|
المستقبل
ليس مكتوبًا صيرورة
بلا نهاية... متى كانت بداية الحياة؟ هل كانت
بدايتُها منوطةً بظهور خصائص الـDNA
("الحمض النووي الريبي المنقوص
الأكسجين"، كما في بعض الترجمات)؟ أم أنها
بدأت لاحقًا، بظهور الخلية، أي بظهور أول
جملة عضوية ذات غشاء يحدد فضاءً داخليًّا
وآخر خارجيًّا، تتصف بالقدرة على التمثُّل assimilation،
ومزودة بأول برنامج (في حالة جنينية) للتكاثر؟
هل كان ظهورُ الحياة هذا مُرادًا "من فوق"،
أم أنه ثمرة محض المصادفة؟ ما هو دور الجينات؟
– علمًا أننا نشترك والشمپانزي في 98.4% من
الجينات، لكن حصتنا منها أقل من بعض النباتات
كالرز! هل العدد هنا مكافئ للقيمة؟ أليس الأمر
برمَّته بالحري نتيجة توالُفات عناصر ما تزال
عصيةً على أفهامنا المحدودة؟ هل يجوز لنا الكلامُ
على "جينات الذكاء" ونحن نعلم أن الطفل،
حتى إذا ولد من أبوين عبقريين، لن يبلغ مرحلةَ
إتقان لغته الأم حتى، بل سيبقى "طفلاً
بريًّا"، ما لم يستحم في "الحمام الثقافي"
المناسب؟ هل يحل لنا القولُ بأن ثمة جينات
تؤهِّب للسكيزوفرينيا (الفصام، من بين أمراض
نفسية وذهنية أخرى) حينما يتبين لنا أن
العديدين من حَمَلة هذه الجينات "المعيبة"،
الذين يهددهم أصلاً بعضُ أرباب العمل أو بعض
أصحاب شركات التأمين بالطرد والإقصاء، لا
يظهر لديهم في النهاية أي مرض؟ باختصار، فإن
السؤال الملح هو: هل نحن بيولوجيًّا مسيَّرون؟
هل مصيرنا محتَّم؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل
هو محتم "قليلاً" أو محتم "كثيرًا"؟
وماذا لو أنه غير محتم على الإطلاق؟ كل شيء يُبدَع آنيًّا... يذهب ألبير جاكار[1]،
كما يذهب أكْسِلْ كاهْن[2]،
اللذان يتفقان على هذه النقطة في كتابهما
الحواري المستقبل ليس مكتوبًا[3]،
إلى أن السلاسل السببية المتداخلة
والمتواشجة التي تفضي إلى ولادة كائن بشري (الجينات،
شروط الحمل، الوسط الوالدي، التربية،
التغذية، إلخ) هي من التعقيد بحيث يتعذر
التكهن بمآل أي شيء. ما من شيء إذن مكتوب سلفًا:
كل شيء يُبدَع آنيًّا... وحتى إذا بدا على بعض الجينات
أنها تتيح إمكانية تحتيم للمصير كهذه، فإن
هذه الإمكانية لن تظهر إلا في أعقاب تتالي
شروط أخرى، غير وراثية، تتخطى قدراتنا على
الحساب والتحليل. مجال الممكن ليس لازمًا،
ولا قابلاً للترقيم، ولا محتومًا! الحتمية
الوراثية، التي تذهب إليها المدرسةُ
الأمريكية مؤخرًا (ودين هذه وديدنها العثور
على "جينات" لكل صغيرة وكبيرة في السلوك
البشري، من العبقرية إلى الإجرام!) والتي قد
يستغلها المذهب العنصري racisme وغيره من مذاهب الإقصاء، هي ضلالة في نظر
عالِمينا. غير أن ثمة، على ما
يبدو، "ضلالات" أخرى. على سبيل المثال:
الرأسمالية، على النقيض مما تزعم تياراتُ "البيولوجيا
الاجتماعية" sociobiologie
الجديدة، لا يصح أن تُعتبَر التعبيرَ "الحديث"
عن مرامي الاصطفاء الطبيعي (بحسب داروِن).
فهذه الفكرة – واسمها "الدارونية
الاجتماعية" Social Darwinism – إنْ هي إلا فظاعة أخلاقية الغرض منها
في النهاية إضفاء تسويغ علميٍّ كاذب على
مصالح اقتصادية احتكارية. قوانين الطبيعة
الحقيقية لا تحتاج إلى قوانين وضعية تصوت
عليها الدولُ حتى يسري مفعولُها! الرأسمالية
قرار بشري محض، ولا تحتِّم مصير نوع. ألبير
جاكار كذا فإن من شأن
التصنيف "المراتبي" hiérarchique للجينات،
بوصفها عوامل مؤهِّبة (كاذبة) للذكاء أو
للجنسية المثلية أو للإجرام، أن يفضي – شططًا
– إلى مذهب "تحسين النسل" eugénisme، إلى "التحيز الجنسي" sexisme، إلى تهميش الفئات الاجتماعية الفقيرة،
إلخ، في حين أنه ما من شيء مؤكد، ما من شيء
محتم، اللهم إلا أن المخ البشري شديد
المطاوعة... بل إن المخ في
الواقع من المطاوعة والقدرة على التكيف بحيث
إن اعتبار عدم اكتمال صغار البشر عند ولادتهم
بمثابة عيب أو نقيصة (بالمقارنة مع الكفاءات
التي تظهر سريعًا عند صغار الحيوان) هو خطأ
فادح. فهذا "الضعف" الذي يجبر صغير
الإنسان على تعلُّم كل شيء (بينما صغار
الحيوان، بالمقارنة، لا "تتعلم" شيئًا
يُذكَر) هو في الواقع قوة هائلة: كل جيل يستطيع
أن يربِّي صغاره على معارف جديدة مافتئت
تتراكم تراكمًا متسارعًا (إذا احتاج العبور
من نحت الصوان إلى "تاج محل" إلى مئات
آلاف السنين، فلا يحتاج الانتقال من هاتف
جوال إلى آخر إلا إلى بضعة أشهر...). إيقاع
الاكتشافات اليوم في اطِّراد. وإن غياب برمجة
المخ الصارمة هو الذي أتاح ولادة مئات
الحضارات – وكلها لا يقل بعضها عن بعض روعةً
وإدهاشًا –، كما أوسع في المجال للتنوع
والتجديد والابتكار. الإنسان: كائن في صيرورة... في حوارهما العفوي
الشائق، يصر ألبير جاكار وأكسل كاهن كلاهما،
مع كونهما يتطرقان إلى موضوعات يختلفان حولها
أحيانًا (من نحو: الاعتقاد بوجود حياة بعد
الموت، منزلة الجنين القانونية، زراعة
النباتات العبرجينية transgéniques)، على ضرورة
التزام العلماء بالقضايا الإنسانية الكبرى
وعلى ضرورة أن يحتاطوا للانحرافات الممكنة
الناجمة عن نشاطاتهم. أكسل
كاهن وعلى سبيل الختام،
يتوافق العالمان الكبيران على التعريف
بالخصوصية الإنسانية بوصفها القدرة على
تحويل ما من شأنه أن يبقى مجرد غريزة في غير
الإنسان (كالغريزة الجنسية، على سبيل المثال)
إلى شعر، موسيقى، رقص، انفتاح قلب، وخبرة
روحية... جيناتنا تدفعنا
قطعًا إلى التكاثر والتقوت والكفاح، وهي واحد
من عوامل صحتنا؛ لكننا، قبل كل شيء، كائنات
نقل جماعي. وفي عصر الكمپيوتر، مازالت
جيناتنا جينات إنسان الكهوف. نحن ورثة ماضٍ
يكمن في ثقافاتنا أكثر مما يكمن في
جيناتنا، وقد وجدنانا مقذوفين نحو مستقبل
وحدنا بين الحيوانات نجده مُقلِقًا، ووحدنا
القادرون على إبداعه أولاً بأول. باختصار
شديد: نحن كائنات في صيرورة لا تنتهي... ***
*** *** [1] الپروفيسور
ألبير جاكار عالم اختصاصي في وراثة الشعوب؛
تُرجِمَ له إلى العربية: مديح الاختلاف،
بترجمة إياس حسن، دار الحصاد، دمشق، 2000. [2] الپروفيسور
أكسل
كاهن طبيب اختصاصي في الوراثة، عضو "اللجنة
الاستشارية الوطنية للأخلاق" CNNE. [3]
Albert
Jacquard & Axel Kahn (avec la collaboration de Fabrice Papillon), L’avenir
n’est pas écrit, éd. Bayard Pocket, 2003, 253 pp. |
|
|