|
الفيديو كليپ إثارةٌ وجنسٌ ومال
ظهر مصطلحُ «الثقافة الجماهيرية»، تمييزًا لها عن ثقافة المثقفين «العليا»، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، في أمريكا أولاً، ولم يلبث أن انتشر في الغرب. وهي الثقافة التي انتشرت مع تطور وسائل الإعلام ونموها، وخصوصًا التلفزيون، حيث بدأت بأفلام رعاة البقر وموسيقى الزنوج والسيرك اللندني، ولم تلبث أن استوعبتْ أوجُهَ النشاط الثقافي البشري كافة مع انتشار البثِّ الفضائي والنقل الإلكتروني. وقد بلغت فورةُ الموجة الجديدة حدًّا لم يتوقعه أحد، حتى باتت تشكل بحق «ثورة ثقافية» رابعة. والثقافة الجماهيرية هي الثقافة التي يتم إنتاجها وفق معايير العمل الصناعي والإنتاج الاستهلاكي، والموجَّهة إلى الجمهور عِبْرَ وسائل الإعلام الجماهيرية. فهي بذلك تحقق الصيغة الكاملة للصناعة الثقافية، لتتحول الثقافةُ، بدورها، من محيطها المعرفي التربوي إلى آفاق المتعة والتسلية، بما يتناسب مع متطلبات المجتمع الاستهلاكي، حتى بات الاستهلاك الثقافي مماثلاً لاستهلاك السلع اليومية، وأمسى إنتاجُ عمل فنيٍّ ما، مثلاً، مماثلاً لإنتاج سلعة يومية كالصابون! فالإنتاج الثقافي الجماهيري يتم «بالجملة»، ويلتزم آليات تقسيم العمل، يتكيف مع «ما يطلبه الجمهور»، ويهدف، فوق كلِّ شيء، إلى تحقيق المزيد من الأرباح. بذلك سحبت شركاتُ الإنتاج الثقافي البساطَ من تحت أرجل الدولة، على الرغم من أنها لازالت تمارس دور شرطي الثقافة وبوليس الذوق وجمرك النقد الجمالي، يساندها المثقف المبدع، الذي لم يعد أمامه إلاَّ الانخراط في الحشد والتسكع في شوارع الثقافة الجديدة–القديمة، أو عرض إنتاجه في الهامش الضيق المتاح خارج سوق الإنتاج: تؤدي الحالة الأولى إلى اغتراب المبدع عن عمله، لأنه مجبَر على الالتزام بآليات الإنتاج، ويتم سحق فرديته على يد نجومية «النجوم» – «الأولمپيين الجدد»، كما يسميهم إدغار موران – بحيث يصل به الأمر إلى التنكر للعمل الذي ساهم في صناعته؛ أما في الحالة الثانية، فإنه ينزع إلى ازدراء الثقافة الجماهيرية بتعالٍ أخلاقيٍّ وعدوانية مناهِضة لهذا الانحطاط الثقافي، أو لهذه «الثقافة الهابطة»، كما يدعونها في الغرب. لكن الكارتل العولمي للصناعة الثقافية لا يعمد إلى إزاحة الثقافة العليا، بل يحتويها ويُقَوْنِنُها ويسطِّحها، للوصول إلى أكبر عدد ممكن من المستهلِكين عِبْرَ المجانسة الثقافية وتوحيد القيم الاستهلاكية. إذ إن الثقافة الجماهيرية هي ثقافة «المتوسط الحسابي»، ثقافة «القاسم المشترك» بين جمهور المتلقِّين. لذلك نجد أن الثقافة المضادة للثقافة الجماهيرية إنما انبثقت من قلب هذه الثقافة ذاتها (كـ«التيار الأسود» في كاليفورنيا، على سبيل المثال)؛ وبالتالي، لا يمكن مواجهة هذه «العدمية الثقافية» من خارجها، بل عِبْرَ الاستثمار الثقافي – وهو واجب الدول والحكومات والمؤسَّسات الثقافية، التي لا بدَّ لها من أن تتخلص من آليات الإنتاج المركزي البيروقراطي وأن تتمتع بالمرونة الكافية، لتكون قادرة على منافسة حيوية حركة رأس المال الثقافي للقطاع الخاص. مهندس الصوت يحل محلَّ الملحِّن وبائع الكلمات محلَّ الشاعر كان لا بدَّ من هذه المقدمة الموجزة للوصول إلى موضوع مقالنا هذا: ظاهرة «الفيديو كليپ» video clip، التي تُعدُّ اليوم إحدى أكثر تجلِّيات الثقافة الجماهيرية تأثيرًا على الجمهور، كونها تخاطبه بلغة سمعية–بصرية، عِبْرَ الصورة والكلمة والموسيقى والحركة؛ فهي، بذلك، تتجاوز حدود الحواس لتصل إلى أعماق فكره ونفسيَّته وغرائزه، وتتوجَّه إلى الطفل الخيالي القابع فيه، مقدِّمةً له عالمًا لامتناهيًا من الألعاب المثيرة، ومجالات لا حدود لها للترويح، وآفاقًا لا نهاية لها للهرب من القلق والعزلة والتوتر اليومي، بالإضافة إلى الوجبة اليومية الهادفة إلى إشباع الشبقية النَّهِمَة للغريزة الجنسية، مالئةً، ومستهلِكةً، كلَّ ثانية فراغ لديه (لذلك سُمِّيَتْ، أيضًا، «ثقافة أوقات الفراغ»). تبدو هذه الثقافة وكأنها لا تفرض نفسها على المتلقِّي، بل «تقترح» وحسب. ولكن آليات التسويق والإعلان تخلق لدى المشاهد شكلاً من «المنعكس الشرطي» الپافلوفي pavlovian conditioned reflex، بحيث يتم خلق حاجات جديدة باستمرار من أجل دوام عملية الإنتاج ودوران حركة رأس المال الصناعي–الثقافي. فنجد أن صناعة الفيديو كليپ – نموذجنا – تترافق مع مجالات صناعية كثيرة أخرى، متعاضدة فيما بينها، كالصحافة، المقروءة والمسموعة والمرئية، التي تنشر أخبار النجوم (خصوصياتهم، غرامياتهم، نزاعاتهم، إلخ)، وصناعة الأزياء ومستحضرات التجميل والإعلانات والمسابقات الفنية والرياضية، إلى آخر قائمة السلع الثقافية. لذلك يغدو من البلاهة التحدث عن «الديموقراطية الإعلامية» المزعومة: وسائل الإعلام الحديثة تعطيك رغم أنفك، وتسلب ما لديك، رغم أنفك أيضًا! فالعلاقة بين المنتج والمستهلك غير متكافئة، بل هي «حوار بين ثرثار وأخرس»: ليس أمام هذا الأخير إلا الاستجابة بنعم أو بلا، فيُبقي على القناة التلفزيونية أو يغيِّرها إلى ما لا يختلف عنها إلا بالنوع: فالقنوات الإخبارية والفنية تعملان جميعًا وفق آليات متماثلة؛ لذلك نرى أن تفاعُل المشاهدين مع أسامة بن لادن ونانسي عجرم، على سبيل المثال، يسير وفق الآليات النفسية ذاتها، على الرغم من الفروق الكبيرة بين الشخصيتين–النجمين. لكن تأثير الفيديو كليپ أقوى من الخبر وأعمق منه بكثير: فـ«الصورة بألف كلمة»، كما يُقال في الإعلام. لذلك لا تكتفي القنوات الإخبارية بنقل الأخبار، بل تعمل على الوصول إلى مواقع الأحداث لتصويرها. فلو لم يتم تصوير عملية 11 أيلول لما وصلت إلى هذا الحدِّ الهائل من الأسْطَرَة mythologizing، ولما تمكَّنت الولايات المتحدة الأمريكية من استغلال تعاطُف الناس لتخوض حربًا ضد «القاعدة» وتحتل أفغانستان بالتالي. توجيه الثقافة: من أيدي المثقفين إلى أيدي رجال الأعمال إذًا، فدفة توجيه الثقافة قد انتقلت من أيدي المثقفين إلى أيدي رجال الأعمال، سواء في مجال الإنتاج الثقافي التقني، حيث حلَّ مهندسُ الصوت محلَّ الملحِّن الموسيقي، والموسيقى الإلكترونية محلَّ العازفين، وبائعُ كلمات الأغاني محلَّ الشاعر، أو في المجال القيادي، حيث حلَّ «الأولمپيون الجُدُد» محلَّ نظرائهم القدماء: فشخصيات مثل عمرو دياب وجورج وسوف وروبي وغيرهم من نجوم الثقافة الجماهيرية يشكِّلون المقابل الموضوعي لأدونيس ومحمود درويش وهدى بركات في ثقافة المثقفين. وليس عبثًا أن تم اختيار هيفاء وهبي سفيرةً للثقافة العربية في معرض بيروت للكتاب في العام 2005، أو اختيار عادل إمام ودريد لحام سفيرين للنوايا الطيبة؛ فهؤلاء النجوم أمسوا الصنَّاع الفعليين، لا للرأي العام وحسب، بل كذلك للذوق العام والحسِّ العام. فالإنسان الخيالي الذي تخاطبه الصورة إنما يستجيب لها من خلال التماهي identification والإسقاط projection: فتيات اليوم يعمدن إلى الاقتداء بالنجمات، من خلال الأزياء وعمليات التجميل و«الآيروبيك» و«الماكروبيوتيك»[1] وتغيير اللهجة والصوت والحركات[2]؛ كما يعمد الذكور إلى تقليد النجوم الذكور، عبر تنمية العضلات ورسم الوشوم والنظارات الشمسية والقيادة المتهورة للسيارات والمغامرات الصبيانية والعصابات الشللية إلخ. بهذا نفهم لماذا اعتبر أحد النقَّاد أن شعار هوليوود هو «فتاة ومسدس»، كما تمثَّل في سلسلة أفلام «جيمس بوند» في أكثر تعبيراته نصوعًا. لكنْ، على الرغم من إحساس المتلقِّي بالمشاركة، إلا أنه يبقى مبعَدًا عن المشاركة الفعلية، ومنفكًّا عن المشاركة الجسدية، ومقصورًا على الوضع السلبي للـ«متلصص»، بحيث يصح القول إن المُشاهد يتفاعل مع العالم الحقيقي–الخيالي من وراء الزجاج الذي يحاول كَسْرَه عِبْرَ الدردشة الإلكترونية، ورسائل الـSMS، والمشاركة في برامج المسابقات، وتجميع تواقيع النجوم على الأوتوغراف الشخصي، مما يسمح له بتوهُّم المشاركة. ولذلك نلاحظ أن المراهقين يتحدثون عن أبطالهم المفضَّلين باسمهم المفرد: كاظم (الساهر)، جورج (وسوف)، إلخ، فيما لن نجد مثقفًا واحدًا يقول: ممدوح أو محمد في حديثه عن ممدوح عدوان أو محمد الماغوط. لذلك فالمشهد الحديث حضورٌ وغياب؛ والمُشاهد الحديث مشارك في الظاهر، مغترب في العمق: فهو مشاهد الاتصال عن بُعد. وهنا يكمن الفرق الجوهري بين العرض التلفزيوني أو السينمائي وبين العرض المسرحي، بين الرقص في الأعياد في القرى (الفلكلور)، مثلاً، وبين الفيديو كليپ، على الرغم من أنهما يرجعان إلى جذر واحد. فالفنون الجماهيرية تعبِّر عن شكل بدائي في العلاقة، على الرغم من التطور التقني، لكونها مادية مباشرة، حتى في بُعدها الجمالي، حيث يتم التركيز على الجانب الجسدي والحسِّي فيها، لتُدخِل المشاهدين في أجواء اللعب والمتعة والإثارة، الأمر الذي يقصِّر عمر طفولة الطفل، الذي سرعان ما يصبح مراهقًا يحاول تأكيد فرديته في محيطه الأسري، ويُعيد الراشد إلى «الولدنة»، فتنمو الصحافةُ الصفراء على حساب مكتبة الطفل، الذي يجد في أبطال «غراندايزر» وأضرابهم ما لا يجده في مجلات مثل أسامة وماجد، على سبيل المثال. وعلى الرغم من أنَّ بعض المنتجين قد يعمدون إلى المغامرة، فيُقدِمون على إنتاج أعمال راقية، كما نلاحظ في بعض «الكليپات» التي يبدعها مخرجون أُعطوا هامشًا أوسع من الحرية، لكنها تضيع وسط ركام من الأعمال الهابطة. غرائز الإنسان مصدر طاقة لعمل الثقافة الجديدة لكنْ ليس للمتعة حدود، ولا يمكن إشباع نهم الإنسان إلى اللعب – الأمر الذي يوصلنا إلى مشكلة المشكلات: الإدمان. فبتحول الإبداع الثقافي إلى آليات الإنتاج الاستهلاكي الثقافي، يفعل المبدأ الأقصوي لعمل الآلة فعلَه: فالآلة لا تتوقف عن الإنتاج مادامت متصلةً بمصدر الطاقة؛ وهذا المصدر هو غرائز الإنسان ورغباته وخياله اللامحدود. والاستهلاك النَّهِم للمنتجات الثقافية المتجددة على الدوام جعل البيت هو المكان الذي يهرب منه الإنسان إليه، وأصبح منزل الأسرة مغترَب الإنسان الحديث، حتى إن الأسرة تجلس ساعات طويلة أمام الشاشة الصغيرة دون تواصُل فيما بين أفرادها، إلا إذا انقطع التيار الكهربائي، فينظر كل فرد إلى الآخر، وتنبثق لحظةٌ من الحنان العائلي والدفء المنزلي، لا تلبث أن تنقطع مع عودة الجهاز إلى العمل. لذلك فإن الاتصال عن بُعد يتم على حساب التواصل الجسدي المباشر، الأمر الذي يعزِّز حالة الفصام الجماعي لسكان المدن الكبيرة. فقاطن المدينة الذي يبحث عن مقعد فارغ في وسيلة مواصلات، أو ينزوي في أبعد ركن في حديقة عامة، لن يتوقف عن الثرثرة إن وَجَدَ مَن يستمع إليه. وبالتالي، فالأمراض النفسية، كالاكتئاب والميول الانتحارية والإجرامية، تشكِّل القليل من الثمن الباهظ الذي يدفعه الإنسان اليوم مقابل المتعة البخسة التي يحصل عليها من خلال الوجبة الحسية الخيالية للثقافة الصناعية التي تتوارد عليه بسرعة فائقة لا تترك له مجالاً لتنمية ذاته: فهو يتعرض للضغط اليومي والاعتداء المباشر من وسائل الإعلام التي تقدِّم له الثقافة كمؤونة لا تلبِّي رغباته فحسب، بل تخلقها وتستبقها أيضًا – ليبقى أمامنا، قبل الوصول إلى النهاية، إعادة طرح سؤال: ما العمل؟ – للمرة الألف. ربما بتنا ندرك أن مواجهة الانحطاط الثقافي متعذرة من الخارج، عبر الرفض وادِّعاء العمى والصمم والاعتزال، كما يفعل المحافظون والأصوليون. ففي الغرب وصلت ثورتهم إلى مداها الأقصى، وكان لا بدَّ أن يختمر شيء في عمق الأزمة الشاملة. نجد بوادر تلك الخميرة في الانفجارات داخل الثقافة الجماهيرية نفسها، وفي الارتداد إلى روحانيات الشرق من أجل البحث عن مخرج. لكننا في الشرق، على الرغم من تضاعُف الأمر، كون دولنا ومجتمعاتنا استهلاكية أصلاً، بحيث تجري عملية استهلاك داخل الاستهلاك، لدينا ما يكفي من الإمكانات للمقاومة التي ظهر شكلُها السلبي في تنامي التطرُّف، وتحوُّل الإرهاب إلى ظاهرة، وانتشار العنف كردِّ فعل على عدم القدرة على الاستيعاب والمشاركة. الجانب الإيجابي في الأمر أن مجتمعاتنا لم تغرق تحت أمواج المعلومات بعد، ودولنا مازالت فتيةً وقيد الإنشاء، وبعض جوانب ثقافاتنا المحلِّية لا تزال على قيد الحياة؛ والأهم من هذا وذاك هو أن الأسرة، كحاضن تربوي، لم تتفسخ بعد. لكن هذه المواد الأولية عاجزة وحدها عن مقاومة الموجة العاتية؛ لذا لا بدَّ من إدخالها في عملية إنتاجية شاملة قادرة على تحقيق تنمية كافية، بدءًا من التحول إلى المدرسة الإدراكية في التربية والتعليم، بدلاً من النموذج السلوكي الاتباعي السائد، وذلك لتنمية الحس النقدي لدى الطفل، كأمر ضروريٍّ لتحقيق الحدِّ الأدنى من التقدير الذاتي والحرية الفردية، مرورًا ببناء وسائل الترفيه واللعب وتطويرها، كالملاعب الرياضية ومقاهي الشطرنج ونوادي المطالعة، وصولاً إلى مراكز البحث والعلوم. كذلك، هناك حاجة ماسَّة إلى «ثورة خضراء» وتنمية للريف وإعادة الناس إلى العمل في الحقول، بالإضافة إلى ضرورة تمكين empowerment المرأة كفاعل أساسي في رقيِّ المجتمع أو انحطاطه إلخ. فقائمة الضرورات لا تنتهي بعد قرون من السبات، لكنْ لا بدَّ من فعل شيء – إن لم نكن قد استسلمنا للتخلف كقَدَرٍ لا فكاك منه. وفي الختام، أحب التذكير بأن الثقافة تعبير عن نمط حياة المجتمع وكلِّية النشاط البشري لأفراده. فلا يمكن تغيير الثقافة من دون تغيير أنماط الحياة التي لا تتطور، بدورها، من دون تحقيق الحدِّ الأدنى الضروري والكافي للمعيشة. فالأفكار والنظريات لا تصنع واقعًا نبيلاً وجميلاً مهما بلغت من النبل والجمال. *** *** *** [1] على الرغم من أهمية هذا النظام الغذائي والحياتي الصحي (بالمعنى العميق) المستوحى من مبادئ الفلسفة التاوية، فإن آليات الاستهلاك حوَّلتْه في مجتمعنا إلى «موضة»، مثله كمثل أيِّ «ريجيم» للتنحيف سواء بسواء! (المحرِّر) [2] لعلنا نذكر بيع ملايين الفساتين «الكاساندراوية»، من المحيط إلى الخليج، بعد عرض مسلسل «كاساندرا» بدبلجته العربية. |
|
|