هذا موسم ولا كل المواسم، فالولوج في جسد المدينة، هذا المكان - الزمان المقدس، لا يتم إلا عن طريق المرأة أي باكتشاف الأنثى، على منحى جدلي، تتفاعل فيه المرأة والمدينة وتنعكس الواحدة منهما على الأخرى لتنعكسا معًا في قرارة نفس الراوي. يباشر الحج برفقة زبيدة فيكتشف حقيقته وتتوحد عوالمه: من ارتطام ليونتها على صلابة عودي يتنزل على قلبي وحي علوي يلهمني البصر والبصيرة - ص 49 العالم الجديد آيته الأثنى: تتوحد الذكورة والأنوثة فيه: تشرق الأنثى في داخلي - ص 49 فيرى المدينة أنثى رائعة مكتملة، أمًا وزوجة. ويتوحد إذاك الماضي والحاضر. يتوحد عالمه مع عالم المدينة، فكلاهما حافظ ذكور - ص 49، فإذا العالم الخارجي تناسق، كما هي الحال في داخله. المعمار متناسق وجسد المدينة متفرع بانتظام، والحياة أليفة لا تزاحم ولا لهوجة - ص 49، والأجساد مطمئنة في جدها الهين في سبيل الرزق، والقلوب عاشقة بدون نزق. ملكات الإنسان كعالمه مؤتلفة رائقة: فاس، يا وطن الروح والعقل والقلب - ص 49. هذا المكان -الزمان الآخر المفعم بالتناسق، عنوانه الأنثى. 1. 1. 3 مركزية الجسد إلا أن الحج لا يكتمل إلا ببلوغ بؤرة هذا المكان - الزمان الآخر: ضريح مولاي إدريس، مؤسس فاس. والأنثى هي الدليل إليه: قالت لي: ألا تزور ضريح مولاي إدريس؟ - ص 50. غير أن الطريق إليه يمر عبر بائع الكتب - ص 50. لا بد قبل الوصول إلى الرمز الديني الذي يحيل إلى البداية من تمثل مجمل الثقافة التي أنتجها. وبائع الكتب هذا يمثلها؛ فخبرته بالحياة تضمنها وسامة السن، وشمولية ثقافته يشير إليها تجوله في المدن العربية الكبرى، وإلمامه بكافة فروع المعرفة يشهد عليه تنوع كتبه. على يدي هذا الشيخ يتدرب الراوي على فن القراءة فيختار من بين كتبه رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه[8]. إنه يقينًا كتاب الجسد بلا منازع ورمز الثقافة الجنسية الأشهر في العصر الحديث، غير أنه يتخذ في هذا السياق بعدًا ثقافيًا محضًا. فكأن الثقافة، عبر هذا الشيخ العالم الجليل، تهب ثقافة الجسد، بكل إيروسيتها، شرعية لا نزاع فيها. فيتحدد إذاك البعد الآخر للعلاقة بين الراوي وزبيدة، أي البعد الجسدي. يريان ما يشبه صورتهما على الغلاف. وعلى الغلاف رسم جارية تشبه زبيدة ورسم كهل يشبهني – ص 51 فيتواعدان لأول مرة بلقاء حميمي: وهمست زبيدة في أذني: إني لك – ص 51. غير أن شرعية الجسد التي اكتسبت ضمانة الثقافة، لا تزال تفتقر إلى ضمانة أخرى أساسية، ضمانة الدين. وها مولاي إدريس يمنحهما إياها. فيخرج من ضريحه ويتراءى لهما بكل ألقابه أمير المؤمنين إدريس الثاني بن إدريس الأول... - ص 51، في أكمل أبهته كما بدا يوم تدشين المدينة ومسجدها، مبتسمًا لهما فيما هما يتواعدان بالوصال: ابتهل إلى زبيدة "إنني أخاف الموت!"، التصقت بي وقالت والهة "لا تخف، سأخفيك بين فخذي، في أكثر قيعاني سخونة وبلولة، هناك لن يدركك الموت"، رفعت بصري إلى أمير المؤمنين. وسيم رحيم. زعقت أجيبه فرحان: آمين ! - ص 51 المكان – الزمان، الأول بركنيه الديني والثقافي يشرّعان لثقافة الجسد. 1. 2 الدخول في البؤرة 1. 2. 1 عبور المرأة هنا يتخذ النص منحى آخر. انطلاقًا من هذا المكان -الزمان الأصلي، فاس، ومن بؤرته بالذات، ضريح مولاي أدريس، يغور البطل ودليله نحو المكان -الزمان الأسطوري المؤسس للحضارة العربية الإسلامية. لكنهما لا يقومان بذلك عينيًا، بشخصيهما، وإلا اختلت قواعد السرد التي تبناها الراوي، بل بالوكالة، بواسطة وكيلين عنهما، هما زبيدة وكمال بطلي كتاب رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه وقد تعرفا فيهما على صنويهما. فيبدأ نص آخر متضمِّن يحكي عن كمال الثاني وزبيدة الثانية (ولنسمهما كمال المرأة وزبيدة المرأة) وعن عشقهما الفذ، وما هما إلا صورتان عن البطلين الأولين، فكأن كمالاً الأول وزبيدة الأولى اخترقا، بهذه الطريقة المرآة لكي يبلغا العالم الآخر، عالم الأصول والحقيقة الأولى. واقتضى ذلك منطقيًا أن ينتقل السرد من ضمير المتكلم إلى ضمير غائب يتبنى وجهة نظر الراوي العليم. ولهذا الانتقال مبرراته ومغزاه: النص يتخذ منحى أسطوريًا ولا يعقل أن تروى الأسطورة بضمير المتكلم: أيمكن لبرومثيوس أو عوليس أو أنكيدو أن يكتبوا مذكراتهم؟ وهكذا، من وراء المرآة ومن خلال لعبة الأسماء وضمير السارد، يتابع كمال وزبيدة حجهما إلى البدء الذي ما قبله بدء حيث تأسست العلاقة البكر بالجسد واكتسبت شرعيتها المطلقة. فيحكي النص المتضمن عن مسار كل من البطلين على حدة قبل أن يلتقي المساران في ذروة من التوتر. 1. 2. 2 سيرة كمال كمال هذا، مؤلف الكتاب، متجذر في التاريخ، إذ إن له ترجمة كاملة في كتب المؤرخين يلمح إليها النص بوضوح، غير أنه وجه فذ يكتسب هنا من البدء ملامح النبوة، أو أقله ملامح الولاية. فكما يجري للأنبياء عادة، تزف ولادته مسبقًا للناس، فيبشر بها أبوه (واسمه أيضًا كمال، كما أن أمه تدعى زبيدة، لئلا تنقطع السلسلة)، في الحلم، ثم يتيتم ولما يتجاوز العام، ثم يعيش حياة متميزة. وإلى ذلك، يبقى "أميًا" أسوة بنبي الإسلام، إلى أن تسنى له أن يكتسب العلم وحيًا. وترتبط سمات النبوة بالأنوثة والجسد. لم يتأدب في الكتّاب بل في "الحريم حيث تعمل أمه "بلانة". مقاصير الجواري كانت له أفضل مؤدب، لم تعلمه القراءة والكتابة بل وهبته من العلم ما لم ينطو عليه قلب بشر أبدًا - ص 52، وهبته العلم بالمرأة. من خلال جسدها، يتعرف على عواطفها وأحاسيسها ودنياها، فتملأ الأنوثة عالمه بحيث أنه تمثل الأنوثة وتبطنها لتصبح مع الرجولة عنصره الآخر. أُلبس ثياب الجواري ليبقى في الحريم. عاش الأنوثة من الداخل، كما تحياها أية امرأة، وفي نفس الآن مارس ذكورته، لا شأن سيد يريد حريمًا بل غواص يريد قرارًا -ص 59. تكتمل ذكورته من خلال أنوثته، فتصبح: ذكورة وسيمة، ناعمة، ملفوفة في الحرير، مكحولة ]...[ تمتع ولا تذل، تدعر ولا تدنأ، تقحب ولا تسفل، تنفذ ولا توجع، تطلق أنوثة الأنثى محبورة، مزدهية بنفسها - ص 59. رجولة مثالية متناغمبة مع الأنوثة المحض. بالرغم من غرابتها، بل بسبب غرابتها، تتناغم هذه التجربة مع الموقف الديني. فكمال يحياها كمن يتعلم القرآن: هذه دنيا كمال، وقد عرفها كما يعرف الحافظ قرآنه؛ يرتل آياته ريعتبر عبره ويعقل حكمه – ص 58. وعلى كل حال فإنه يخوض هذه التجربة بفضل اصطفاء إلهي: وهكذا فإن كمالاً اصطفاه الله وعلمه وأفهمه وهيأه لمهمة هو مقدرها لتتم إرادته في ملكه – ص 60. 1. 2. 3 سيرة زبيدة كمال آية بين الرجال، وكذلك زبيدة بين النساء. مكتملة الأنوثة، تتسم بأجمل مزايا المرأة الجسدية والعاطفية، ناهيك عن السلوكية التي تتجلى في تدبير المنزل ورعاية مجالس الأنس، بحيث أصبحت دارها عش قلب صاحبها - ص 61، إلا أنها تقرن بهذه المزايا قدرًا من العلم قلما تبلغه النساء، يقربها من مرتبة الذكورة. تتقن علوم اللغة والغناء والعزف، وتتجاوزها إلى علوم الدين والمنطق والأدب والأخبار. إنها صنو لكمال، يتكاملان كل بالآخر، ولكن على نحو طريف: تزيد أنوثته من أنوثتها فيعلمها كيف تتألق جسديًا، وتضيف ذكورتها إلى ذكورته فتعلمه ما يكون عادة وقفًا على الرجال: القراءة. هذا العلم الجديد الذي يقتبسه منها يجعله يولد من جديد فإذا به كآدم يسمي الأشياء من حوله لأول مرة: نظر كمال في الأشياء من حوله فسماها بأسمائها، ثم إنه عدّها ثم نسقها أنساقًا ... إذاك أدرك كمال جوهر روحه وعرف الكبرياء الحق - ص 63. علاقة كمال بزبيدة علاقة الند بنده، لا عبد ولا سيد، أو بالتناوب عبد وسيد، يتمثلان ما يميزهما وينجزان ملء التكامل بينهما، فلا ملء إلا بالجسد ومن خلال الجسد. ذلك ما يضطلع كمال بالتبشير به، رسالة إلهية: يا كمال، إنك عرفت الحب وعرفت القراءة، وهذان هما العدة لكل مهمة جليلة فاخرج إلى الناس وتحدث عن لواعج الشوق - ص 64. 1. 2. 4 أصل الكتاب أو السجل الإلهي تبدأ مرحلة الدعوة، ويخرج كمال حاملاً رسالته إلى قوم يعيشون حياة سعيدة متناغمة، يجمعون فيها ما بين الرغبة والضرورة، يقرنون الجد باللهو والسعي اليومي بالابتكار، متجاوزين كافة التناقضات والقيود المصطنعة" قلب كمال منذور لهؤلاء الناس، لأمة متاجرة، صانعة، محاربة وشاعرة وعاشقة، تعز عنقاء سرها عن القنص والمطاردة – ص 65 وتكتسب هذه الرسالة شرعية دينية مطلقة بفضل حلم يراه فيما يرى النائم ينقله إلى الجنة، إلى قدام العرش عبر السماوات السبع - ص 64. فتستقبله حورية "لو أن الله استغنى عن خلق السموات والأرض بخلقها لكان ذلك شاهدًا على ربوبيته – ص 65، تعرّف من ملامحها على زبيدة. أهي الأم؟ أهي الزوجة؟ سؤال نافل. فالذكورة والأنوثة هنا، في عالم الفردوس، مصفيان من كل علاقة نسب أو سلالة أو ثقافة. الوصال الحق هو وصال الجسد، وبه تتحقق كل علاقة روحية. ووصال كمال بزبيدته هو النموذج المطلق لكل علاقة. إذ أن الحكمة الإلهية تتجلى في العلاقة الجنسية المكتملة. مشيئة الله في اكتمال الجسد: عند ذلك تكون حكمة الله في خلقه،التي أراد أن يكون شقاها الذكورة والأنوثة والتي أراد لها أن يكون العشق متاعًا فردوسيًا في جنة الله" - ص 65. بذا تكتسب رسالة كمال شرعية إلهية، فإذا به بني تناط به مهمة التبليغ بهذا المبدأ التأسيسي، وفق الإرادة الإلهية: "هل قُدّر لكمال أن يكون نبي هذه اللحظة وكاهنها في أمة عهد الله لها بحكمته؟ - ص 66. ويؤدي مهمته تلك بتدوين ما كشف له في كتاب هو الكتاب، يعلن للملء أن: الذكورة والأنوثة هما شقا الحقيقة الإنسانية واجتماعهما الباه الذي هو معنى المعاني وحقيقة الحقائق – ص 67. فكتابه هذا صورة عن السجل الإلهي. يعود كمال إلى زبيدة بعد رحلته السماوية ليسلمها الكتاب، ولكن بعد أن ينفذ كافة رسومه في علاقة حميمة معها، يكون كلاهما فيها العبد والسيد، ويجيب فيها على أسئلة أنوثتها بلا بقية – ص 66. تتم زبيدة قراءة الكتاب الواقع في واحد وثلاثين بابًا وتقدمة وخاتمة – ص 67[9]، بأقل مما لزمه من الوقت لكتابته. فكانت أولى المؤمنات به: سيدي، ألا إنك بلغت وقلت في أمر الشوق كلمة فصلاً لا ضلال بعدها أبدًا - ص 67. 1. 3. الهبوط إلى الـ(هنا والآن) ثم يبدأ الهبوط، على مرحلتين، في أولاهما يخرج البطل من المرأة ليستعيد مكانه وزمانه في فاس، وفي ثانيتهما يعود إلى مدينته، إلى عالمه الواقعي. 1. 3. 1 العودة إلى الأعتاب يخرج البطل من المرأة ويبدأ بالهبوط نحو الزمان والمكان الحقيقيين، ولكن بشيء من المداورة. فمن جهة يستعيد السرد بصيغة المتكلم ليؤكد خروجه من عالم الأصول، صوب النقطة التي انطلق منها، فاس. لكنه، من جهة أخرى، يعيش وهو في فاس نوعًا من حلم اليقظة، يجعله يلتقي زوجته الحقيقية، زبيدته الأولى التي خلفها في مدينته مع طفليهما: سبقني الشوق إلى زبيدة وأنا بعد في فاس – ص 74. 1. 3. 1. 1 أسطرة التاريخ الراوي في فاس بالجسد ولكنه في مدينته بالرؤيا. يقابل فيها زبيدته الأولى التي لم تحج إلى المناسك - ص 68 ولكن صورتها تمتزج بصورة زبيدة الثانية الشبيهة بصورة الجارية التي على الغلاف. صورة مزجية تتيح له أن يستعيد قصته الحقيقية معها، ومن خلال ذلك، التاريخ الفاصل ما بين فترة الأصول الذي تمثله فاس والفترة الراهنة، ليقرأه على ضوء معطيات الكتاب وصورة الماضي المجيد. وهكذا يتمكن من قراءة هذا التاريخ قراءة أسطورية[10] مطابقة للأصول، ويكون مبدأ الجسد النموذجي محور هذه القراءة الأسطورية. تسأله زبيدة بشيء من السذاجة، وهي ترى بين يديه كتاب رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه، إن كان الكتاب يروي قصتهما هل يقول الكتاب عنا؟ - ص 68. والواقع أنها إن لم تكن هي فهي تمت إليها بصلة وثيقة. فدهشتهما المتبادلة أمام سر الجسد في صورتها البكر وفي براءتها الأولى: رأيت فرحتها في وسامة وجهها وفي نضارة لا يستطيع أن يخفيها قميصها: كل هذا لي وأنا صاحبه؟ - ص 68 تحيل إلى البداية، إلى كل بداية، كما أن رواية حياتهما وسيرة سلالتهما يتوازيان إلى حد كبير مع ما يخبره الكتاب عن حياة كمال وزبيدة الأولين. فقد تعارفا طفلين وتحابا حدثين: قلت في نفسي: هذه هيو وهي لي وأنا الحويط. أنا قاعد لها حتى يطيب قطافها فلا تسقط إلا في حجري - ص 68. ونما عشقهما مع نمو الجسد والرغبة. ثم تم وصالهما الجسدي، على فورانه، وفقا لما يقره الشرع تحت نظر الرسول ذلك الأب الكبير ("يا سعدي! النبي فرحان بزواجي") ووفقًا لما رسمه: يوم كتب كتابنا ...،المأذون حمد الله وأثنى عليه وروى عن رسول الله أنه قال: تناكحوا، تناسلوا، فإنني مباه بكم الأمم يوم القيامة - ص 73. ويشير كل شيء في وصالهما إلى تلك الفرحة العارمة التي يشي بها الكتاب: يا زبيدة، منديلك منديل الدخلة ببقعته الحمراء عمامتي - ص 73، يقول فتجيبه: أريد أن أدفن حسني في ديموتك، أريد أن أموت فيك، مثل حدوتة تسمعها وتشتاق إلى سماعها من جديد ص- 69. ومما يضيف إلى أسطرة هذا اللقاء أن زبيدة تمثل الأنوثة المحض مع أنها متحدرة من سلالة كلها فجاجة: رجال خشنون ونساء كالبقر ...كيف حفظت هذا الحسن الأصداف الخشنة؟ - ص 69. لم يكن من ذلك بد، حسب ما يقتضيه الاحتفاء بالجسد. وتمتد الأسطرة إلى تاريخ العائلة. فمن جهة تحمل هذه السلالة سمات المكان الأول، مكان الأصول، إذ إنها تأتي من الشرق، مسقط الوحي ومنشأ الثقافة التي أنتجها جدنا الكبير جاء من الشرق على ناقة سمراء، وخلفه النساء والعيال – ص 70 والوطن الرمزي لكمال، صاحب الكتاب، ولزبيدته. ومن جهة أخرى، يتخذ البعد الإيروسي، في مواصفاته النموذجية، صفة أسطورية، فيبدو وكأنه الطاقة الوحيدة التي أتاحت لهذه العائلة التغلب على الفناء في ظروف شديدة الصعوبة، يضيف فيها قهر الحكام عمال الملتزم - ص 72 إلى شظف العيش البوار والتوحش في الفلاة ]...[ الآفة وندرة الماء وتقلب الأنواء - ص 71 مرارة على مرارة: يعود الجد من عمل اليوم محطمًا تعبًا، مخبوطًا فزعًا. تأخذه امرأته إليها ]...[ ثرة الثديين، لينة البطن، ناعمة الفخدين، تحيط به ]...[ تغلق عليه ظلمتها المبلولة، تحلب لبنها في عينيه، وريقها في جراحه وسوائلها في قروح روحه ]...[ تصل الماضي بالحاضر فيه. في الليل يسمع شوقه وحنانها زعيقًا ترتج لها الفلاة. فإذا ما كان الصبح كان الجد قد تعزى. يخرج إلى النهار مرهقًا حبورًا، مشرقًا أملاً وممتلئًا رغبة في الفعل. - ص 71. الطاقة الأولى التي كونت كمال المرأة تفعل فعلها في كمال الراوي. 1. 3. 1. 2 نهاية الحج، مهر التراث هذه الرؤية للأصول وذلك التصور الميثولوجي للتاريخ الشخصي الجماعي انطلاقًا من مركزية الجسد وقدسيته يجدان في نهاية المطاف تتويجًا يهبها قدسية كمهر لا ينمحي. يجتمع بالأصدقاء، وقد ززفت ساعة الرحيل، جنب المنبر، قبالة المحراب – ص 47 في جامع القرويين، حيث بدأ حجه الحقيقي برؤية مولاي إدريس على نفس المنبر. فتتراءى له فاطمة بنت محمد الفهري، محاطة بالأعيان ورموز السلطة الروحية والسياسية، وخلفهم كافة فعاليات المجتمع من تجار وصناع وعلماء. مشهد يقابله المشهد الأول الذي تم أمام ضريح مولاي إدريس. يقابله ويكمله بإضافة الشق الآخر من الإنسانية: الأنوثة. فمن يحتل البؤرة هنا ليس الرجل (مولاي إدريس) بل المرأة (فاطمة) هي التي تقوم مقام حجر الزاوية في هذا الصرح الرمزي والاجتماعي. بذا تكتمل الذكورة بالأنوثة ليس فقط على مستوى العلاقة الفردية الحميمة بل كذلك على المستوى الرمزي العام: فالذكورة والأنوثة في اجتماعهما، في باههما، يمثلان معنى المعاني وحقيقة الحقائق. - ص 67. ليس من المستغرب والحالة هذه أن يرى الراوي، في نهاية حجه، أن الجنة ليست بهذا البعد عن هذه الدنيا الفانية، بما أنهما يقومان على نفس المبدأ، مركزية الجسد وقدسيته. ولعل هذا ما ذهب إليه الراوي حين ختم قوله مؤمنًا على من أعلن: إنني أرجع وأنا أقل ما أكون خوفًا من الموت –ص 75. 1. 3. 2 السقوط في الواقع والمشروع الإصلاحي يعود كمال إلى عالم الواقع، عالم الترح، ولكنه ترح مسكون بالفرح الآتي من القدم ليرسم معالم المستقبل. "في الحزن"، ذلك عنوان هذا المقطع، حزن يجتاحه منذ ركوبه الطائرة. يتأتى هذا الحزن من نظام آلي يحكم الأشياء جميعها - ص 76، يجعل من التواصل بين الناس أمرًا شاقًا بل مستحيلاً. أوامر تأتي من مكان خفي وعن طريق حروف لوح حبرها الضوء الأحمر لا يتحصل من مطالعتها علم بشيء - ص 75، كلام من لا موقع وبغير دلالة. وينضاف إلى هذا النظام الآلي نسقية في التصرف ليست من طبع الإنسان: مضيفات في طراز واحد كأنهن مستنسخات، يرددن لكل المسافرين نفس العبارات ويقدمن لهم نفس الوجبات. استشراء الآلة في العلاقات الإنسانية بحيث تصبح الابتسامة تكشيرة تزيد الرعب رعبًا. وإن صدر صوت إنساني فمن ثقوب في السقف تحيله صوتًا معدنيًا - ص 77. فلا عجب أن يصبح الراوي فريسة للهواجس بلا خلاص، عاجزًا عن كل فعل. أما النظام الاجتماعي فصورة عن هذا النظام الآلي. وسطاؤه وكلاء وعمال وبصاصون وساعون بالوشاية - ص 78 يتهامسون فيما بينهم ويتلقون أوامرهم من مركز غيبي فيلقونها على رؤوس الناس دون أن يقووا على أي تواصل كلامي معهم، فكل إنسان متهم بمجرد أنه كائن. أولياء الأمر فيه فجار يخربون المؤسسات ويعطلون المصالح - ص 81، همهم فرض نظام هو في واقعه خيانة للحقيقة - ص 80، والبرهان الدامغ على ذلك أنهم ضد الكتب (إذ إنها تتلف الدماغ - ص 81) مع أنهم قوامون على أمة خرجت من دفتي كتاب - ص 81، ومن بين هذه الكتب كتاب رجوع الشيخ الذي لا يحسنون قراءته. فلا عجب بعد ذلك أن يحرم الإنسان نعمة القدرة على الحب والقدرة على القراءة - ص 81. ولا غرابة في أن يضيع الدين وتضمحل الثقافة وتعوج الألسن وترثّ المدن ويسفّ المجتمع ويحل الظاهر المصطنع محل الأصيل الحقيقي مساجدنا زلزلت جدارنها مكبرات الصوت الكهربائية فضاع الورع والجلال والترتيل – ص 80 ويهاجر الصالحون. غير أن هذا الواقع الترح يسكنه مثال العالم الميثولوجي المنبعث من الأصول، من جذور أولى لا تزال حية على خفائها. فالهوية لا تزال عبر العصور وبالرغم من كافة العقبات متصلة الحلقات بدون انقطاع، تدل عليها استمرارية الاسم ما بين كمال وزبيدة، واستمرارية السلسلة العائلية بقواها الحية وإن كانت مضمرة: أصدق بك كما صدقت الجدة الكبرى بالجد الكبير وهكذا بقينا. - ص 82. تقول لكمال العائد من حجه زوجته الحقيقية زبيدة وطفلاها متعلقان بها. فالنموذج الرمزي المؤسس، المتمثل في الكتاب، لا يزال محفوظًا في القلب، حتى دون وعي. ولذلك تدرك زبيدة أن كمالا، حين يدثها من كتابه المصادر، إنما يعني كتاب رجوع الشيخ. كما أن الكتاب، مع أنه صودر، لا يزال بعد هناك ولا يزال - تضيف زبيدة – شوقك للقراءة وشوقي إليك، ومازال في العمر بقية - ص 82. وبسبب هذا اليقين باستمرارية الهوية والكتاب، يتجاوز كمال خوفه من الواقع ليؤكد سطور كبريائه، موزونًا مقفى، وإيمانه بنفسه، ذلك الإيمان الذي قرأه بكل وضوح، حين قصد الحج إلى فاس كمن يأخذ الكتابة إلى النور ليقرأها – ص 80. صحيح أن كمالا بعد عودته رأى من جديد في عيني طفليه نفس الرثاء الذي لمحه قبل مغادرته، ولكنه اكتسب الأن بعدًا آخر غيّر معالم حياته: إنه أدرك حقيقته الضاربة في الأعماق، التي حاولت حداثة متهافتة أن تغيبها باسم قيمنا ومثلنا العليا - ص 80، حقيقة مرتبطة برؤية أخرى للجسد. وهذه الحقيقة هي التي تؤسس لمشروعه الإصلاحي الجديد. 2 - سلطة النص أو المستوى التأسيسي الثاني يتضح مما سبق أن هذا العمل الأدبي ينضح بإحالات دينية وتراثية يؤسس عليها شرعيته. إلا أن ثمة مستوى تأسيسيًا آخر أكثر أهمية وأشد وقعًا، نتقصاه في توظيف هذا العمل لنصوص دينية وأدبية ذات سلطة معنوية بالغة، من خلال تناص متعدد الأشكال يشع في جوانب القصة بأكملها. فإن صح أن ما يسمى "الشكل" إنما هو جزء من المضمون، كما تذهب إليه بحق الدراسات الأدبية الحديثة، فإن هذه المقولة تجد في هذا النص خير تطبيق. إذ إن المنحى الأسلوبي المهيمن، بما فيه المعجم، يقول الفكرة بطريقته. فالدال الأسلوبي دال ومدلول في آن. يتبنى النص بنية المعراج بحثًا عن شرعية دينية، وبنية النص التراثي سعيًا وراء شرعية أدبية تكمل الأولى، فيتجلى معنى "الكتاب" شكلاً ومضمونًا، دالاً، ومدلولاً. 2. 1 التناص النوعي، أو الإسراء والمعراج يستغرب القارئ لأول وهلة في بعض الأحداث مسارها العجائبي وفي بعضها الآخر تفاصيل تبدو استطرادات نافلة، ولكنها حين تنضاف إلى بعضها تصبح إشارات واضحة إلى نص أول تتماثل أحداثه مع أحداث هذه القصة، أعني قصة الإسراء والمعراج التي تناقلها الأدب الشعبي منذ قرون[11]. والتماثل لا يعني التطابق الكلي، فهناك أحداث كثيرة تختص بنص دون آخر، ولو أتى التماثل تطابقا لناء النص بالتقاليد وخرج عن كونه إبداعًا يستحق الاعتبار. نستعرض هنا عناصر التماثل بالرجوع إلى الحلم الوهاج والحديث الهياج بمعجزة الإسراء والمعراج[12]. يندرج هذا التماثل في ما يسميه جيرار جينيمت، في كتابه Palimpseste[13]، التناص النوعي architextualité، بمعنى أنه إذا اعتبرنا أن المعراج نوع أدبي قائم بذاته، يتميز مثلاً عن القصص الغرائبي وعن أدب الرحلة، فإن رجوع الشيخ، إذ يتخذه نموذجًا لبنية أحداثه، يندرج في نوعه الأدبي العام وإن اختلفت الشخصيات والرموز وحتى الأسلوب، ناهيك عن تفاصيل أخرى كثيرة. 2. 1. 1 الإسراء ذهابًا تتجلى في هذا النص ملامح الإسراء في طريقة الانتقال المكاني كما في طبيعة المنطلق (مكان الانطلاق) والمآل (مكان الوصول). يبدأ الراوي حجه بانتقال سريع من مدينته إلى فاس، على متن طائرة يذكر بانتقال الرسول بصحبة جبريل من مكة إلى بيت المقدس، على ظهر البراق انتقالاً آنيًا. وفي كلا الحالتين يتشابه المنطلق والمآل، فيتسم الأول، مدينة الراوي ومكة، بالحزن والعداء، فيما يتصف الثاني، فاس وبيت المقدس، بالقداسة والفرح. وتجدر الإشارة إلى أن مآل رجوع الشيخ، وهو فاس، يحيل إلى الأصول العربية الإسلامية الأولى، بينما يحيل مآل المرجع التناصي، المعراج، إلى الأصل الإبراهيمي الأول، رمز التوحيد كما يتجلى في اليهودية والمسيحية. كما أن المسارين يتشابهان في بعض التفاصيل. في فاس، يلقى الراوي جماعة (الأصحاب وزبيدة) وكتابًا (هو كتاب رجوع الشيخ)، كما يلقى الرسول في طريقه أكبر نبيين مؤسسين (موسى في وادي العقيق وعيسى في بيت لحم)، قبل أن يشهد رمزيًا الكتاب، توارة وإنجيلا، بين المؤتمنين عليه من يهود ومسيحيين، نزّال بيت المقدس. وكما أن الرسول يتوجه إلى هيكل بيت المقدس حيث يلتقي بكبار الأنبياء، آدم ونوح وإبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى، كذلك يقصد الراوي أولاً ضريح مولاي إدريس في المدينة القديمة حيث يتجلى له أمير المؤمنين، إدريس الأول بن إدريس الثاني بن ... بن علي بن أبي طالب، في ذروة جلاله وهو على المنبر يدشن مدينة فاس التي شاءها، وفيها يعبد الله ويتلى كتابه وتقام حدوده وشرائع دينه وسنة نبيه – ص 52، غير أنه يلقى بالوكالة النبي نفسه. غير أن ما يميز ما بين الرحلتين هو الرفيق. فالرسول يرافقه إلى الهيكل جبريل، بينما ترافق الراوي إلى الضريح، بعد أن ينفصل عن صحبه، زبيدة. وفي هذا الاختلاف إشارة إلى ما تقصد إليه القصة أصلاً، تكامل الذكورة والأنوثة حيث يقوم معنى المعاني - ص 67. 2. 1. 2 المعراج صعودًا من بؤرة الضريح يجتاز كمال المرآة ليلج عالم الأصول، عالم الحقيقة، متلبسًا صورة سميّه وصنوه كمال، مؤلف الكتاب. هناك يلقى جماعة الأصول كما هي، بتعدد وظائفها واتجاهاتها ومراتبها، وترافقه في رحلته هذه زبيدة المرآة (التي تتعدد أجيالها تعدد أجيال كمال). إنها الجماعة المثلى، وأكاد أقول، باستعمال مصطلح أفلاطوني، إنها جماعة عالم المثل. ورحلته تقابل رحلة الرسول عبر السماوات السبع ومعه جبريل، حيث يلتقي كافة رموز العالم الآخر الأصلية على اختلاف درجاتها ووظائفها، من عزرائيل ثم إسماعيل وزكريا (السماء الأولى) /رلى ملائكة ليلة القدر وداود وسليمان ويوسف (السماء الثانية)، فإلى إينوخ وألياس (السماء الثالثة)، ثم إلى هارون (السماء الرابعة) وموسى (السماء الخامسة) فإلى إبراهيم الخليل (السماء السادسة). وأخيرًا آدم المستند إلى بيت المعمورة، أورشليم السماوية (السماء السابعة) حيث يبلغ سدرة المنتهى. الرحلة في عالم المثل تقابل الرحلة في عالم السماوات السبع، وإن اختلفت الشخصيات فالمضمون والرمز واحد: العالم المثالي الحقيقي. 2. 1. 3 الرؤيا أو السماء الثامنة عند السماء السابعة يفترق الرسول عن جبريل ليستأنف طريقه صوب العرش (السماء الثامنة) حيث يملي الله عليه أحكام دينه. ويقابل ذلك في قصة ما رآه كمال المرأة في حلمه إذ صعد الملك بالروح (روح كمال) مخترقًا السماوات السبع إلى قدام العرش - ص 64. لم يتوقف عند السماوات الأولى - فلها ما يقابلها في ما يعيشه في عالم المرأة - بل بلغ مباشرة منتهى السماوات حيث ألقيت إليه أحكام الله في ما يتصل بالذكورة والأنوثة. اكتمل العلم وتأصل، عند أم الكتاب، اللوح المحفوظ. ومما يثير الانتباه أن كمالا هذا بلغ العرش وحده تاركا زبيدته (زبيدة المرأة) في عالمها، كما افترق الرسول عن جبريل. ومن باب الاختلاف ذي الدلالة أن الرسول يواجه العرش الله في وحدانيته (وإن كان هناك ميخائيل منشغلاً بوزن الماء) بينما لا يرى كمال قدام العرش إلا زبيدته السماوية ومعها يحيا كما ينبغي أحكام الله في الذكورة والأنوثة. كما أن هناك اختلافات أخرى اقتضاها منطق القصة، منها أن الحوريات حسب المعراج لا يقمن أمام العرش ولكن فى سماء أدنى، بينما حورية كمال قائمة فى السماء الثامنة. 2. 1. 4 المعراج هبوطًا يعود كمال أدراجه من معراجه على مرحلتين. في أولاها يلقى زبيدة المرأة ثم يصنف كتابه حيث يسمي الأشياء بأسمائها – ص 67 فتقرؤها زبيدة وتؤمّن عليه. وفي ثانيهما يهبط إلى غرفته في فاس حيث يلقى تلك الصورة المزجية من زبيدة الزوجة وزبيدة فاس، مما يتيح له أن يستعرض تاريخه الشخصي وتاريخ سلالته منذ أن جاء جدنا الكبير من الشرق على ناقة سمراء – ص 70 حتى ساعته الراهنة، ليؤكد أنها مطابقة للأصول ولما تلقاه من الأحكام السماوية رغم صروف الدهر. وهذا الشوط يقابل الشوط الذي قطعه النبي بعد أن غادر العرش. ومن اللافت أن النبي يجتاز من جديد السماوات السبع ومن بعدها جهنم حيث يرى ما أعد الله للأشرار. فهل في هذا المزيج من حياة النعيم والجحيم صورة لما يخبره الراوي من تاريغ السلالة الذي يتبطن فيه الشر الخير في كل لحظة ؟ ويتم الهبوط. فيلقى كمال أصحابه في جامع القرويين حيث تطلع عليه فاطمة بنت محمد الفهري، كما أن النبي يلقى جبريل ومجموعة الأنبياء في هيكل سليمان. 2. 1. 5 الإسراء إيابًا ويعود كمال إلى مدينته ممتطيًا الأثير، ملى متن طائرة، كما يقفل النبي عائدًا إلى مكة بسرعة البرق على ظهر البراق. وكما يواجه النبي عداء قريش بأسئلتهم التعجيزية عن صورة بيت المقدس وعن موضع قافلتهم إلى الشام في تلك اللحظة، كذلك يلقى كمال شديد العناء من أصحاب الحكم وأعوانه لدى هبوطه في المطار. والكتاب، يرفضه النظام القائم فيصادره لمخالفته الأحكام والأعراف تمامًا كما تشيح قريش بوجهها عنه لمعارضته قيمها التقليدية. وكأن رأس النظام في تلك المدينة، المتمثل بـالرؤساء الفجار – ص 81، صورة عن أبي جهل الذي يستثير قريشًا ضد النبي. كمال كما النبي يعود إلى عالم الترح والعناء. ونرى تماثلاً آخر في موقف النساء في كلا النصين. فالنبي يلقى أول من يلقى النساء: أم هانئ ثم عائشة وفاطمة، يؤمنّ برسالته ولكنهن يحاولن ثنيه عن مواجهة قريش فيما يبدين إعجابهن برباطة جأشه. وكذلك كمال تستقبله زوجته زبيدة وتؤمن بكتابه دون أن تقرأه ولكن في قولها ما يشبه العتاب والدعوة إلى الاحتراز مع تقديرها لتصميمه: آه يا حبيبي، ما أقواك في ذلك وهزيمتك! - ص 82. ويبقى على النبيين أن يواجها الناس برسالتهما، المتحققة يوما لا محالة. 2. 2 البنية الأدبية أو التناص التراثي إلا أن التناص المعراجي لا يستنفد كل أنواع التناص التي تعتمل هذا النص، إذ نجد مرجعًا تناصيًا آخر خارج الإطار الديني، هو التراث الأدبي، يوظفه العمل الأدبي الذي بين أيدينا بطريقتين: 2. 2. 1 التناص النوعي الثانوي أو كتب الباه بموزاة النوع الأدبي المعراجي، يلجأ الراوي إلى نوع أدبي آخر، يتمفصل على الأول ليكمل الصورة التي يسعى إليها، هو النوع الإيروسي الذي يمثل له كتاب رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه. والقصة التي نحن بصددها الآن تتبنى كثيرًا من مقوماته. أولها العنوان. فالعنوان الرئيسي يقتبس على نحو ناقص عنوانا للقصة: رجوع الشيخ ...، وعناوين بعض الأبواب (الباب الأول في ذكر مزاج الإحليل، الباب الثاني في ذكر مزاج الأنثى، الخ...) تستوحى لتسمية بعض المقاطع (في ذكر مدينة فاس، في الحزن). وثانيهما اسم المؤلف: "الفاضل المولى أحمد بن سلمان الشهير بابن كمال باشا" الذي يتحول إلى كمال، وهو إشارة إلى الجزء الأهم في التسمية، فضلاً عن معناه الاستعاري الواضح المحيل إلى مفهوم الكمال[14]. ويتصل باسم المؤلف طبيعة الراوي: فالراوي في كلا الحالين رجل، وبالتدقيق رجل علم وأدب. وثالثهما الشخصيتان الرئيستان: فالشيخ والجارية - أو كمال وزبيدة - يحيلان إلى الرجل والمرأة الذين يتحدث كتاب ابن كمال عن مغامرتهما في عدد من القصص، غالبًا ما يكون الرجل فيها كهلاً والمرأة جارية. وتجدر الإشارة إلى أن المرجع الثاني للتناص النوعي (كتاب ابن كمال) مكمل للمرجع الأول (كتاب الإسراء والمعراج) بمعنى أنه ثانوي بالنسبة إليه. يبقى الأول النموذج الأساسي الذي يهب الحدث أبعاده الكبرى من خلال ما يضفي عليه من سياق متميز يتصل بالماورائيات، بينما الثاني يرفده بالموضوع، علاقة الذكر والأنثى، إلا أن الموضوع بحد ذاته مبتذل عادي، وقد يسف إلى درجة الحيوانية في كثير من الأحيان. غير أن ما يجعل منه معيارًا أساسيًا، بل وتأسيسيًا، لرؤية جديدة للإنسان، إنما هو اندراجه في سياق المرجع الأول، وهنا تكمن عبقرية هذه القصة. 2. 2. 2 التناص مع المرجع التحتي غير أن هناك تناصًا من نوع آخر يدخل في ما يسميه جينيت hypertextualité، حيث يميز ما بين نص فوقي hypertexte هو النص الراهن، ونص آخر تحتي hypotexte يطفو على سطح النص الفوقي من خلال تعابير وإيحاءات ومفاهيم خاصة به. أو، بتعبير آخر، يقوم النص الراهن (الفوقي) باستمداد عناصر من النص السابق (التحتي) يغتني بها ويوظفها في مشروعه الخاص[15]. والحقيقة أن هذا النص التحتي متعدد، إنه نصوص وليس نصًا واحدًا، أو إنها أساليب نصية تجمعها بعض الخصائص المشتركة، مثل التسجيع والتماثل في بعض المقاطع، وشيء من الجناس والطباق في الكلمات، والإيجاز في بعض العبارات يقابله أحيانًا إطناب وتكرار يفيدان الإيقاع أو التأكيد؛ وتفرقها سمات ينفرد بها كل نص حسب نوعه الأدبي. ومن أهم هذه الأساليب النصية، تشير إلى: 1 - التراسل الذي تفتتح به القصة: أما بعد، فإننا عقدنا العزم على أن نسلم قلوبنا للمناسك المبرورة ]...[ فشد رحالك إلينا... - ص 45. 2 - الخطبة كما ترد مثلاً في خطبة مولاي إدريس: اللهم إنك تعلم ما اردت ؟ ؟ ؟ ؟ المدينة مباهاة ولا منافرة ولا سمعة ولا مكابرة. إنما أردت أن تعبد فيها، ويتلى كتابك، وتقام حدودك وشرائع دينك وسنة نبيك ما بقيت الدنيا - ص 52. وفي هذا النص من التشابه مع الخطبة التقليدية على المستويين المعجمي والأسلوبي ما يوحي للقارئ بأنها محض اقتباس[16]. وتكرار الخطبة في نهاية الحج في حديث الوداع. 3 - ترجمة الأعلام، كما ترد في تقديم ابن كمال: هو عالم الدهر وواحد العصر، بهجة الناظرين وترجمة حجة المناظرين، من فن التكلم كما شاء، الفاضل مولانا أحمد بن سلمان، المشهور بكمال. ولد لسبعة سنين خلون من شهر ]...[ كان الأب رجلاً ضئيلاً ]...[ وكانت الأم امرأة دقيقة - ص 52 و53[17]. ونجد الأسلوب نفسه في التعريف بمولاي إدريس. 4 - القص وهو كثير، نشير منه إلى المقطع الذي يخبر عن ابن كمال: وذات ليلة، نام الرجل على ذراع زوجته غرارًا، وهي جنبه يقظانة تتأمله وتتحسس بأناملها أسارير وجهه – ص 53. 5 - النص الصوفي الملاحظ في أسلوب السؤال والجواب بين المريد وشيخه، كما يبدو في الحوار ما بين الراوي وبائع الكتب: قلت له: سيدي، إن تجاسرت فاغفر لي، وإن جهلت فأوسع صدرك وقل لي ما بائع الكتب؟. قال: إنه عبد موكول بالأفئدة، إن قررت وإن تحيرت، يريد أن يكون بالكلم الهدى. قلت له: سيدي، نور الله قلبك، قل لي عن الكتب. قال: ياولدي، الكتب دنيا ليست الدنيا، ولا هي شبهها، بل هي المجاهدة في مذاكرة أسرارها ]...[ قلت له: ويا سيدي، أطل حبال صبرك وعلمني، ما القراءة؟. قال: ياولدي، القراءة أن تندهش عن الحال بما هو حال. إنك إذن تملك الوقت، وذلك هو الفضل. - ص 51.[18] 6 - التأريخ للأحداث الجارية، كما يبدو في المشهد الختامي في جامع القرويين: رأيت تطل فاطمة بنت متمد الفهري، وعلى يمينها الأمير يحيى بن إدريس، وعلى يمينه القاضي الكناني، وعلى يمينه السلطان مولاي سليمان. – ص 74. 7 - أسلوب الفقهاء والمفسرين، ويتردد في أماكن شتى، منها وصف زبيدة المرأة للكتابة: اقرأ، وهي من الكلمات المعجزات، اللواتي تحار في فهمهن العقول والألباب ]...[ الكاتبون موكولون بتحريرها على مثال موهوم غائب، وكلما ازدادت جودة المثل، ازدداد قربه من المثال في دأب لا ينتهي، حتى تجف الأقلام وتطوى الصحف. – ص 63. وكذلك قول زبيدة عن الجنة: وحاصل ذلك رد الخلق إلى لحظة واحدة، هي ميلاد جديد من رحم جديد. - ص 65. 8 - الإيقاع الشعري الذي تشير إليه تفعيلات البحر الطويل ومجزوء الرمل الذي يذكره الراوي وهو في الطائرة وكذلك بعض الجمل التي تأتي على تفعيلات بعينها. هذه الأساليب التناصية تضفي على عالم القصة شرعية أخرى تنضاف إلى الشرعية الدينية التي يمنحها المنحى المعراجي. ولكن الغريب في الأمر هو أن أسلوب كتب الباه لا يعتمد أساسًا للتناص في هذه القصة إلا ما أتى منه اقتباسًا صريحًا كما ورد في طلب زبيدة من الراوي أن يقرأ لها الباب السابع والعشرين في المحادثة والقبل والمزاح - ص 74[19]. ولهذا دلالته البالغة الأهمية إذ إن عالم القصة الفكري وسياقه الروحي بعيدان أشد البعد عن تصور هذه الكتب، وهنا تكمن فرادته، وذلك ما نتقصاه من خلال تحديد الانزياح الحاصل بينه وبين الترات. 3 الانزياح، أو الجسد بين التراث والحداثة يستند هذا العمل إذن إلى التراث، تصورًا وكتابة، ليتخذ منه شرعية وسلطة لا يملكها الكاتب من تلقاء نفسه. ولكن علينا أن نتساءل الآن: هل التراث يستغرق هذا العمل ويستنفذه ليبتلعه كليًا ويجعله صورة عنه أو نتاجًا ثانويًا من نتاجاته، أم أن هذا العمل تمكن من فرض شخصيته المتميزة جاعلاً من التراث مرتكزًا للانطلاق إلى آفاق جديدة لا محطًا ورحمًا يذوب فيه؟. وبتعبير آخر: هل هذا النص تمجيد للماضي أم توظيف له في انطلاقة مستقبلية تبتكر ولا تممتعيد؟ لا شك أن القارئ يحس أحيانًا بأن شحنة من الحنين، متأتية من مختلف الوسائل السردية التي يلجأ إليها الراوي، تحاول أن تأخذ بمجامعه وتلفه لترميه في ذلك الماضي المثالي المصفى من كل عيب. لا سيما وأن الراوي لا يشير إلى أي معطب من معاطب هذا الماضي، بل أنه يمر الهوينى على بعض من مثالبه - أقله إذا نظرنا إليها من وجهة نظر حديثة - ليس لها أي مبرر على الإطلاق في عصرنا، منها قضية الرق. ولا منازع في أنه كان باستطاعة الراوي أن يبتدع سبلاً أخرى تجنب القارئ الشعور بأنه يغض النظر عن هذه المثالب، وذلك، مثلاً، باتخاذه امرأة حرة، لا جارية، شريكة لكمال. ولكن بالرغم من هذا الإحساس، يبقى هذا النص بعيدًا عن السلفية. إنه استيطان للتراث لتوظيفه في مشروع تحديثي متميز، ليس لمقولات التراث أن تجاوزه. يوهم بالتراث لتوظيف سلطته في رؤية مستقبلية شخصية تقلب الواقع الراهن فيما هي تتجاوز التراث نفسه. ولعل الأسطرة التي أشرنا إليها سابقًا تصرح عن وظيفتها الحقيقية في هذا السياق. إذ لا يراودنا أن يكون الكاتب /الراوي من السذاجة بحيث إنه يتغاضى عن كل سلبيات التاريخ العربي الإسلامي ليبتسره إلى صورة مثالية مبسطة إلى هذا الحد. فهل يعقل مثلاً ألا يرى في حياة الحريم إلا هذا الرغد وهذا الصفاء في التعامل والحب، كأن الرق (أليمست زبيدة المرأة، على تعددها، جارية تهتم بالجواري؟) لا يعني شيئًا أو كأنه الدرجة المثلى في العلاقات بين البشر ولا سيما بين الرجال والنساء؟ وهل يصدق أن يكون عنف التاريخ ووحشيته على العامة يمحي كالسطر المكتوب في لقاء الرجل بالمرأة في سويعات الليل القصيرة؟ أو أن يكون كل زواج شرعي من النقاء والحب ما يفترضه الراوي في سلالته؟ فالأسطرة صورة لما يريد الراوي أن يعكسه على المستقبل، متجاوزًا كافة قيم الحاضر. فالمسافة التي تفصله طوعًا عن حاضره لها ما يقابلها ضمنيًا، في علاقته مع ماضيه، وذلك ما يتجلى في موقفه من الحب كما في موقفه من اللغة. 3. 1 الانفصال عن الماضي أو الحب الشخصاني فإذا كانت المسافة الشاسعة التي يضعها الراوي ما بينه وبين عصره متبدية في الصور السلبية المتكررة، التي يضيفها عليه، كما في الإيرونيا المتمثلة في المفارقة الساخرة التي يتناول بها وصف ما يجري له في الطائرة والمطار بنوع خاص[20] فإن مثل هذه المسافة نلحظها ضمنيًا ما بينه وبين التراث. شتان ما بين الحب في كتب الباه وبينه في رجوع الشيخ. فهو في الأول جسدي محض وإن تهذب وانصقل ليتمثل وجود الطرف الآخر إلى حد ما. فكتاب ابن كمال، المؤسس أصلاً على "الجماع" (والكلمة كثيرة الورود، على فقرها وابتسارها لهذا الفعل الإنساني)، إنما يعالج سياق هذا الفعل لإنجازه بكفاءة قصوى. فما ينصح به من "محادثة وقبل ومزاح" وغيره ما هو إلا وصفة من الوصفات، أو تقنية من التقنيات، التي لا بد منها لبلوغ ذروة اللذة الجسدية. إنه نوع من تحضير المادة أو الأداة التي يفترضها الجماع. أو بتعبير آخر، تبدو المرأة في هذه العملية أقرب إلى الأداة منها إلى شريك له كامل الحرية والمبادرة كإنسان يتعامل معه الرجل بندية. ولذا لا يقتضي هذا الفعل من الرجل أي عاطفية شخصية بالمعنى العميق، لا يقتضي إلا الرغبة أو الشبق بمعناه الغريزي الفج. وهذا أمر ينطبق على التصور التقليدي للعلاقة مع حوريات الجنة. إنهن يمثلن الكمال الجسدي والبكارة المطلقة، أي مطلق الجهوزية للجماع، ولا عجب من ذلك إذ إنهن مكافأة أعدها الله للصالحين من عباده (وليس للصالحات ما يشبهها). أما في رجوع الشيخ فالحب آخر. صحيح أنه يتمثل البعد الجسدي على أفضل وجه، ويتخذه ركيزة كل موقف إنساني حق، إلا أنه لا يصبح كذلك إلا لأنه يتضمن أبعاد أخرى، عاطفية وفكرية وحياتية، تجعل منه علاقة فذة متميزة بين رجل بعينه وامرأة بعينها. إنها علاقة ليست فردية وحسب بل شخصية، وحتى شخصانية. إنها لقاء شخصين ندين شريكين بكل معنى الكلمة ليس فقط في الفعل نفسه بل في المصير والصيرورة ذاتهما. فالمرأة هنا فرد له اسم، زبيدة، بعكس النساء والجواري اللواتي يرد ذكرهن في كتب الباه، واللواتي ينعتن أحيانًا برقمهن (فتقدمت الجارية التاسعة وقالت). فالاسم تحديد للمسمى (إن الأسماء تنزل من السماء، إذ إنه "علّم آدم الأسماء كلها"). ولها مع شريكها تواصل على كافة المستويات. تواصل نفسي أولاً، فهي تدرك ما يعتمل في داخله دون أن يفوه بكلمة. فزبيدة المرأة تشتبه من حركة يدي كمال على جسدها بسر يخفيه عنها: يا كمال، ما نعمت بحمامي كما نعمت به اليوم، أي سر سكت عنه لسانك وقالته لجلدي ولحمي يداك؟ - ص 66. أما زبيدة الزوجة فتعزي كمالها بالقول: هناك أضمك فأجد كتبك التي قرأت وتلك التي لم تقرأها بعد - ص 82. وعلى كل حال فهي وكمالها ربيبان، كبرا معا وتواشج قلباهما قبل تواشج العناق: حكت لي عن حينذاك، قالت: أحسست البلوغ في جسمي فتحيرت. وحين برز صدري فرقت، تلفت. وجدتك متربصًا تنظر إلي. ناديت جسمي أن يتفتح وينضو ليكون لك. – ص 68. وآية هذه العلاقة ما يربط كمال الجنة وزبيدتها: ما تكتمل المعاني في خاطر زبيدة حتى يحيط بها قلب كمال. - ص 65. ويكتمل التواصل النفسي بتواصل في الحياة اليومية والمصير الواحد، فهما يواجهان صعوبات الحياة معًا ويتقويان ببعضهما، ويجمعهما مشروع عائلي محدد، يبنيان ببعضهما أسرة يكرسان لها العمر. ويتوج بتواصل فكري. أفليس من الطريف في هذه القصة أن المرأة هي التي تعلم الرجل القراءة بعد أن تعذر ذلك على المؤدب؟ المرأة هنا مرتبطة بـ"اقرأ" تلك الكلمة الإلهية التي تعطي الإنسان أبعاده القصوى. تعلم الرجل القراءة فيأتيها بكتاب هو من عيون الكتب. فهل بعد هذا التواصل الفكري من مزيد؟. وهكذا تكتمل العلاقة بين الرجل والمرأة على ما شاءته زبيدة المرأة إذ قالت: يا كمال، إنني أريد أن أكون فيك، أن أكون لك العقل والقلب والعين واليد واللسان - ص 62. وزبيدة الجدة التي تمزق كمالها مفتشة فيه عما ينقص اكتمالها - ص 71. تكون مولاته أن يكون مولاها. الجسد مرتكز الحب وليس منتهاه، يتآخى مع العاطفة والفكر ليفجر الحب عوالم لا تنتهي. بسبب من ذلك كله، تتكشف هذه القصة عن قصيدة هي من أجمل قصائد الغزل، قديمها وحديثها. تنقي غزل امرئ القيس وأبي نواس من موقفه الفحولي، كما غزل نزار قباني من نرجسيته وبدائيته. تهب الغزل العذري بعده الجسدي وغزل عنترة وجرير قوامه الفكري. تكمل طوق الحمامة وتضيف إلى الغزل الصوفي بعدًا إنسانيًا لا يذوب في الألوهية. إنه غزل الإنسان بما هو إنسان مكتمل جسدًا وعاطفًة وفكرًا وروحًا، يذكر برومانسية نوفاليس وأنداده التي شاءت أن تؤسس موقفًا ثوريًا حداثيًا، تبهت أمامه كافة الحداثات التي يتشدق بها البعض عندنا. ونكتفي بهذا الحوار تدليلاً على ذلك: قالت: ماذا لدي من الحسن؟ قلت: تسعينني حتى ما تساورني خارجك رغبة. قالت: ولذلك أحببتني؟ قلت: إنني شغفت بك. قالت: وما شغفك؟ قلت: أترحل فيك. قالت: وراء الشوق؟ قلت: وراء العماء. قالت: وأنا النعمة لبطنك وصدرك ويديك وشفتيك؟ قلت: اشتبه علي الاثنان. قالت: أحببني لينفصل جوهري عن جوهرك. قلت: أنت عالم لا تتأجج له في الوجدان عاطفة واحدة. قالت: وما شأنك؟ قلت: أترحل فيك. - ص 72. واللافت هنا هو الدور الذي تضطلع به المرأة؛ ليست فقط شريكة للرجل، إنها العنصر الأساسي في تكوينه، أو كما يقول فريدريش شليغل ومعه نوفاليس، إنها طريق الإنسان إلى ذاته، وسيطته، بل شفيعته لدى ذاته، فهى التى تنشئه إنسانًا-رجلاً متكامل الصفات[21]. الحداثة بمعناها الشخصاني، في أجمل تجلياتها، تجرف كل ما يشوب الحنين من التباس؛ إذ ليس لمثلها مثيل في ذلك الماضي المجيد. إنها حداثة تجد في الأسلوب اللغوي رديفًا ولباسًا لها. 3. 2 الأسلوب اللغوي أو الكلاسيكية العصرية التناص الأسلوبي عنصر مهم من عناصر الكتابة هنا، كما سبق وبينا، إلا أنه يؤدي وظيفته ضمن استراتيجية محددة أشرنا إليها، يغني النص ولا يستفذه على الإطلاق. صحيح أن عدواه تسرى أحيانًا في بعض مقاطع النص التي خارج التناص، مما يتجلى أحيانًا في التعداد والتفصيل (تراكم الأسماء والنعوت بدون فائدة تذكر) فتتشابه هذه المقاطع مع المقاطع التناصية. غير أن هذه الظاهرة تبقى محصورة، ويبقى المجال مفسحًا لشخصية الراوي الأسلوبية لتتجلى بكل وضوح. وبالمقابل، تسري ملامح هذا الأسلوب إلى المقاطع التناصية فتخفف من حدتها وتاريخيتها، مما يتجلى في انتقاء المفردات وتبسيط العبارة. هذه الشخصية تتماهى مع الموقف الفكري العام الذي يسم النص؛ تمد جذورها في التراث، في تراث منتقى، مصفى، فتتحاشى الرطانات والعجمة التي لا يسلم منها بعض أدبائنا المعاصرين، وفي أن تتحرر منه، لتبدع أسلوبًا شخصيًا عصريًا يهز القلب والفكر بجماله، وهذا ما أصفه بالكلاسيكية العصرية[22]. لا مجال هنا للقيام بمسح شامل لأسلوب الكاتب /الراوي، ولذا أكتفي بالإشارة إلى بعض السمات الرئيسة. تتسم الجملة عادة بالسلاسة والانسياب، فتتجنب التراكيب المعقدة وتقل من حروف العطف والربط فيما هي تكثر من استعمال الحال (والنعت)، مفردًا وجملة، مما يذكر بمنحى كثيرًا ما يعتمده طه حسين في كتاباته السردية[23]، منها: إنني أنظر حولي فأجد أمتنا وقد خسرت أولادها وآخرتها وضيعت دينها. آراها انهمكت تطلي وجهها بالألوان، تعوج لسانها بالرطانات، تقمط نفسها بأنواع الثياب وتترقص في ألوان الأزياء ذاهلة عن نفسها مفتونة عن حقيقتها. - ص 80. من رائعة النهار ملأ قلبي رنين نحاس الساقي، أكوابه تتدلى مصطفقة من سلاسل تقسم صدره، بريق عينيه شرط وارد على ابتسام ثغره. - ص 48. هذه السحب حقولي، في أديمها تسرح السكك والمدقات. ومطيتي حمارتي، قلبي موصول بقلبها، تمشي، تصفق بحوافرها تراب السكة وأنا أهتز على إيقاع سيرها وأغني. - ص 47. وإن استعمل - في هذا السياق - العطف فلتفصيل وتحديد يأتي بدون عناء: واحكي لي كيف سخرت لنفسك الشمس والريح، فاستولدتهما الظل والنسائم، تطرين بها الأروقة والأزقة والزنقات، في نظام من الرقة والوسامة والقسامة والرصانة، مداره انقسام الكبير إلى أصغر منه وتفرع الفرع عن أصله، وانتشار العمار على المساحة في جلال لا يؤرقه تدافع ولا تزاحم ولا لهوجة. - ص 49. كما يتسم بنمط من الإيقاع يضفي على النص موسيقى يعذب وقعها على الأذن دون أن تصبح تكرارية. يتأتى ذلك أحيانًا من الميل إلى استعمال الجمل الاسمية، مستقلة أو في موقع حال أو صفة، تارة حسب ترتيبها الطبيعي (كما يبدو من المقاطع السابقة)، وطورًا متقدمة الخبر: كان جالسًا قدام جدار المسجد، عليه وسمة السن والمعرفة، وخلفه مصفوفة وقدامه مفروشة كتبه. – ص 50. كما يتأتى من اللجوء إلى التماثل في الجمل، يزينه أحيانًا سجع أو جناس غير متكلف، منها: أنا لا بد في حضنك، تسفي علينا الرياح رمالها وتعوي حولنا الصحراء وحوشها، بليت الجدران وما طمست نقوشها وتهرأت الصحائف وما امحت كتابتها. - ص 49. وهنت حتى غشي على البصر وكادت تطلس البصيرة. - ص 48. وإن كان الراوي يلجأ في بعض الأحيان إلى تفصيل لا يخلو من الإطناب، فإنه - وتلك سمة أسلوبية ثالثة - كثيرًا ما يحسن الإيجاز: وجدتهم في انتظاري، أخذوني إلى صدورهم، واحدًا بعد واحد. قدموا لي الماء فاغتسلت وعزموا بالقهوة فشربت. جلوس والود هو الود، منذ خمسة عشر قرنًا والدفء هو الدفء. - ص 47. أما المفردات فإنها، فعلاً كانت أم اسمًا أم نعتًا، تتسم بالسهولة - إلا فيما ندر[24]- وخاصة بالدقة، بحيث أنها تنزل في الموقع المناسب لها إنزالاً، فيتعذر عليك أن ترى بديلاً لها، وهذا ما يصفه يحيى حقي بـ"الحتمية"[25]. هذه الكلاسيكية المصفاة تقترن ببعض العناصر التحديثية. منها بعض الصور المبتكرة المقتبسة أحيانًا من المخيلة الشعبية، أمثل عليها بهذا المقطع: وكانت زبيدة بعد طفلة تلعب في حارتنا. قلت في نفسي: هذه هي، وهي لي، وأنا الحويط. أنا قاعد لها حتى يطيب قطافها فلا يسقط إلا في حجري. - ص 68. وتبدو الظاهرة نفسها في هذا العبارة: يازبيدة، منديلك عمامتي[26]. - ص 73. ومن هذه العناصر أيضًا بعض الصور المبتكرة، التي لا علاقة لها بالمخيلة الشعبية، فكلمة كبرياء، مثلاً، تكتسب في هذا النص معنى يفيض عن المعنى المعجمي، ليحيل إلى موقف شخصي وثقافي من الكون. يصف استقبال الأصحاب له في فاس قائلاً: ذلك هو كبرياؤنا، كبرياء موزون مقفى. - ص 47. وفي حديثه عن الكتاب يقول: أقرأ فيه سطور كبريائي. - ص 80. ومن هذه العناصر أخيرًا، تصرفه بأوزان الفعل، على نحو طريف، يضفي على الجملة بعدًا آخر. فكمال العاشق يقول لحبيبته: "أترحل فيك" - ص 72. ففعل ترحل الذي يأتي، حسب لسان العرب، بمعنى ارتحل يفيد مغادرة المكان، الانتقال منه وليس التنقل فيه كما هو مقصود هنا. وكذا القول في فعل ترقّص الذي يرد في النص بينما المعروف هو تراقص. ص 79. وهكذا فإن هذه الكلاسيكية العصرية، التي تتمثل عبقرية اللغة كما تبلورت عبر التاريخ (لا خيار آخر للكاتب الحقيقي) لا سعيًا لتقليد تراكيبها وتكرارها كما هي بل لتوظيفها طليقة في التعبير عن الـ"هنا والآن" بكل متغيراته، تشير هي أيضًا إلى المشروع التحديثي الذي يضطلع به الراوي. إن هذا العمل على هناته يمثل إنجازًا أدبيًا قيمًا. قد لا يرضي الحداثويين (الداعين إلى حداثة مستوردة جاهزة للاستعمال) ولا المتزمتين (القيمين على نص التراث الديني يحرسونه كما يحرس السدنة صنما لا حياة فيه). فقد يأخذ عليه الأولون لجوءه إلى متخيل قديم متلبس لغة تراثية (التناص) لا تتماشى ومتطلبات العصر ولا الدعوة التي يدعو إليها. وقد ينعي عليه الآخرون إقحام القدسي في أمور دنيوية نسبية لا تؤدي إلا إلى ابتذاله. لكنه، بسبب من المسافة التي يتخذها من النص المقدس (تأويلاً) ومن الفكر الحداثي، فيما هو يستنبطها ويحاورهما بجدية وحنان، يمثل أجمل.نشودة لكل منهما. يجمعهما بجدلية ماهرة أنيقة لا تخلو من المكر لينفذ إلى أعماق القارئ المتجذر في تربة ثقافية محددة والصابي في آن إلى إضفاء الشرعية على موقف تحرري من الجسد لا امتهان فيه، فيقنعه بأن العلاقة الجسدية، الجنسية، إذا ما أحسن فهمها، قد تكون المعيار لموقف سليم من الآخر (المرأة أو الرجل)، ومن الثقافة (أسلوب القراءة والتعبير عن أعمق ما في إنسان بفن راق) والتنظيم الاجتماعي (مؤسسات سياسية، مهنية، إلخ) والسياق المادي للحياة (البيئة، المعمار المديني، إلخ). وفي ذلك إبداع فني ناجز، تبدو فاعليته جلية إذا ما قورن بالأسلوب التعليمي التلقيني الذي اعتمدته كتابات كثيرة منذ أوائل النهضة[27] أو بالأسلوب "الثورجي" الداعي إلى كل جديد دون تمحيص وخاصة دون تجذيره في تربته الثقافية الجديدة[28]. فإن عملية التحديث - وهي الآن ملحة أكثر من أي وقت مضى – عملية جدية لا تتحقق بالموقف الإيدلوجي العقلاني المحض ولا بالتقليد الأعمى، إنما تنطلق من "الخاص الخاص" لإغنائه بـ"العام العام" (الإنساني الشمولي)، حسب تعبير يحيى حقي، وباعتبار كافة ملكات الإنسان المتجذرة في تراث محدد. وهنا يجب أن يلعب التراث - برموزه الدينية والأدبية - دوره في عملية الانطلاق والتحرر[29]. بهذا المعنى نستطيع أن نقول إن قصة عبد الحكيم قاسم هذه أنشودة مهداة للرموز القدسية وللتراث الأدبي بقدر ما هي ترنيمة في سبيل إنسان متحرر متصالح مع نصفه الآخر ومجتمعه وبيئته ومنفتح على كافة الآفاق الثقافية. [1] كما اوردها فراي في كتابه The Great Code المذكور لاحقًا: The Old and New Testaments are the Great Code of Art: xvi. [2] نذكر منها: North Frye; The Great Code; The Bible and literature (London: Routledge and Kegan Paul, 1982); Words with Power: Being a Second Study of “The Bible and literature” (Toronto: Harcourt Brace Jovanovich, 1990). [3] ولا يدخل في هذه الصلة القوية الانحراف الخطير الذي نشهده الآن في تأويل الكتب السماوية الثلاثة تأويلأ حرفيأ (هو في حقيقته تأويل مادي لأنه يستوحي مادية الحرف لا روحانية النص)، قد يبلغ ذروته المأساوية في استغلال الثوراة لاحتكار أرض فلسطين. [4] تجدر الإشارة إلى الدور المهم الذي لعبه نص الكتاب المقدس في ترجمته الجديدة، على يد رواد النهضة، في إغناء الخيال والأسلوب الشعري عند عدد من الشعراء. [5] المستلة من الهجرة إلى غير المألوف - ديوان قصص (القاهرة – باريس: دار الفكر، 1928). ورقم الصفحة في متن الدراسة يحيل إلى هذه الطبعة. وفيما يلي لمحة عن الكاتب: عبد الحكيم قاسم (1935 – 1990) ولد في البندرة (طنطا)، ودرس الحقوق في جامعة الإسكندرية وانتقل إلى القاهرة عام 1959. نشر أولى قصصه في الآداب البيروتية. دخل السجن في عهد عبد الناصر بسبب انخراطه في الحزب الشيوعي، وعرف المنفى في عهد السادات (برلين الشرقية 1974 – 1985)، ثم عاد ليموت في القاهرة بعد مرض عضال. ومن مؤلفاته: أيام الإنسان السبعة (1969)، محاولة للخروج (1980)، قدر الغرف المقبضة (1982)، أخت لأب وسطور من دفتر الأحوال (1983)، الأشواق والأسى (1984)، طرف من خبر الآخرة (1986)، الظنون والرؤى (1986)، الهجرة إلى غير المألوف (1986)، الديوان الأخير (1991) ويضم مجموعة متفرقة من كتاباته، صدر بعد وفاته. انطلاقًا من القرية المصرية في جمالها وترديها، رسم عبد الحكيم قاسم تصوره للعالم في ثنائية لا تنتهي حاول دائمًا تجاوزها: التقاليد في عذوبتها وهمجيتها، الفكر الديني في سماحته وتشنجه، الحداثة في صبوها نحو العدالة والقيم الفردية وانكفائها نحو الاستبداد وتغييب الفرد، التراث في منحه الفرد طاقة الإبداع وسحقه تحت نير الجمود، المدينة في فتح الآفاق للقاء الآخر والسجن في "الغرفة المقبضة"، الإنسان في هوسه بإعمار الدنيا وتوقه إلى الآخرة. وبدا ذلك في لغته: متجذرة في تراث تتمثله خير تمثل ومتلهفة إلى منحى شخصي إبداعي. يبدو لي عبد الحكيم قاسم شخصية أدبية فذة جديرة بالاهتمام، بخس حقه ربما لأنه، وهو من جيل الستينيات، بقي دائمًا يغرد خارج سربه. ولكن، بالرغم من اعتزازي بصداقته الخالصة من كل شيب، لا بد من القول، أمانةً، إنه في أواخر حياته - ياللمرض وتردي الحياة السياسية تحت وطأة حكم الفرد! - لم يسلم من ردة سلفية، لا يعتد بها، فلنا في ما كتبه سابقًا زاد وفير. [6] تجدر الإشارة إلئ أن هذا النص كتب فعلاً إثر رحلة إلى فاس حيث عقدت، في كانون الأول /ديسمبر من عام 1979، ندوة حول الرواية العربية بدعوة من اتحاد كتاب المغرب. وفيها تعرفت على المؤلف. [7] كلمتا فرح وترح تقابلان في الفرنسية euphorie / dysphorieحسب مفهومهما السيميائي. [8] ويعزى إلى أحمد بن سلمان الملقب بابن كمال باشا. تجده معروضًا على الأرصفة في المدن العربية بطبعات شعبية غير منقحة ذات سعر زهيد. [9] وهذا الوصف ينطبق تمامًا على الكتاب المرجع رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه. [10] لا نعني بالأسطورة هنا التاريخ المزيف أو المختلق، بل حكاية الأصول بشكل يفسر التاريخ ماضيًا وحاضرًا. والقراءة الأسطورية هي القراءة التي تتم وفق هذه الحكاية، بغض النظر عما يقوله التاريخ الوقائعي. [11] كتب المعراج كثيرة، ومؤلفوها يعزون النص الأصلي لابن عباس، وهو نص مفقود. راجع ملخصًا وافيًا عن تاريخ النص وتحولاته في كتاب جمال الدين ؟ ؟ ؟ ؟ص 225-300. [12] جمعه وترجمه وعلق عليه جمال الدين بن شيخ: Le Voyage nocturne de Mahomet, suivi de: L’Aventure de la parole, traduit par Jamel Eddine Bencheikh, sous la direction d’André Miquel (Paris: Imprimerie Nationale, 1982). ونعتمد هنا النص المترجم لتعذر الوصول إلى الأصلي. [13] راجع: Gérard Genette, Palimpsestes, la literature au second degree (Paris, Seuil, 1982). [14] تشير بعض الدراسات الحديثة إلى أن الكتاب يعزى خطأ لابن كمال، ولكن ما ضر؟ فذلك لا يبدل شيئًا في المتخيل المحال إليه. [15] إن هذا النمط من التناص يلتقي مع نمط آخر يسميه جينيت التناص الأولي intertextualité يعتمد على الاقتباس والاستشهاد والمعارضة والتلميح، إلخ ، تمامًا كما التناص النوعي الذي أشرنا إليه سابقًا لا يستبعد هذا التناص الأولي. ولذا يبدو لي أن المفاهيم التي قدمها جينيت لا تزال، على ثرائها، تحتاج إلى المزيد من التحليل والتوضيح. [16] وربما هي كذلك، إلا أنه لم يتح لي العثور على المصدر. [17] القسم الأول من هذه الترجمة مقتبس ببعض التصرف من كتاب ابن كمال. [18] راجع أيضًا ما تقوله زبيدة عن الكتابة، ص 63. [19] ربما كان الاستشهاد الحرفي الوحيد من كتاب ابن كمال، إذا ما تركنا جانبًا العنوان وترجمة المؤلف. [20] إنه يقف موقف العارف المتجاهل، كموقف كانديد في رواية فولتير الشهيرة مثلاً، وهذا ما أصفه بالإيرونيا أو المفارقة الساخرة. [21] هذا الموقف يتضح في كثير من كتاباتهما ولا سيما في روايتيهما الشهيرتين -اللتين تعدان من روايات التنشئة أو Bildungsroman – وهما Lucinde بالنسبة للأول وHenri d’Ofterdingen بالنسبة للثاني. فالمرأة عندهما تتبوأ مقامًا لا يرقى إليه الموقف الرومانسي بشكل عام. [22] أسلوب قل أن نجده بهذا الرونق في الأدب الحديث، اللهم إلا عند قلة من الأدباء، منهم يحيى حقي وإدوار الخراط وآخرين قلائل، كل على طريقته. [23] راجع خاصة كتاب الأيام فى جزئه الأول. [24] منها استعماله لصفة "مشمئنطة" مثلاً – ص 46. [25] "آن الأوان لأن يكون لنا في الأدب أسلوب أسميه بالأسلوب العلمي، يعتمد على تحديد المعاني وبالتالي اختيار ألفاظ محددة لها، بل أقول وألفاظًا حتمية بحيث لا يكون المكان صالحًا إلا للفظ واحد ويتعذر أن يستبدل به لفظ آخر"، خطوات في النقد، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1976، ص 172. ويمثل على ذلك، بشكل غير مباشر، في استعماله لكلمة "أنا... أنا..." التي يتفوه بها إسماعيل في قصة قنديل أم هاشم بعد كسره القنديل، ويوضح ذلك في حاشية طويلة. راجع قنديل أم هاشم، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990، ص 104. [26] يقصد منديل العروس ليلة الدخلة. [27] هذا الأسلوب الذي يتحدث إلى العقل وحده طغى في عصر النهضة ولكنه لا يزال طافيًا في كثير من الكتابات ذات المنحى الإيديولوجي وإن كان يصب في مصب التحرر، قوميًا كان أو سياسيًا أو اجتماعيًا. هذه العقلانية الطافية التي ينوء تحتها الفكر العربي - بعكس ما يقرره الموقف الشائع - تبتسر ملكات الإنسان، وقد تكون من دواعي ارتمائه في أحضان السلفيات والإيديولوجيات الحزينة. [28] وأكثر الداعين إلى هذا الجديد المقتبس تقليديًا من الغرب لا يلمون بحقيقته في منشأه، وكثيرًا ما يجهلون أو يتجاهلون أنه لا توجد حداثة بالمطلق وإنما انطلاقًا من موقع تاريخي محدد. [29] ويمكن قراءة هذا النص الأدبي باعتباره معارضة أدبية لما جاء في الإنجيل: "ما لم تولدوا بالروح ثانية ..." لتصبح في هذا الخطاب الإبداعي "ما لم تولودوا بالجسد ثانية".
|
|
|