هذا العالم لا يكفي!

جاك الخوري

 

بدأت بتصفُّح الكتاب الحواري بين المطران جورج خضر والكاتب والصحافي سمير فرحات بعنوان هذا العالم لا يكفي (صادر عن منشورات "دار النهار") وأنا أتحضَّر لمقاربة فيها الكثير من التحدي للغة وتتطلب الكثير من المعرفة والتركيز والثقافة. لكن الإبحار في فكر المطران الشاسع لم يكن هذه المرة شائكًا، بل أسلس وأكثر تشويقًا من المتوقع.

مع اطلاعي على فهرس المحتويات، أحسست بنوع من الارتياح، إذ علمت بأني سأتمتع باستراحة المحارب من الموضوعات السياسية التي ترافقني كل يوم، مع كل ما يتخلَّلها من رياء وضبابية في المواقف واتهامات متبادلة. لكني سرعان ما وجدت نفسي، وأنا أقلِّب الصفحات الأولى من الكتاب، غارقًا في السياسة. لكنها "سياسة" مغايرة تمامًا: سياسة ترقى إلى أعلى المستويات، سياسة قائمة على الاقتناع الراسخ والفكر – في اختصار، سياسة "ليست من هذا العالم"! ومن الطبيعي أن يكون المطران خضر أحد كبار "سياسيي" مملكة المسيح، أي "المملكة التي ليست من هذا العالم"، وفق ما ورد على لسان "الملك" نفسه (راجع إنجيل يوحنا 18: 36-37).

هنا لا بد من أن أسجل نقطةً في صالح المُحاور والزميل سمير فرحات، كونه استطاع أن يقرِّب أفكار المطران خضر إلى الجميع، بعدما كانت، في معظم الأحيان، وقفًا على فئة فكرية–فلسفية من الناس. وكي لا يساء فهمي، أقول: صحيح أن المطران خضر يعتمد سياسةً "ليست من هذا العالم"، إلا أن ما يتحدث عنه هو في صُلب ما يعيشه "هذا العالم"، ما يراه ويعانيه الناس كل يوم، في أنفسهم وفي الآخرين من حولهم. فاللافت أنه ليس في الكتاب وفي الموضوعات التي تم التطرقُ إليها أي موضوع محرَّم على المناقشة، من صراع الحضارات، إلى الحب والجنس والبتولية، إلى دور لبنان في المنطقة، إلى الأديان الأخرى (الإسلام واليهودية)، إلى نقد ذاتي مسيحي، انتهاءً بالعلوم والأخلاق.

كل ما يذكره الكتاب على لسان المطران خضر يوحي بالسبب الذي من أجله أُعطِيَ هذا العنوان: كيف لأحد في هذا العالم أن يتقبل مفاهيم وقيمًا ومبادئ تتعارض والأفكار التي يقدِّمها العالم، وفق مقولات "اللي قلبو طيِّب غشيم"، و"الشاطر بشطارتو"، و"إن لم تكن ذئبًا أكلتك الذئاب"! فكل مَن لم يقتنع بهذه الأمور، عليه مواجهة انتقادات لا تُعَد ولا تُحصى، بدءًا من عائلته التي يهمها ألا يكون أحدُ أبنائها "غشيمًا" بالمفهوم المعيشي! وعلى الشخص المعني إما أن يختار عيشةَ الحياة المزدوجة، وإما الإحساس بأنه ينتمي إلى "كوكب آخر" – مع كلِّ ما يعني ذلك من ضغط نفسي واقتصادي وفكري. ويأتي المطران خضر بأفكاره ليعطي هؤلاء الأشخاص دفعةً معنويةً تحصِّنهم ضد ترهات هذا العالم. ليس هذا المطران بالطبع المسيح، ولن يكون – حاشا –، لكنه إحدى اللافتات العريضة التي تدل على طريقه، فتعطي الأمل بالوصول إلى الهدف من خلال تأكيد صحة الطريق.

فهذا العالم، على سبيل المثال، يقوم على توبيخ صاحب النفوذ لشخص آخر وانتهاره لأنه مجرد "أجير" أو "مأمور". ولكن عند المطران خضر لا يمكن لهذه الحادثة أن تمرَّ مرور الكرام: فهو يروي في الصفحة 62 من الكتاب أنه عندما قام بذلك في حق قواس (أي أحد مرافقي المطران في السابق)، احتقر نفسه على هذا التصرف وفكَّر بأنه لو كان هذا الرجل من "وجهاء الطائفة" لما صرخ في وجهه! ويضيف أن هذه الحادثة أثَّرت في تغيير طبائعه.

إذا قرأ بعض القيِّمين على مؤسسات أو شركات أو جمعيات وغيرها ما قيل، لاعتبر أن المطران خضر يعيش في عالم آخر، لأن للنجاح معايير أخرى، والاحترام يجب أن يُفرَض بالقوة. ويغيب عن فكر هذا البعض أن المأجور أو المأمور لا يفوِّت مناسبة أو فرصة سانحة للتقليل من احترام المسؤول عنه أو التحدث عن صفاته السيئة أو نشر أسراره الوسخة على سطوح إذاعات الألسنة – فهل هكذا يُكسَبُ الاحترام؟!

وفي الصفحة 91 من الكتاب، كان المطران خضر في غنى عن "طاولة الحوار" وعن المقابلات التلفزيونية وعما يُعرَف من برامج بالـtalk show وعن ندوات ولقاءات لمعرفة الداء الذي يعانيه اللبنانيون للنهوض ببلدهم. فهو قد أصاب المشكلة في العمق – وأختصرها بالآتي: "إن الفرد اللبناني مركز على "الأنا"، على العائلة والقبيلة؛ وتاليًا، هو قليل الإحساس بما هو مشترك، وبما هو عام، وبما هو وطني." ولا يكتفي المطران خضر بطرح المشكلة، بل يعطي الحلَّ أيضًا، ولو أنه يبدو حلاًّ غير قابل للتطبيق بسبب طبيعة حياة اللبناني. ويقضي الحل، وفق ما جاء في الصفحة 93 من الكتاب، بـ

[...] الاتفاق على القواسم المشتركة، بصورة أنه إذا ازدهر البلدُ حقيقة، وتخلَّقنا بأخلاق الله في التعامل اليومي، وتخلَّصنا من الزبائنية التي نمارسها – إذا تحررنا من ذلك، يبقى لبنان وطنًا قائمًا بذاته، وقادرًا على أن يعيش في سلام مع المنطقة.

هناك حتمًا مَن لا تهمه رؤية المطران خضر لهذا العالم؛ وهناك مَن يرى فيه نقطةَ ماء تساهم في ريِّ الأرض القاحلة التي تعيش فيها دولُ العالم عمومًا ولبنان في شكل خاص. وبغضِّ النظر عن وصف المطران خضر، تبقى اقتناعاتُه وأفكارُه محطَّ اهتمام وتفكير. هناك مَن يكفيه هذا العالم ويرضى به، على الرغم من الأخطاء والمشكلات كلِّها؛ وهناك مَن لا يكفيه هذا العالم، فيتطلع إلى عالم آخر يجد فيه ما يطمح إليه، ويجهد، بكلِّ ما أوتي من قوة، لأن يصطحب معه أكبر عدد ممكن من الأشخاص لتعريفهم إلى عالمه، فيحبونه كما يحبه، ويتفاعلون معه بالطريقة نفسها التي يتفاعل هو معه.

لن يكفي هذا العالم ليتسع للمحبة التي يبشِّر بها المطران خضر، ولن يكفي ليكون شاهدًا على عقلية ثورية تناهض الأسُس التي بُنِيَ عليها عالمُنا، من منطق القوة والصراع والغلبة والحقد والكراهية والعبودية. نعم، لقد نجح "أولياء هذا العالم" في قلب المفاهيم رأسًا على عقب: أصبح مفهوم المحبة أصعب وأشد قسوة من مفهوم الحقد، ومفهوم التحرر أصعب من مفهوم العبودية، ومفهوم الحق أغرب من مفهوم الكذب والرياء، ومفهوم تسليم الذات إلى الآخرين أسهل من مفهوم تسليم الذات إلى الله.

المطران خضر يتوجَّه قطعًا، من خلال ما يقول، إلى أولياء هذا العالم، فيبشِّرهم أن عالمهم، على وسعه، لن يكفيه، ويدعوهم إلى التوجه إلى عالمه الذي يتسع للجميع – لسبب بسيط هو أنهم سيدخلون إليه تاركين خلفهم أطنان القيود والأغلال التي اعتادوها!

*** *** ***

عن النهار، الثلثاء 18 تموز 2006

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود