|
الحوارُ سبيلٌ إلى
حلِّ النزاعات يتمثَّل الحوارُ، الذي يتحقق
بين الإنسان وبين نفسه – على مستوى تبرير
اليقين في أحكامه ومعتقداته – أولاً، وبينه
وبين الآخر، أيًّا كان هذا "الآخر"، –
على مستوى الاعتراف به وقبوله – ثانيًّا، في
ضرورة تأسيس بنية عقلية منفتحة، "مكوِّنة"
وواعية، تصلح لإجراء تفاهُم معمق وواعٍ بين
بنات وأبناء الإنسان، يهدف إلى إرساء قواعد
ثابتة لإقامة مجتمع إنساني تتكامل أبعادُه
العديدة والمتنوعة في المحبة والتسامح
والوعي والحكمة والسلام والطمأنينة
والازدهار، بحيث يتجاوز الأطُرَ المحدودةَ
والمناهجَ أحاديةَ البُعد التي أشرطتِ
الفكرَ والنفسَ والروح، فحالت دون تفتُّح
الوجود الإنساني وتطويره والسموِّ به إلى
مستويات مثالية، وأدت إلى عدم تحقيق المغزى
الإنساني المضمون والكامن في الحياة على
مستوى الواقع الطبيعي والاجتماعي والكوني،
وإلى إسقاط القيمة والمعنى المتأصلين في هذا
المستوى. في
هذا المنظور، أسعى إلى تقريب وجهات النظر في
إطار هذا الحوار القائم على أسُس عقلية
ونفسية وروحية، واعية وسامية، وعلى معرفة
الطريق المؤدي إلى التفاهم والتلاقي مع الآخر
على أساس الاعتراف بالتنوع المتأصل في
جوهر المبادئ الإنسانية والمبادئ الطبيعية
والمبادئ الكونية التي أبدعَها الوعيُ
الكوني وهدف إلى تحقيق تأليفٍ بينها يشير إلى
تكاملها وتآلُفها وتألقها في حقيقة واحدة
سامية. لما
كان الحوار يتألق في تكامُل المواقف الفكرية
والنفسية والروحية المنفتحة التي تشير،
بدورها، إلى تنوع المبادئ وتَوافُقها في
انسجام يكمن في وحدة تأليفية تجد أصولَها
في عمق الوعي والحكمة والمحبة، فإنني أسعى
جاهدًا إلى تحقيق ما يوجد في عمق كياني
على نحوِ كمونٍ، لأعاين – وأحيا – الوحدة
الضمنية والجوهرية التي تجمع الإنسانية كلها
في حقيقة واحدة، متنوعة في مستويات تعبيرها
ومتكاملة في جوهر رموزها وتمثُّلاتها
وأسرارها. في
هذا المنظور أيضًا، استطعت أن أتمثل حوارَ
الحضارات والثقافات والأديان وتأليفَها في
تكامل توحيدي يبدع مني إنسانًا منسجمًا في
كيانه، متفهمًا للتنوعات الحضارية والثقافية
والروحية، محبًّا للإنسانية جمعاء. هكذا
علمتُ أنني أمثل ثقافةً عقلية وروحية عالمية،
متنوعةً في ظاهرها ومتكاملةً في جوهرها، تحيا
في داخلي وتُمِدني بأسباب قوة الحياة الواعية
وتوازُن الشخصية الحكيمة. وهكذا رأيتُ
ببصيرتي ما تشتمل عليه حديقةُ كياني من ورود
وأزهار، لا تصير إلى وحدة ولا تتكامل في
انسجام ما لم أكن قادرًا على إبداع تأليف
بينها، بحيث تتناغم في نطاق تنوعات الروعة
التي تنضوي تحت كتف الجمال الواحد وبهاء
اللقاء. والحق هو أن الحديقة التي تزدهي بجمال
التنوع أبهى وأكثر تألقًا من تلك التي تزدهي
بجمال واحد من الورود أو الزهور. في
هذا المنظور أيضًا وأيضًا، أدركتُ المفهوم
السامي والمغزى العميق المضمون في وجود
الإنسان: -
أولاً:
يشير واقعُ وجودنا، على مستوى كوكب الأرض،
إلى التنوع الظاهري والوحدة الجوهرية؛ -
ثانيًا:
يشير واقعُ الحضارات والثقافات والأديان إلى
تنوع ظاهري وتوافق باطني يتألق في حقيقة
واحدة؛ و -
ثالثًا:
يشير هذا التنوعُ إلى الحكمة السامية التي
تؤكد بأنه قانون أو مبدأ إنساني–اجتماعي،
وقانون أو مبدأ طبيعي، وقانون أو مبدأ كوني. وإذ
بلغتُ هذا المستوى من التفكير الواعي، المجرد
من الانفعال وضيق الأفق الفكري، سألتُ نفسي:
كيف أجعل من الحوار سبيلاً إلى تلاقي
التنوعات المذهبية ووجهات النظر العديدة
والمتخالفة؟ كيف تؤدي المحبة والوعي والحكمة
إلى لقاء الإنسان مع الإنسان، إلى تحقيق
الآخر في "الآخر"، ليكون كل إنسان
انعكاسًا حقيقيًّا لكلِّ إنسان في مرآة
الوجود؟ كيف تتلاقى التعبيراتُ المتنوعة
لتشكِّل لوحةَ الوجود الواحد؟ علمتُ
أن الإنسان الحكيم يبحث في المبادئ
الإنسانية والطبيعية والكونية، ساعيًا إلى
تمثُّلها وتحقيقها وتأليفها في كيانه،
هادفًا إلى تجاوُز النزاعات الناجمة عن الجهل
بحقيقة الوجود والغاية القصوى من الحياة. في
سبيل هذا التحقيق، أود أن أورِدَ ثماني نقاط
متصلة بالحوار الذي يؤدي إلى التلاقي ضمن
نطاق الاعتراف بالآخر والقبول به: -
أولاً:
المحبة، التي تتجاوز مركزية الأنا، هي
السبيل الأول والحقيقي للحوار والأسلوب الذي
يشير إلى التسامح العقلي والروحي، الذي يشير،
بدوره، إلى الإصغاء التام الهادئ، ومن ثم
إلى الفهم الكامل لما يقدِّمه الآخر. ففي
المحبة أفهم ما يقوله غيري وما يفكر فيه فهمًا
يجعلني أتلاقى معه في نطاق الوعي والحكمة. إن
محبتي للآخر تمثل الطريق الذي أسلكه في اتجاه
الأبدية – هذا لأن الأبدية لا تفتح بابها إلا
لمن كان محبًّا للآخر؛ وهذا لأن محبتي
للأبدية تتجسد في محبتي للآخر. -
ثانيًا:
العقل المنفتح والقلب المنفتح، اللذان
يعتمدان الحوار الواعي، غير المتحيِّز،
ويتجاوزان انفعالاتِ وإشراطات "العقل
المكوَّن"، المحتجَز في قوقعة الأنا
المغلقة، والقلب العالق في نسيج الحب
الانفعالي الملحَق بعنصرية "الأنا
التجمعية" المتصلبة. -
ثالثًا:
العقل المكوِّن الذي يعيد النظر في
موروثات الماضي المتصلبة، متحررًا من القيود
التي فرضتْها التفاسير الحرفية والاجتهادات
العمودية، الراسخة في زمانها ومكانها،
متجاوزًا إياها إلى عقلانية–روحانية
تتأمل الرمز وتستغرق جوهر المعنى والمضمون. -
رابعًا:
الاعتراف بأن جميع الحضارات والثقافات
والأديان روافد تصب في نهر الإنسانية الواسع
الذي هو كتاب الأبدية وسجلُّ تاريخ الروح على
الأرض. -
خامسًا:
الإرشاد الحكيم الذي يشير إلى استبعاد
توطيد أسُس "القطب الواحد" في نطاق معرفة
الحقيقة المطلقة، بمعنى امتلاكها واحتكارها
وحرمان الآخر من هذه المعرفة. -
سادسًا:
السعي إلى عقد حوار يقوم على "عقلانية
روحية" يتميز بها أهل العرفان المنتمون
إلى جميع الفئات المستنيرة من الحضارات
والثقافات كافة. -
سابعًا:
كما أن الناس يختلفون فيما بينهم في صدد
القضايا الروحية، كذلك يختلفون في صدد
القضايا الأخرى، اقتصاديةً كانت أم اجتماعية
أم سياسية أم علمية أم فكرية إلخ. فما من قضية
إلا ويدور الخلافُ أو الاختلافُ حولها. والحق
أن هذا الخلاف أو الاختلاف يُعَد أمرًا
طبيعيًّا بسبب وجود التنوع، ولا يُحَلُّ إلا
بالحوار. -
ثامنًا:
على هذا الأساس، يتركز اهتمام الحكماء على القضايا
الإنسانية التي، وقد بلغتْ ذروةَ التفاهم
بين الفئات المختلفة، تصبح الغايةَ المثلى
التي أرادتْها الحقيقةُ السامية المطلقة.
وهكذا يتجنب الحكماءُ البحثَ في قضية الوجود
قبل الموت وبعده، لتبقى قضيةً تعود لنطاق
الحقيقة السامية المطلقة وحده. هكذا
أسمح لنفسي أن أتصور ما يُحتمَل أن تعلنه
الحقيقةُ السامية المطلقة للناس، فأقول: "يا
أبناء الأرض، لا تتناحروا من أجل قضية "الآخِرة"،
لأنني أناشدكم، منذ الأزل وإلى الأبد، أن
تنبذوا خلافاتِكم ونزاعاتِكم التي جعلتموها
مستعصيةً على الحل، رافضةً للتعديل، فتحبوا
بعضكم بعضًا، وتتعارفوا بوعي، وتتعاونوا في
صدق، لكي تستعيدوا الفردوس الذي فقدتموه بعد
تفرقكم وبعد ظهور الانقسامات المذهبية التي
أدت إلى نشوب النزاعات والصراعات والحروب،
وتستعيضوا عنه بـ"فردوس أرضي" تحققون
فيه محبتي لكم وتغتبطون ببركتي التي أمنحها
لكم. فتلك هي إرادتي: أن تكونوا مسؤولين حيال
بعضكم بعضًا، فتنبذوا الإدانات المتبادلة
التي تؤدي إلى النزاع والصراع." *** *** ***
|
|
|