|
المَذاهِبُ والمُتَمَذهِبُون[*]
أنتم في عالم مُرهَفِ الظفر والناب، متوتِّر الحسِّ والأعصاب، واسع البطن، ضامر الصدر، حسير البصيرة والبصر، أزغب الفكر والخيال. هو عالم الإنسان المتهالك على الأوشال، وفي قبضته البحار؛ وعلى فِتْر من التراب، وله الأرض بقطبيها؛ وعلى بصيص من النور، والشمس والقمر والنجوم في ناظريه؛ وعلى نسمة من الهواء، وأنفاس الفضاء الأوسع تمرح في حنايا ضلوعه. وأنتم من هذا العالم في بقعة صغيرة جرَفتْ إليها الأيَّامُ منذ القِدَم – وما تزال تجرف – كلَّ ما اسودَّ من رغبات القلب البشري وما ابيضَّ، وكلَّ ما دبَّ على الأرض من أفكار الناس وحلَّق في الجوِّ من أشواقهم. فكم غازٍ غزاها فتملَّكتْه وما تملَّكها. وكم فاتح جاءها فطوتْه من قبل أن يحظى بمفتاحها. وكم من نبيٍّ شعَّ نورُه من جبينها، ورسول أذاع الحقَّ بلسانها. فكأنَّ القدرة التي جعلتْها من الأرض قلبَها، ومن السماء قارورةَ طيبها، ما كوَّنتْها كذلك إلاَّ لتكون فتنةً للغزاة والفاتحين، لعلَّ أرواحَهم تتضمَّخ بطيب روحها، وقلوبَهم تتجمَّل بجمال قلبها؛ ولعلَّهم إذ ذاك يدركون أن السيف مفتاح الجحيم، وليس مفتاح الجنَّة، وأن المدفع نذير الفناء، لا بوق البقاء، وأن خيرات التراب لكلِّ أبناء التراب: مَنْ طَمِعَ منها بأكثر مِنْ نصيبه خَسِرَ نصيبَه، ومَن أباحها لنفسه وحرَّمها على سواه حرمتْه الحياةُ أشياء كثيرة أباحتْها لسواه. هي بقعة قلَّ ذهبُها وكثرتْ مذاهبُها – هذه البقعة التي تدعونها بلادكم. وهناك أشباه العقلاء، وما هم بالعقلاء، الذين يتمنون لو تُعكَس الحال، فتفيض هذه الأرض فضةً وذهبًا، لا لبنًا وعسلاً، وتغيض ينابيعُ إلهامها، فتذوي مذاهبُها وتمسي هشيمًا يَعافُه الحيوانُ والإنسانُ وتحتمي به الفئرانُ والديدان. فهم يقولون إن المال سؤددٌ وسلطان، وقلَّة المال شقاءٌ وخذلان – وهم لا يعرفون من الغنى غير الغنى بالفلس والدينار، ولا من الفقر إلاَّ الفقر إلى الدار والعقار. أما أن تكون لهم ثروة لا تصدأ ولا تنتن ولا تذوب، وأما أن تكون لهم مذاهب تعلِّمهم أن الغنى بالشيء هو الاستغناء عنه، وأن مكمن القوَّة في الفكر والخيال، لا في الظهر والعضل، ولا في السحت والمال، فكل ذلك عندهم هراء في هراء. وهناك أشباه الحكماء، وما هم بالحكماء، الذين يرون في كثرة المذاهب كارثة، فيلومون السماء التي ما جعلتْ هذه الأرض منبتًا لشتى المذاهب حتى جعلتْها منبتًا للشفار والنصال ومعقلاً للخصام والنضال؛ فتفرَّقتْ كلمتُها، ولانتْ شكيمتُها، وهانت قيمتُها، فكانت موطئًا لأقدام الفاتحين، وألعوبةً في أيدي الطامعين. وهؤلاء واثقون كلَّ الثقة، مؤمنون كلَّ الإيمان، بأن جراثيم الشقاق والنزاع إنَّما هي في المذاهب عينها، لا في جهل المتمذهبين بها – وهم عن اكتناهها قاصرون. ومن ثمَّ فأشباه الحكماء يقولون إن مذاهب هذه البلاد قد أدَّت بها إلى الخمول والتواكل، والاستسلام والتخاذل؛ فسبقتْها الأممُ التي تتكل على نشاط ساعِدها وقوَّة إرادتها، وتركتْها خلفها أشواطًا لا حول لها ولا طول، ولا رهبة ولا وقار. وكأنَّهم بذلك يقولون إن مَن يتكل على ساعِده أقوى من الذي يتكل على ساعِد ربِّه. لقد كفروا بالحياة وما أحسنوا الكفر، وآمنوا بشعرة من شعورها فما أحسنوا الإيمان. ولو أنهم أحسنوا الإيمان لعرفوا أن الاتكال على القوَّة التي منها وفيها وإليها كلُّ شيء لهو القوَّة التي ما بعدها قوَّة؛ ولو أنهم أحسنوا الكفر لأدركوا وهنَ الاعتداد بالنفس وخذلان القائل: "بمشيئتي عملت وأعمل وسأعمل كيت وكيت." أيُّها الكافرون، أحسِنوا الكفر! ويا مؤمنون، أحسِنوا الإيمان! أمَّا الذين لا كفرهم كفرٌ ولا إيمانهم إيمان فأشدُّ الناس وبالاً على أنفسهم وعلى الناس. وهناك أشباه المصلحين، وما هم بالمصلحين، الذين يرتأون توحيد المذاهب لاعتقادهم أن الناس إذا ما توحَّدتْ مذاهبُهم توحَّدتْ قلوبُهم وأفكارُهم، فجَلَتْ عنهم جيوشُ التعصُّب والضغينة وحلَّتْ محلَّها أجنادُ الوئام والسلام. إذن فليوحِّدوا أذواق الناس في كلِّ ما يأكلون ويشربون، ويحبون ويكرهون؛ إذن فليوحِّدوا أحلامَهم في الليل وأهواءهم في النهار؛ إذن فليوحِّدوا ميولَهم وأعمالَهم، وليوحِّدوا قاماتِهم وبيئاتِهم، كي لا يحسَّ واحدُهم ما لا يحسُّه الآخر؛ إذن فليصهروهم في أتون واحد، ويسكبوهم من جديد في قالب واحد. لكنني أقول لكم إنَّهم ولو فعلوا كلَّ ذلك – وهو مستحيل إلاَّ على الله، ولو شاء الله لفعله من زمان! – لما خلقوا مذهبًا واحدًا تنصبُّ فيه جميعُ قلوب الناس وأفكارهم. فما المذاهب بأنواعها سوى اتجاهات الفكر المولود إلى الفكر المولِّد، والخيال الأدنى إلى الخيال الأسمى. هي مناقب كثيرة في جبل الوجود، لكنها كلها تؤدي إلى القمة؛ هي شعاعات عديدة في دائرة الوجود، لكنها تجتمع في محور واحد هو الله. فمادامت غايتك من مذهبك الوصول إلى الله، وغايتي من مذهبي الوصول إلى الله، فما شأنك معي أي طريق أسلك إلى الهدف؟ وما شأني معك إذا سلكتَ إليه طريقًا غير طريقي؟ لعلَّك نسرٌ تبلغ القمَّة بخفقة واحدة من جناحيك؛ ولعلني سلحفاةٌ أدبُّ في منعرجات الأرض. أو لعلَّني أصبحت خيالاً هائمًا، كيفما اتَّجه واجَه الخيال الأكبر؛ ولعلَّك لا تزال شهوةً خسيسة، أنَّى دَرَجَتْ تعثَّرتْ بخساستها. فما بالك لا يهنأ لك عيش إلاَّ إذا شددتَني بحبال خساستك؟! وأنا، من قبل ومن بعد، ما اخترت سبيلي إلى الله، بل اختاره الله لي. هل تكون أعدل من الله وأعرف بمشيئته منه؟! وأخيرًا، هناك أشباه المرشدين، وما هم بالمرشدين، القائلون بنبذ التعصب وهم من المتعصبين، والكارزون بالتساهل وليسوا من المتساهلين. وهم يعنون بـ"التعصُّب" تعلُّق الإنسان بمذهبه تعلُّقًا يحمله على كُره كلِّ ذي مذهب سواه؛ وهم يقصدون بـ"التساهل" أن يغضَّ الواحدُ الطَّرْفَ عن الاختلافات التي بين مذهبه ومذهب جاره، فلا يقاتله من أجلها ولا يضطهده، ولاسيما إذا كان كلاهما من أبناء وطن واحد. ولهم في ذلك شعار يُكثِرون من ترديده، وهو: "الدين لله والوطن للجميع" – وكانوا أصدق نطقًا وأبعد تأثيرًا لو أنَّهم قالوا: "الوطن لله والله للجميع." فمن أين لنا – وكلنا عيال على الله – أن ندَّعي الملك في الأرض أو في أيِّ شطر منها، وأن نمنِّن الله لقاء ذلك بجعلنا الدين وقفًا عليه؟ ومتى كان الله في حاجة إلى دين إنسان؟! إنما أحتاج إليه لأجعله ديني، ولا يحتاج إليَّ لأدين به. وهو للكلِّ وفي الكل. فمن أين لك أن تدَّعي منه أكثر ممَّا لي؟! ومتى كنتَ قادرًا أن تجزِّئ الله وتوزِّعه حصصًا غير متساوية على الناس كنتَ أقدر من الله. أما فلسفة "التساهل" فأعيذكم منها إن كنتم من المؤمنين. فأنتم عندما "تتساهلون" مع الناس – إنْ في عقيدة أو ذوق أو شعور – فكأنَّكم تقلِّدونهم جميلاً، متكرِّمين عليهم بحقٍّ ليس لهم، وواضعين أنفسكم في مرتبة أعلى منهم؛ وكأنَّكم بذلك تقولون لهم: "نحن على هدى وأنتم في ضلال، لكنَّنا نسكت عن ضلالكم رأفةً بكم ودرأً لما قد يكلِّفنا ردُّكم إلى الحقِّ من تعب وجهاد." حذارِ، يا صاحبي، أن تجعل نفسك أكرم من الله، وأعلم منه بذاته، وأعدل منه في خلقه. فهو قد أهَّلني لأحمل صورته ومثاله، ولأمتِّع روحي بجمال أكوانه؛ وقد بَسَطَ أمامي خيراتِ الأرض، وسَكَبَ عليَّ بركاتِ السماء، وما منَّنني يومًا بعطية. وأنتَ، مَن أنت لتحجبه عني، فلا أراه إلاَّ بعينك، ولا أمجده إلاَّ بلسانك؟! وأنتَ، مَن أنت لـ"تتساهل" معي، فـ"تسمح" لي أن أبصر ربي بعيني وأمجِّده بلساني؟! ومذهبي في الله هو صوت الله فيَّ. فمَن أنت لتخنقه، أو لـ"تتساهل" معي فلا تخنقه؟! ومذهبي من روحي كأنفي من وجهي: ذاك يكمل كياني الباطني، وهذا يتمِّم كياني الخارجي. فإن أنت لم يعجبك أنفي، بل لم يعجبك من أنوف الناس غير أنفك، أفلا امتشقت سيفك وأعملْتَه في أنوف الناس لتجعلها مشابهةً لأنفك؟! إن يكن مذهبي نتانةً في أنفك وقذًى في عينك، فهو ليس كذلك في أنف الحياة وعينها – وإلاَّ لما جادت عليَّ بذاتها. وإذن أنت عندما تضطهدني إنَّما تضطهد الحياةَ التي هي أمك وأمي وأبوك وأبي، وتجعل نفسَك أعلم منها بذاتها، وأعدل منها في بنيها. ولعلك، يا صاحبي، لو تفقَّدتَ قلبَك لوجدت أن النتانة التي في أنفك إنَّما تتصاعد إليه من قلبك؛ ولعلك لو تفقَّدت فكرَك لوجدت أن القذى الذي في عينك إنَّما تسرَّب إليها من فكرك. لا. لا، يا صاحبي. خذْ "تساهلك" عني! فحقِّي أن أسلك إلى خالقي السبيلَ الذي يهديني إليه خيالي، لم يأتِني من قبضتك ولا من حدِّ سيفك. وإذا ما شئتَ أن تعطيني شيئًا، أو أن تأخذ مني شيئًا، فأعطِني محبتك وخذ محبتي: فأنا أحوج إلى محبتك منِّي إلى تساهلك، وأنت أحوج إلى محبتي منك إلى زادي. وأنت إذا ما أسكنتَني قلبَك أدنيتَني من محجَّتي، وأنا إذا ما أسكنتُك قلبي أدنيتُك من محجَّتك. فأنت في كلِّ ما تفتش عنه لا تفتش في الواقع إلاَّ عني، وأنا لا أفتش إلاَّ عنك. وما مذهبي غير سبيلي إليك؛ فليكن مذهبك سبيلك إلي. قال أحدهم: "دعوني أنظُم أناشيد الشعب ولا همَّ لي من بعد ذلك مَن يسنُّ شرائعه." ولو أنَّه قال: "دعوني أنظُم صلواتِ الناس ولا همَّ لي من بعد ذلك مَن يسوسهم"، لجاء بحقيقة أسمى وأروع من تلك. فالناس، مهما تنوَّعت ملاهيهم، من علوم وفنون، واختراعات واكتشافات، ومتاجر وسياسات، يشعرون أبدًا بخيبة الهزيمة من وجه قوة لا قوَّة لهم عليها؛ ومهما أمعنوا في طلب الملذات الأرضيَّة، وسكروا بقدرتهم الفكرية والفنيَّة، تمرُّ بهم ساعاتٌ يرون فيها الأرض قاعًا صفصفًا، وكلَّ أعمالهم قبض الريح: فلا علومهم وفنونهم، ولا اختراعاتهم واكتشافاتهم، ولا متاجرهم وسياساتهم، قرَّبتْهم قيد شعرة من السعادة التي ينشدون والمعرفة التي يطلبون. فهم كلَّما عضَّهم الألمُ لجَّ بهم الشوقُ إلى الحياة الصافية من الألم، فثابوا إلى أنفسهم يضرعون إلى مَن هو فوق اللذة والألم ويبتهلون؛ وهم كلَّما فتَّتَ الموتُ أكبادَهم جدَّ بهم الوجدُ إلى الكينونة التي لا تعرف الموت، فهبوا إلى معابدهم يستعطفون ربَّ الحياة ويترجَّوْن؛ وكلَّما طلبوا المعرفة، فألفَوْا أبوابَها موصدةً في وجوههم، راحوا يطرقون بابَ مَن ليس معرفة إلاَّ منه ويسجدون له ويمجِّدون. وأنتم، يا أبناء هذه البقعة الصغيرة من الأرض، أما كفاكم مجدًا – إن كنتم للمجد طالبين! – أن بلادكم نَظَمَتْ صلواتِ نصف سكان الأرض، فأعطت أفكارَهم أجنحةً وقلوبَهم ألسنة، وطافت بهم الأزليَّة والأبدية، وسَمَتْ بأرواحهم إلى عرش السناء الأسمى؟ أم ما كفاكم فخرًا أن تكون بلادكم في كلِّ يوم وجهةَ الملايين من الأحداث والشبان والكهول والشيوخ في كلِّ أقطار الأرض، كلَّما جاعوا إلى أكثر من الخبز وعطشوا إلى أكثر من الماء؟ فكيف لا تخجلون من بعد ذلك أن تحسدوا غيركم وتقلِّدوه، وأن تحتقروا أنفسكم وتكبروه؟ أم كيف تتبرَّمون بمذاهبكم، وهي تراثكم الأثمن وتراث الناس أجمعين؟ ألا فتشوا مذاهبكم بإخلاص. فتِّشوها بلهفة العاشق. فتشوها بطهارة الطفل، وحرقة التائه، وإيمان المحتضر، تجدوا فيها السلامَ الذي إليه تطمحون، والطمأنينةَ التي بها تحلمون، والحريةَ التي باسمها تترنَّمون. *** *** *** [*] ميخائيل نعيمه، البيادر (1940-1944)، طب 9، مؤسسة نوفل، بيروت، 1980، ص 18-26. |
|
|