أورانيا

جنَّة لوكليزيو الضائعة الجديدة

ممكنٌ هو الحلم حتى بعد فوات الأوان

 

ريتا باسيل الرامي

 

اطمئنوا، فما من أخطاء طباعية في كتاب ج.م.غ. لوكليزيو الجديد[1]، ولم ينسَ المصححون في دار "غاليمار" إعادة قراءة النص! ففي الواقع، الجمل "المعلقة" من حين لآخر عند نهاية الفصول شأن طبيعي، كما في الصفحة 142:

كان يحتوي على أوراق عدة تروي تتمة الـ.

نجد مثل هذه الجمل أيضًا لدى الانتقال من فصل إلى آخر، مع إبراز الأسلوب الطباعي، بما أن الجملة تتوقف عند نهاية فصل لتكتمل في بداية الفصل التالي، كما في الصفحتين 52 و53. نقرأ في نهاية الصفحة 52:

سيرًا على القدمين، طوال الطريق، نحو المدينة، نحو.

ثم في الصفحة 53، يبدأ فصل "الوادي" بهذا الشكل:

تلك [بحرف استهلالي صغير في بداية الجملة الفرنسية] الشوارع المشقوقة، تلك الشوارع الضيقة...

ليست هذه الجملة إلا تتمة للجملة الواردة في نهاية الفصل السابق. على أية حال، يحتوي الفصل السابق أيضًا على "خطأ في الأسلوب الطباعي"؛ إذ يوحي عنوان فصل "تلة الأنثروپولوجيين" أنه بداية فقرة، إذ يبدأ أيضًا بحرف استهلالي صغير في بداية الجملة:

كانت تبعد عن ساو پاولو، وتقع على ساحل مليء بالحجارة مطلٍّ على الوادي.

لقد أدى لوكليزيو دور الجغرافي إلى النهاية، موحيًا لنا في روايته أنه يقع على أجزاء من مخطوطات.

تغيِّر الأحرفُ أماكنها في أورانيا، كما السماء المتحركة التي لا تتشابه يومًا. ويتعلم الراوي مراقبتها في كامپوس. هي سماء في ترحال دائم، على صورة كاتب مسافر بلا كلل، من مدينة إلى أخرى، من كتاب إلى آخر، منذ كتابه الأول المحضر، الذي يدين له بشهرته بعدما حاز على جائزة "رينودو" في العام 1963. فبعد الحمى، تيرا أماتا، المجهول على الأرض، رحلة إلى الجهة الأخرى، صحراء، ثلاث مدن مقدسة، المنقب عن الذهب، رحلة إلى رودريغز، الربيع وفصول أخرى، نجم هائم، وكُتُب كثيرة غيرها، يهيم لوكليزيو في الأراضي المكسيكية، التي يعرفها تمامًا معرفته بمدينة نيس، مسقط رأسه، والتي أمضى فيها جزءًا كبيرًا من حياته.

لوكليزيو متعدد الجذور، يتحدر من عائلة بريتانية وبريطانية ومن جزيرة موريشيوس، فيبدو محكومًا بالترحال، "منقبًا عن الذهب" والشِّعر، يهتم في عمله الجديد، كعادته، بحضارة في طور الزوال، فيكتب عن مجتمع كامپوس في منطقة كوليما البركانية على ساحل المحيط الهادئ في المكسيك. يخبر الراوي الجغرافيَّ دانييل عن نشأة هذه الحضارة وحياتها المهددة بالزوال.

قبل الوصول إلى كامپوس، الفردوس المفقود، واكتشاف الجمال، تلج الروايةُ الواقع القاسي، واقع حرب العام 1945 عندما كان الراوي ما يزال طفلاً، ثم، بعد سنوات عديدة، واقعًا مخيبًا عن بعض الأنثروپولوجيين الذين يستغلون ساقطةً مسكينة تدعى ليلي، متذرعين بأنهم ينجزون "أعمالاً تطبيقية"، بينما وحده الراوي يحافظ على العمل النظري الصرف في الحقل التطبيقي. يمكن لنا أن نستشف هنا إعادة نظر رمزية من خلال الاستغلال الذي مارسه الأنثروپولوجيون على الساقطة. يقف الراوي مروَّعًا أمام السهرة الخسيسة التي أمضاها مع فريق الباحثين الساخرين من ليلي وجسدها ولهجتها وأجوبتها:

ليس هذا صحيحًا. لا يتعلق الأمر بعمل تطبيقيٍّ على الأرض، بل بفتاة تعيش حياة مريعة. (ص 50)

هل تفضح شخصيةُ ليلي استغلالَ بعض الأنثروپولوجيين وجهلهم؟ – هؤلاء الذين يُفترَض فيهم أن ينجزوا عملهم بدافع الانفتاح على الحضارات الأخرى واحترامها، في معادلة قطباها: الفقراء والأغنياء، المستغِلون والمستغَلون – فيمثل جسدُ ليلي الحضارة الضائعة، وقد انتُزِعَتْ من قريتها البعيدة وانتُزِعَتْ من البراءة، ليدنِّسها "مفكرون" سخفاء بذيئون!

تروي أورانيا تاريخ مجتمع كامپوس: مدينة وهمية، نقية كالطفولة، بعيدة عن الأكاديميات ومراكز البحوث والمجتمع الاستهلاكي. الحياة فيها تعلُّم مستمر، في اكتفاء الطبيعة الذاتي. الطبيعة أم ومعلِّمة. لا وجود للمدرسة. المدرسة هي السماء واللافا البركانية. المدرسة هي رصد الحياة. المدرسة لا نهاية لها.

في كامپوس، لا وجود للأهل. علمتُ ذلك في ما بعد. فالأولاد هم الذين يختارون المنزل حيث يريدون النوم للقاء الأصدقاء أو لاستبدال آخرين بهم. ليس الراشدون إلا حُماة يتكفلون حمايتهم ومساعدتهم، لكن لا يمكن لهم أن يمارسوا أية سلطة أخرى عليهم. الأشقاء والشقيقات الكبار هم الأهل الفعليون، الذين يرافقونهم في كلِّ مكان ويسدون إليهم النصائح ويوبخونهم عند الضرورة. لا يكف الراشدون عن التعلم. عليهم أيضًا أن يشاركوا في التعليم. كما سبق وشرحت لك، ما من مدرسة في كامپوس، فالقرية برمتها مدرسة كبيرة. (ص 95)

في كامپوس، قد يكون الولدُ مرشدَ الراشد، فيذكِّره بما غاب عنه من نظرة الطفل الذي كان يومًا. في كامپوس، لدى الجميع مرشد: نتعلم الحياة "عبر النظر إلى الغيوم، عبر سماع القصص، وحتى عبر الحلم". في كامپوس، لا عمل ولا وسائل تسلية، بل عمل يوافق عليه الجميع في غياب الطبقات الاجتماعية ويهدف إلى خير الجميع. كامپوس هي عالم الطفولة، الجنة الضائعة، مدينة "أطلنتس" التي غارت في الأعماق.

يتساءل القارئ عن دافع اختيار العنوان الذي "نبشه" الكاتب من طفولته. أورانيا، رواية السماء والأرض، لا يمكن إلا أن تذكِّر بـ"أورانوس" (المذكور في هذه الرواية). ليست أورانيا إلا ابنة أورانوس في الميثولوجيا. نعرف الأسطورة: كرونوس، أصغر الطياطنة، أخصى والده أورانوس إثر "جماعه" مع الأرض غايا، ومن نقاط الدم التي تساقطت من أعضائه التناسلية، ولد العديد من الآلهة والإلهات. من نقطة دم (وفقًا لنسخة الأطفال) أو من نقطة سائل منوي (وفقًا لنسخة الراشدين) سقطت في الماء، ولدت فينوس، أي أفروديتي عند الإغريق، إلهة الحب.

في جمهورية أفلاطون، يتصور فلاسفتنا، في مناقشتهم حول الحب، وجودَين اثنين لأفروديتي: في وجودها الأول تكون أرضية وشعبية، واسمها پانديميين؛ وفي الثاني هي سماوية، ترمز إلى الحب النقي، وتدعى أورانيا.

جان ماري غوستاف لوكليزيو (1940- )

ببلوغ لوكليزيو الخامسة والستين من العمر، يكون قد كتب ما يقارب الأربعين رواية. وهو يقدِّم في صفحاته الـ297 الجديدة سذاجةَ الاعتقاد بأنه لا يزال في إمكاننا الحلم بالجمهوريات الخيالية، قبل أن نراه يذوب مع أواخر الصفحات "الأورانية"!

*** *** ***

عن النهار، 9 حزيران 2006


[1] J.-M.G. Le Clézio, Ourania, Gallimard, Paris, 2006.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود