|
بوَّابات الجحيم وقفةٌ خاشعةٌ أمام
حياة أوغوست رودان وأعماله
1 ... ونبدأ من هاتين القصيدتين البديعتين، المستوحاتين من منحوتتين من أجمل وأعمق ما قدمه أوغوست رودان، هما "الدانايدة"[1] و"المسيح والمجدلية"، لنتساءل عن البُعد الروحي والفلسفي – إن لم نقل عن الخلفية السرَّانية الباطنية – لهذا الرجل الذي أنطق الحجر...
لنتساءل
حول ماهية صاحبها ودوافعه، محاولين أن نفهم،
وإنْ قليلاً، أي شيطان (أو إله) كان يتلبَّسه
عندما أقدم على تلك الأعمال المذهلة... لأن
صاحبنا كان إنسانًا مثلنا في نهاية المطاف –
إنسانًا عرف النجاح كما عرف الفشل، فأحب
وعشق، أصاب وأخطأ، مثله كمثل البشر أجمعين.
لكنه لم يكن في النهاية ككلِّ البشر، بل كان
بحق أحد أعظم الفنانين في تاريخ الإنسانية،
لا يضاهيه، ربما، إلا ميكلانجلو. 2 البدايات أو "العصر
البرونزي" والتاريخ يقول أن أوغوست رودان ولد في باريس من أسرة متواضعة في 12 تشرين الثاني 1840، وأنه التحق في الرابعة عشرة من عمره بمدرسة الرسم والرياضيات التي كانت تسمى "المدرسة الصغرى"، حيث تعلم مبادئ الفن والنحت – الأمر الذي دفعه للتقدم إلى امتحانات "مدرسة الفنون الجميلة"، حيث رسب ثلاث مرات متتالية ولم يُقبَل في نهاية المطاف. وفي العام 1862، التحق، بُعيد وفاة شقيقته، بسلك "آباء السرِّ الأقدس" بهدف أن يصبح كاهنًا؛ إلا أنه سرعان ما غادره بإيعاز من رئيس السلك الذي شجعه على اختيار طريق الفن – وكان هذا ما فعل. فما بين العامين 1864 و1874، عمل مع ألبير كارييه بيلوز في باريس، ثم مع فان ريپسبورغ ومع كارييه بيلوز أيضًا في بروكسل، حيث ساهم في أعمال ديكور "قصر الأكاديميات". وقد قدم في تلك الفترة أولى أعماله الملفتة للنظر، التي كان أهمها: قناع "الرجل ذو الأنف المكسور"، الذي رُفِضَ عندما تقدم به إلى معرض الفنون الجميلة في العام 1865، و"الصبية ذات القبعة المكلَّلة بالورد" الفخاري في العام نفسه.
أما في العام 1875، فقد أسعفه الحظ بالسفر إلى إيطاليا، حيث اطلع على أعمال دوناتيلو وميكلانجلو، الذي ترك فيه عميق الأثر، ليعود بعد ذلك إلى فرنسا التي زار معظم مدنها وقراها، متوقفًا أمام كاتدرائياتها وكنائسها ومنحوتاتها، ليعود من بعدُ إلى باريس، حيث قدم في العام 1877، في قاعة كلية الفنون، أولى أعماله الشهيرة: تمثالاً من البرونز أُطلِقَ عليه اسمُ "العصر البرونزي".
وقد
أحدث هذا التمثال فضيحةً عندما اتهِّم رودان
يومذاك بأنه استعمل جسمًا حيًّا لصنع قالب
الجص لتمثاله، الأمر الذي تبين فيما بعد أنه
كان تلفيقًا. ونسجل
أن صاحبنا تعرف في تلك الفترة (في العام 1864
تحديدًا) إلى عاملة الخياطة روز بوريه التي
كان عمرها آنذاك عشرين عامًا، فعملت لديه
كموديل، ثم أصبحت عشيقته، وكانت المرأة التي
رافقتْه طوال حياته والتي اقترن بها رسميًّا
في 29 كانون الثاني من العام 1917، أي قبل أشهر من
وفاتهما[2].
وقد أنجب منها ابنه "غير الشرعي" الوحيد
الذي ولد في العام 1866، أي بعد سنتين من العام
الذي ولدت فيه كامي كلوديل[3]،
التي أصبحت فيما بعد عشيقة رودان، إن لم نقل
إنها كانت قصة حبِّه الحقيقية الوحيدة. 3 "بوابة
الجحيم" بدأ رودان يشتهر في الوسط الفني الباريسي. إذ بدأ هذا الوسط، الذي كان (ومازال ربما) الأكثر حساسية في العالم، يشعر أنه أمام ظاهرة فريدة لم تعرف الإنسانيةُ مثيلاً لها منذ زمن طويل. فكان في 16 آب 1880 أنْ كلَّفتْ إدارةُ الفنون الجميلة أوغوست رودان، الذي لم تقبله ذات يوم طالبًا لديها، تكليفًا رسميًّا بتصميم البوابة الرئيسية لـ"متحف الفنون التشكيلية" المزمَع إقامته في باريس آنذاك – وهو المكان نفسه الذي بات يُعرَف اليوم بـ"متحف أورسيه" Musée d’Orsay – بوابة أرادوها مزينةً بصور منحوتة مستوحاة من الكوميديا الإلهية لدانتي، فكان هذا العمل الرئيسي الذي انكب عليه حتى مماته، وإنْ لم ينجزه تمامًا – هذا العمل الذي اشتُقَّتْ من موضوعاته غالبيةُ أعماله العظيمة.
وطبعًا،
استوحى رودان في عمله هذا من المعلِّمين
الذين سبقوه، وخاصةً من ميكلانجلو وغيبرتي،
مع فارق أنه ركز، هاهنا تحديدًا، على "جحيم"
دانتي الذي سَحَرَه. وهكذا أقدم على تلك
المحاولات المعدة أصلاً للبوابة، التي أضحت
فيما بعد أعمالاً قائمة بذاتها – تلك التي
نستعرض منها، مثلاً وليس
حصرًا، ... أ. "المفكر" (1881)...
هذا
المنحوت الأشهر لرودان، الذي كان مُعدًّا لأن
يصير جزءًا من البوابة، فأضحى عملاً مستقلاً
– هذا العمل الذي عُرِضَ لأول مرة بحجمه
الأصلي (71.5 سم) في كوبنهاغن في العام 1888، ثم
دُشِّنَ أمام "مقبرة الخالدين" Panthéon
في باريس، حيث أصبح رمزًا اشتراكيًّا، قبل أن
يُنقَل في نهاية المطاف إلى حدائق متحف
رودان، حيث وُضِعَ فوق ضريحه. ب.
"آدم وحواء" (1881)... اللذان، كما جاء في العهد القديم، كانا أول من عصى أوامر الخالق الذي طردهما من الفردوس. وقد دُشِّنَ هذا العمل، كأول طلبية ملحقة مستقلة عن البوابة، وإنْ من أجلها، فكان هذا الثنائي الخارق: حيث يقف آدم ذو الإصبع الممدودة (نحو الأسفل؟) لتلقِّي الحياة وهو منحنٍ أمام خالقه تعبيرًا عن الرهبة والخشوع؛ وكذلك تقف حواء، كما وصفها ريلكه، "كأنها منكفئة من بعيد على ذراعيها، ويداها الموجهتان نحو الخارج تودان أن تدفعا كلَّ شيء، حتى جسمها المتحول نفسه"[4]؛ حواء الـ"... خجلى من الإثم، منحنيةً تحت وطأة الرعب، جزعةً جزعًا غامضًا، لا من ندم على الخطيئة، بل من فكرة أنها خلقت كائناتٍ منذورةً للعذاب الآتي..."[5].
ج.
"القبلة" أو "پاولو وفرانتشيسكا"
(1888) كان هذان العاشقان من أوائل الذين قابلهما فرجيل ودانتي في الحلقة الثانية من الكوميديا الإلهية. وقد قُتِلا لأنهما، كما تقول الرواية، تعاطيا "الحب الحرام": ففرانتشيسكا كانت متزوجة، لكنها "أجرمت"، إذ أحبت پاولو، شقيق زوجها، الذي "أجرم" هو الآخر فأحبها. لكنهما قُتِلا عندما فاجأهما الزوج وهما يتبادلان قبلتهما الأولى والأخيرة! فـ"الحب يقودنا دائمًا إلى الموت الوحيد"، كما قال دانتي. وهذا الحب، المقرون بكامي كلوديل، هو الذي ألهم رودان حين أنجز مختلف نماذج هذا العمل الذي نجد نسخةً منه اليوم في متحف أورسيه ونسخةً أخرى في متحف رودان. وأيضًا...
د. "أوغولين وأبناؤه" (1904)
يزيِّن
هذا المنحوت المرير، الذي يشكِّل النقيض
الكامل للقبلة، وفق نموذجه الأول، الجانبَ
الأيسر من البوابة، وذلك قبل أن يستقل فيصبح
عملاً قائمًا بذاته، كما نشهده اليوم في قلب
بركة وسط حدائق متحف رودان. وتتحدث هذه
الأسطورة عن أوغولين الذي اتُّهِمَ
بالخيانة، فسُجِنَ مع أبنائه، وتُرِكوا كي
يموتوا جوعًا عن آخرهم – أوغولين الذي شاهد
أبناءه يموتون أمامه واضطره جوعُه إلى الأكل
من جثثهم قبل أن يموت هو الآخر، والذي قال،
نقلاً عن دانتي في كوميدياه، أنْ: ... هكذا رأيتهم جميعًا... يقعون على
الأرض الواحد تلو الآخر... حتى إنني، وقد فقدتُ
البصر، ألقيت بنفسي على جثثهم التي بلا حراك،
صارخًا وزاحفًا... ناديتهم ليومين بعد وفاتهم،
وناديتهم أيضًا وأيضًا، قبل أن يتغلَّب جوعي
على ما تبقَّى من ألمي... وخاصةً... هـ.
"إيريس مرسالة الآلهة" (1895) هذا العمل الذي قد يبدو مستقلاً، لكني (وإن كنت لست متأكدًا) أشعر وكأنه أُعِدَّ أيضًا لكي يكون جزءًا من البوابة. هو منحوت من أجمل منحوتات رودان وأقواها تعبيرًا: امرأة بلا رأس تطير مقدِّمةً للبشرية فرجها الذي هو، كما وصفه الفنان غوستاف كوربيه في أحد أعماله، "أصل الخليقة" – وهذا لأن جسم المرأة، كما عبَّر رودان (نقلاً عن جوديت كلاديل)، "هو عبارة عن معبد يسير – معبد له، ككلِّ المعابد، نقطة ارتكاز تدور الحجومُ من حولها، كهندسة متحركة..."[6].
وقد
أنجز رودان هذا العمل إبان فترة انهيار
علاقته مع كامي كلوديل. لذا نراه يعكس، في آنٍ
معًا، حالةَ رغبة وعبادة وحال خوف ورفض. مما
يدفعنا إلى التساؤل: بمن كان يفكر حين قام
بهذا العمل؟ وما نعرفه عنهما يجعلنا شبه
متيقنين من أنه كان يفكر بها حتمًا – مما
يجعلنا، فيما يشبه الاستقطاع، نتفكر بعض
الشيء، من منظور "بوابة الجحيم"، بعلاقة
العشق المتبادل بين رودان و... 4 كاميّْ
كلوديل... تلك التي كتب لها ذات يوم هذه الكلمات الملتهبة: "يا طيبتي، إني أركع جاثيًا أمام جسمك الجميل الذي أحتضنه..." – لأنه كان يحبها حتى الجنون، هذه الصبية ابنة الـ19 عامًا التي تعرَّف إليها في العام 1883، فأصبحت تلميذته، ومن بعدُ، عشيقته وحبيبته؛ تلك التي أثَّرت فيه تأثيرًا كبيرًا إبان علاقتهما العاصفة التي دامت من العام 1884 حتى فراقهما النهائي في العام 1898 (وكان عمر رودان يومذاك 58 عامًا، بينما كان عمر كامي كلوديل 34 عامًا)، تلك الفترة الأجمل في حياتهما التي، عبر "بوابة الجحيم"، قدَّم فيها "بورجوازيو كاليه" وتمثال بلزاك، اللذين يُعتبَران من أجمل أعماله...
كامي كلوديل التي تضرعت إلى الألوهة كي تعيد إليها الحبيب بعد فراقهما والتي لم يستطع رودان أن ينساها، فجعل من وجهها الطفولي رمزًا خالدًا لفرنسا بُعيد ذلك.
وأتفكر
بأن رودان الذي كان على دين المرأة، فعبدها من
خلال كامي كلوديل وقدم لها أجمل أعماله، لم
يتجرأ – أو لنقل رفض – أن يجاري هذه الأخيرة،
فيسير بقصة حبِّه معها حتى النهاية، فاختار
في نهاية المطاف، ربما، أن يخرج من "جحيمها"
– الأمر الذي يؤكده بكلِّ صراحة أصدقاؤه
الذين احتفلوا به في فاليزي في حزيران 1903 حين
قُلِّدَ أعلى وسام فرنسي هو وسام "جوقة
الشرف" Légion d’Honneur،
فخاطبه صاحب الكلمة التكريمية وصديقه أنطوان
بورديل، رافعًا الكأس قائلاً: "أرفع الكأس
لأشرب نخبك، رودان، يا أبا العواطف الجياشة
ويا أبا الدموع. أشرب نخبك، يا أيها العائد
إلينا من الجحيم!"... لأن
رودان كان قد ترك "جحيم" حبِّه فعلاً،
لكنه لم يعد قطعًا إلى "جنة" واقع البشر؛
لأنه تركه، على ما يبدو، لكي يبقى إلى جانب
"أصدقائه" وإلى جانب روز بوريه. لكنه بقي
متابعًا – وإن وحيدًا – مسيرته الفنية التي
بقيت منقوصةً لأنه لم يستطع عبور "بوابة
الجحيم"! ونتابع
بعضًا من مسيرة فناننا هذه، الذي في العام 1889
قدَّم... 5 "بورجوازيو
كاليه"... هذا
المنحوت الخالد، الذي كُلِّفَه رودان في
العام 1884 وكان من أجمل أعماله، والذي يخلِّد
ذكرى بطولة وتضحية ستة من أبناء مدينة كاليه
التي حاصرها يومئذٍ (العام 1347) ملك إنكلترا
إدوارد الثالث، فافتدوا بأشخاصهم مدينتهم
المحاصرة. ونجد هذا التمثال اليوم في حدائق
متحف رودان.
وأيضًا،
في العام 1891، كُلِّف رودان، بدافع من رئيس
جمعية الأدباء آنذاك، الكاتب الكبير إميل
زولا، نحتَ نصب تذكاري لأديب فرنسا
والإنسانية الخالد... 6 هونوريه دُه بلزاك فكان
هذا النصب، المعبِّر فعلاً عما تخيَّله
فناننا من شخصية هذا الروائي العظيم، صاحب الكوميديا
الإنسانية. إذ إن المشكلة هنا لم تكن بنظر
رودان مشكلة تصوير وصفيٍّ لشكل هذا الكاتب في
إحدى مراحل حياته، بل كانت أساسًا حل معضلة
كيفية نقله للجمهور، من خلال منحوتة، أعماق
شخصية هذا الكاتب العظيم. فكما عبَّر ذات يوم
لصديقه غْسِل: ... لأن ما فهمته هو ضرورة أن أبيِّن
عبر الشخصية التي أمثِّل لها ذلك الوسط الذي
كان يعيش فيه بلزاك، بحيث تظهر الهالة
الكبيرة من الأفكار التي كانت تتملَّكه
وتعبِّر عما يجيش في أعماق نفسه...[7] فكان
هذا العمل المذهل لفنان صرف الكثير من الوقت
كي يتفهم هذه الشخصية المعقدة؛ وكان هذا
التمثال الذي وصفه ريلكه بـ"... الخليقة
التي استخدمتْ صورة بلزاك كي تُظهِر غرور
وكبرياء الخالق أمام عمله، إنْ لم نقل سكره
وذهوله..."[8]
– هذا العمل الذي لم يُفهَم يومئذٍ، فأثار
الكثير من اللغط حين قُدِّمَ لأول مرة في
العام 1889 ورُفِضَ.
ونتابع
مع... 7 رودان ما بعد كلوديل حيث
يبدو ظاهرًا أنه لم يتأثر بفراقها إلى الحدِّ
الذي تأثرتْ هي بفراقه[9].
لكن بعض التمعن فيما قدَّمه من أعمال بعد
فراقهما يجعلنا شبه متيقنين من أن هذا الفراق
ترك أعمق الأثر في نفسه، الأمر الذي انعكس
انعكاسًا جليًّا على أعماله. ونتفكر أنه لهذا
السبب، ربما، لم يستطع أن يكمل، كما سبق
وأشرنا، "بوابة الجحيم"، وإنْ قدَّم بعد
فراقهما أحد أجمل أجزائها وأجمل أعماله من
خلال "أوغولين" (1904). ونلاحظ أن وتيرة
أعماله تباطأت إلى حدٍّ كبير، لكنْ "شيطانه"
لم يتركه، فلم يصبح "عاقلاً" كالآخرين! وأتوسع
قليلاً، لأعود إلى تلك الفترة التي شهدت
نهايات علاقته بكلوديل، فأتوقف أمام
منحوتتين خارقتين مؤرختين في العام 1896، هما...
فمن
خلال هاتين المنحوتتين نلامس روحًا حقيقية
لرودان وهو في حال سجود أمام إلهه و/أو شيطانه
– وهل من فارق يا ترى بين تلك اليد "الشيطانية"
التي خلقت المرأة وبين تلك الأخرى "الإلهية"
التي جمعتْها بالرجل وأبدعت... "القبلة"؟!
وأتوقف متأملاً أمام أعماله التي تلت، كتمثال...
الذي
يستوقفني شكلُه الشيطاني، أو ذاك الذي
سُمِّيَ بـ...
كجزء
من البوابة، فتستوقفني ملائكيَّته وخشوعه؛
أو وجه فرنسا الطفولي البريء (1903)، الذي هو في
الحقيقة، كما سبق وأشرنا، وجه كامي كلوديل؛
أو...
الذي
استقاه، ربما، من تخيله لجسمها الذي ركع ذات
يوم أمامه! ويستوقفني من أعمال تلك الحقبة
النهائية من حياته خاصةً نصبُ فكتور هوغو،
حيث يبدو وكأن رودان أراد من خلاله التعبير عن
واقع حاله هو، فأتأمل فكتور هوغو الحزين،
حالمًا، مستعرضًا شريط حياته.
ونقارن
أعمال هذه الحقبة الأخيرة من حياة رودان
بعملين فقط من الحقبة نفسها لكامي كلوديل هما...
فنتبين
في بساطة ما حاول الكثيرون طمسَه وعدم
التفكير فيه، ومُفاده أن التلميذة العاشقة،
التي استمرت على طريق "جحيمها"، لحقت
بأستاذها، إن لم نقل إنها قد تجاوزتْه في آخر
المطاف... نعم،
في آخر المطاف، وليس إبان مسارهما المشترك،
لأن ذلك لم يكن ممكنًا آنذاك. فحين كانت
الجميلة تحتضن الوحش[10]،
أو لنقل، حين كان العاشقان يرقصان الفالس،
كانت...
كلوديل
ذائبةً في شخص أستاذها الذي كانت تعبده –
أستاذها الذي كان آنذاك في ذروة عطائه الفني،
كما سبق وبينَّا. ونتابع مع... 8 رودان الرسام لأن
رودان كان رسامًا مثلما كان نحاتًا، كما يمكن
أن نتبين من بعض كروكياته التي نعرضها هاهنا
بهدف تلمُّس ماهية ذلك "الشيطان" الذي
كان يؤرقه، فانعكس من خلال أعماله المنحوتة
كما من خلال رسومه – هذه الكروكيات التي عكست
المواضيع التي كان يعالجها، كما عكست أحواله
واختلاجات نفسه...
فأجد
أن موضوعه الرئيسي كان، كما في منحوتاته،
يدور حول الحب عامةً وحول المرأة خاصةً. لذا
أجدني، وقد شارفت على إنهاء هذه المحاولة
المتواضعة، مازلت متسائلاً فيما قد يبدو
وكأنه... 9 عودة إلى البداية... عودة
إلى ما تفكرتُ فيه، ما تلمَّستْه وسحرني من
عمق رمزيٍّ وسرَّاني لهذا الفنان العظيم... لأن
مَن يلامس "بوابة الجحيم" حقًّا من خلال
حياته وأعماله... ومَن
يعي أبعاد علاقة "المسيح والمجدلية"... ومَن
يعي عظمة يد الخالق – الذي هو الإله والشيطان
معًا – وجمال خليقته من خلاء "حواء" و"القبلة"... ومَن
يتحسَّس عمق عذابات الإنسانية، بحقاراتها من
خلال "أوغولين"، وبعظمتها وجمالها من
خلال "بورجوازيو كاليه"... لأن
مَن يعي هذا كلَّه ويتحسَّسه، لا يمكن إلا أن
يكون سرانيًّا عظيمًا – مهما أخطأ في حياته! *** *** *** [1]
هي، بحسب الميثولوجيا الإغريقية، واحدة من
بنات داناوس، ملك أرغوس، الخمسين اللاتي،
ماعدا واحدة منهن هي هيپرمنيسترا، قتلن
أزواجهن ليلة عرسهن، فحُكِمَ عليهن في
الهادس (الجحيم) بملء برميل لا قعر له. (المحرِّر) [2]
توفيت روز بوريه في 14 شباط 1917، أي بعد أقل من
شهر على زواجها من رفيق عمرها؛ أما رودان
فقد توفي في 17 تشرين الثاني من العام نفسه. [3] ولدت
كامي كلوديل في 8 كانون الأول 1864. [4]
« Comme de loin ployée dans ses bras, dont les mains tournées vers
le dehors voudraient repousser tout, même son propre corps qui se
transforme » (Rainer Maria Rilke, Auguste Rodin, 1928). [5]
« … honteuse de la faute, courbée sous la terreur, obscurément
angoissée moins par le remords du péché que par l’idée d’avoir créé
des êtres pour la douleur future… » (Camille Mauclair, Auguste
Rodin, 1918). [6]
Judith
Cladel, Auguste
Rodin pris sur la vie,
1903, p. 54. [7]
Paul Gsell, « Le musée Rodin à Meudon », La Renaissance de
l’Art français et des Industries de luxe, août 1923. [8]
R.M. Rilke, Auguste Rodin, 1928. [9]
توفيت كامي كلوديل مصابةً
بالجنون في 19 تشرين الثاني 1939، أي بعد وفاة
رودان بـ22 عامًا. [10]
استوقفني بهذا الخصوص تمثالٌ صغير معبِّر
مقتبس من عملين رئيسيين للفنانين الكبيرين
هما: منحوت رأس رودان لكلوديل ووجه فرنسا
لرودان.
|
|
|