أبعد حدود الوقاحة

عن سوء استخدام معاداة السامية والتلاعب بالتاريخ

خالد غزال

نورمان فنكلشتاين مؤرِّخ يهودي مُعادٍ للصهيونية، سبق له أن أصدر كتابَ صناعة المحرقة في العام 2003، مفندًا فيه الكثيرَ من الادعاءات الإسرائيلية وكاشفًا كيفية استغلالها "المحرقة" Holocaust اليهودية على يد النازية. وهو يناقش في كتابه الجديد[1] النظريةَ الصهيونيةَ فيما يخص الصراع العربي–الإسرائيلي، وخاصةً العلاقة مع الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة.

يغطي الكتابُ السنواتِ الأخيرةَ من الصراع، لاسيما مرحلة "عملية السور الواقي" التي اجتاح بموجبها إسرائيل أراضي الضفة الغربية خلال الانتفاضة الثانية. يمثل الكتاب أهمية خاصة ناجمة عن شخصية مؤلِّفه وعن الوثائق التاريخية التي اعتمدها، إضافة إلى تقارير منظمات حقوق الإنسان، العالمية منها والإسرائيلية.

يرى فنكلشتاين أن المدخل إلى قراءة السياسة الإسرائيلية حيال الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني يجب أن ينطلق من التصدي للخرافات الصهيونية و"الأكاذيب الكبرى" المبثوثة في عقل المواطن الإسرائيلي. لذا يطارد فنكلشتاين هذه الأكاذيب، فيفضح ادعاءاتِ الكاتب الأمريكي–الإسرائيلي ألان درشوفيتش الواردة في كتابه قضية إسرائيل.

يركِّز إسرائيل على تسعير نظرية معاداة السامية في طورها الجديد، خاصة بعد الانتفاضة الثانية. فقد ارتفعت وتيرةُ الحديث الإسرائيلي عن أن اليهود يواجهون حالاتٍ مشابهةً لما واجهوه على يد النازية في ثلاثينيات القرن الماضي. ويهدف هذا التصعيد إلى استغلال التاريخ المؤلم لليهودية في أوروبا من أجل وضع حدٍّ للانتقادات المصلَّتة على السياسة الإسرائيلية في الأراضي المحتلة. لذلك باتت كل مطالبة لإسرائيل بالانسحاب من الأراضي المحتلة في العام 1967 وبالتخفيف من حصار الفلسطينيين وبإعطائهم حقوقًا تسمح لهم بممارسة حياة طبيعية – بات ذلك كله حملةً معادية للسامية وضد دولة إسرائيل. هذه أولى الأكاذيب.

ثانية هذه الأكاذيب تعميم النظرية القائلة إن إسرائيل بات يمثل اليوم جميع يهود العالم وإن الدولة الإسرائيلية تجسد انبعاث المجموعات اليهودية بين الأمم. وبهذه الصفة يصبح نقدُ دولة إسرائيل بمثابة معاداة للسامية بمعناها الأصلي. وتذهب هذه النظرية إلى القول بأن معاداة السامية أصلها عربي (كذا!)، ثم تحولت لاحقًا أوروبيةً في شكل عام، لا نازية وحسب. يهدف إسرائيل من وراء ذلك إلى الضغط على وسائل الإعلام، وخاصة على تقارير منظمات حقوق الإنسان التي تكشف الممارساتِ الإسرائيليةَ وتدينها. إن استخدام معاداة السامية بات ذريعة إسرائيلية لتشريع انتهاك حقوق الإنسان وتسويغ الإرهاب اليومي وترهيب كلِّ مَن يقول بحقِّ اللاجئين الفلسطينيين في العودة.

النوع الثالث من الأكاذيب تفضحه تحقيقاتُ منظمات إسرائيلية تعمل داخل إسرائيل نفسه. تتركز هذه الأكاذيب على أن الله وعد إبراهيم واليهود بأرض إسرائيل – وهي أكذوبة تعتمدها الصهيونيةُ في نظرية "أرض الميعاد". ومثلها أكذوبة أن غالبية الفلسطينيين ولدوا في الأردن ومصر ولبنان، فيما وقائع التاريخ تنفي ذلك. وكذلك أكذوبة أن "حماس" قامت بأعمال إرهابية ضد إسرائيل في العام 1967، فيما لم تولد "حماس" إلا في ثمانينيات القرن الماضي. وأخيرًا، الكذبة الكبرى حول "حضارية" الجيش الإسرائيلي الذي يتجنب إطلاق النار على النساء والأطفال، فيما تؤكد تقاريرُ المنظمات الدولية عكس ذلك، واصفةً وحشيةَ المسلك الإسرائيلي بـ"السلوك النازي" في قتل المدنيين.

الأكذوبة الرابعة هي القائلة بـ"طهارة" السلاح الإسرائيلي واستهدافه المسلحين الفلسطينيين فقط: يدعي إسرائيل أن جيشه لا يستخدم الرصاص إلا نادرًا، وأنه يلجأ إلى الرصاص المطاطي لتخفيف الإصابات، وأن إطلاق هذا الرصاص يتركز على الأرجل. تكذِّب التقاريرُ هذا الادعاء عندما تكشف أن نصف الضحايا الفلسطينيين أصيبوا من جراء إطلاق الرصاص على صدورهم ورؤوسهم.

ويذهب الكذب الإسرائيلي بعيدًا بالقول إن قسمًا كبيرًا من القتلى المدنيين الفلسطينيين حصل بسبب استخدام المسلحين الفلسطينيين للمدنيين كدروع بشرية. تصل الوقاحة أقصاها في النفي الإسرائيلي لأية معاملة غير إنسانية للمعتقَلين. إذ تشير تقارير إسرائيلية ودولية إلى نماذج من السلوك الإسرائيلي: فمنذ اللحظة الأولى للاعتقال وبدء الاستجواب، تُعصَب عيونُ المعتقَلين، ويتناوب الجنودُ على ضربهم رفسًا وبالعصي وأعقاب البنادق؛ يعلِّقونهم في الهواء ويربطونهم إلى الكراسي أو قضبان حديد مثبتة في الجدران؛ يجبرونهم على الوقوف على رجل واحدة لمدة طويلة ويسكبون على أجسامهم الماء البارد في الشتاء والحارَّ في الصيف؛ يمنعون عنهم النوم بتسليط الأضواء القوية أو بإطلاق الموسيقى الصاخبة في غرفهم؛ يجبرونهم على تنشق الغاز حتى يفقدوا وعيهم ويطفئون السجائر في أجسامهم.

الأكذوبة الخامسة هي القائلة إن ارتفاع نسبة الموت بين الفلسطينيين ناجم عن نقص المعالجة الطبية. فالفلسطينيون، بحسب الادعاء الإسرائيلي، يرفضون العروض الإسرائيلية لنقل جرحاهم إلى إسرائيل ومعالجتهم في مستشفياته، فيما الوقائع تفضح الإجراءاتِ الإسرائيليةَ ضد النظام الطبي الفلسطيني لجهة الهجوم على المستشفيات والمستوصفات وتدميرها وتدمير سيارات الإسعاف ومنع التسهيلات الطبية، بما فيها إدخال الأدوية وسائر مستلزمات الطبابة.

الأكذوبة السادسة تطاول تشريع الاغتيالات الإسرائيلية للفلسطينيين: فالنظرة الإسرائيلية ترى في كلِّ فلسطيني مشروع مقاتل، اغتياله مبرَّر مسبقًا. وقد وصلتْ هذه السياسةُ ذروتَها في العقد الأخير حين طاولتْ تصفيةَ قيادات فلسطينية ونشطاء بأعداد واسعة. إلا أن سياسة الاغتيالات تعود إلى مطلع السبعينيات، وقد كرستْها الحكوماتُ الإسرائيليةُ كلها.

الأكذوبة السابعة هي "الممارسة الأخلاقية" للجيش الإسرائيلي عند قيامه بعملية تدمير ما: يذهب الادعاء إلى القول إن هذه العملية لا تصيب الأبرياء، بل هي مرهونة فقط بالضرورات العسكرية. أما حديث وسائل الإعلام عن "المبالغات" في هذا المجال فيعزوها إسرائيل إلى السياسة المعادية له وللسامية. يهدف إسرائيل من المعاقبة الجماعية للفلسطينيين، من مصادرة أراضيهم وتدمير ممتلكاتهم، إلى إيصال مقومات الحياة الفلسطينية إلى أعلى درجات القسوة والشظف، بما يؤدي في النهاية إلى هجرة فلسطينية واسعة من الأراضي المحتلة، مما سيعني تقليصًا لعدد السكان الفلسطينيين.

الأكذوبة الثامنة هي الادعاء الإسرائيلي بأن الفلسطينيين أفادوا كثيرًا من الاحتلال الإسرائيلي لأراضيهم. وأن هذه "الإفادة" طاولت العنايةَ الصحية، مما زاد في أعمار المواطن الفلسطيني، وساعد في التقليل من وفيات الأطفال وارتفاع مستوى التعليم وتحقيق ازدهار اقتصاديٍّ عرفتْه الأراضي المحتلة قبل الانتفاضة الأخيرة. تدحض الوقائعُ اليومية وتقاريرُ المنظمات الإنسانية هذه الادعاءات عندما تكشف الممارسةَ العنصريةَ ضد الفلسطينيين في جميع المجالات، ولاسيما في منعهم من إقامة دولتهم. ويشكل الجدار العازل أحد عناصر هذا التمييز، فيلقي بثقله السلبي على سكان الأراضي المحتلة.

يمثل كتاب فنكلشتاين وثيقةَ إدانة قاطعة لإسرائيل ولوسائل الإعلام الداعمة له، وكذلك للكتَّاب والمثقفين الذين يروِّجون لأكاذيبه. إنه شهادة من "أهل البيت" تضاف إلى شهادات كثيرة قال بها كتَّاب ومؤرخون إسرائيليون أعادوا كتابةَ تاريخ قيام دولة إسرائيل، كاشفين الكثير من الوقائع حول تزوير إسرائيل للتاريخ وتَلاعُبه به.

*** *** ***

عن النهار، الأربعاء 28 حزيران 2006