|
الطُّغيان والواقعيَّة النَّفسانيَّة
1 يُفسِدُ الطغيانُ المديدُ النشيطُ السياسةَ والثقافةَ معًا من طريق إضفاء طابع نفسيٍّ مكثف عليهما وإضعاف عقلانيتهما. فهو يورث ضحاياه تجارب قاسية، تدفعهم إلى احتضان أحقادهم ومراراتهم وضغائنهم وندوب أرواحهم كما تحتضن الدجاجةُ بيضَها إلى أن يفقس. تحلُّ الأهواءُ محلَّ المصالح، والمشاعرُ مكانَ الأفكار الواضحة، والانفعالاتُ مكانَ المبادرة الواعية. وأعني بـ"الطغيان" tyranny السلطة التدخلية الاعتباطية التي لا تكتفي بقمع معارضيها، كما يفعل "الاستبداد" despotism، بل تطلب ولاءً تامًّا من جميع رعاياها، وتفرض استعراضًا دائمًا لهذا الولاء في المجال العام. ولتحقيق ذلك، تسحق مَن يُشتَبَه في معارضتهم، عِبْرَ التعذيب أو تمضية مُدَدٍ طويلة في سجون وحشية، أو تحكم عليهم بالإعدام. التعذيب والسجن والقتل ممارسات ضرورية لدوام مشاركة الرعايا جميعًا في طقس الاحتفال بالطاغية tyrant، طقس عبوديتهم. تصبغ النزعةُ النفسيةُ السياسةَ والثقافةَ بصبغة شعورية كثيفة تمنع نهوضهما. فالثقافة لا تتفتح إلا إذا تحررت من مكنونات النفس، أو من المعطى النفساني المباشر، أو أيضًا الواقعية النفسانية، واستقلتْ عنها، واستندت، في المقابل، إلى مقدمات ومبادئ صنعية مشتركة. ومثلها السياسة: لا تستقل وتتطور إلا بضبط الاندفاعات النفسانية وعَزْلها، وبمنع تسرُّب مياهها الملوثة بالهوى والشعور إلى المجال العام، والاستناد، عوضًا عنها، إلى مبادئ ومقدمات مصنوعة و"مشهورة" (معلَنة ومناقَشة وقبولها مستقر) أيضًا. أعني بـ"الواقعية النفسانية" Psychological Realism ردَّ الواقع إلى ما ينطبع على شاشة النفس، وتثمين الانطباع هذا بدلاً من مقاومته وتصنيعه والشغل عليه وتطويعه. وإذا كنَّا نتحدث عن مغالبة الهوى وضبط النفس والسيطرة على دفقاتها الشعورية والتحكم بالغرائز، فإن المقصود بذلك حماية التعاملات بين الناس – والثقافة والسياسة قطعًا – من النفساني المباشر الذي يميِّز الأطفال والطغاة والمجرمين. إن المعنى لا ينبع مباشرة من العناء، وإنْ كان هذا "مادته الأولية": بينهما أدوات تخمير وتقطير وتعليب، تصفِّي خمر المعنى من ثفل المعاناة. الكاتب الناضج هو الكاتب الذي يقاوم أفكاره الأولى، لا انطباعاته وخواطره وحسب. والسياسي الجدير هو السياسي الذي يضبط نفسه ولا ينقاد لانفعالاته وأحقاده: فمَن لا يجيد "سياسة" نفسه لا يمكن له أن يجيد سياسة أنفس كثيرة؛ ومَن ينقاد لهواه ليس جديرًا بأن يقود أناسًا متعددي الأهواء ومتنافريها. وقديمًا جعل العربُ الحِلم رأس فضائل سادة قومهم. 2 إن المشترك بين أنظمة الطغيان جميعًا أنها تنكِّد عيشَ مواطنيها وتميل إلى التعامل معهم كالأيتام. أما خصومها المعلَنون، فقد تسحقهم، أو، على الأقل، تُذِلُّهم وتعسِّر حياتهم. والهشاشة النفسية هي الثمرة المحتومة للطغيان، منظورًا إليه كتجربة للقسوة والاعتباط، وكشُحٍّ عاطفي شديد. قد تتظاهر "الهشاشةُ النفسية" psychological fragility على شكل قسوة وتحجُّر نفسيٍّ وروحي. فمن أجل تحمُّل قسوة الطغيان العشوائية يضطر رعايا الطغيان إلى تسميك جلودهم، إلى "التمسحة"، وإلى تسييج قلوبهم بجدران عالية من التبليد العاطفي الذاتي. فليس غير الاستيئاس يخفف من وطأة اليأس: إنه تطعيم ضد اليأس بتشرب جرعات متزايدة منه. وبالمثل، ليس غير الاستحباس يخفف من وطأة الحبس. (و"الاستحباس" مصطلح سجني، يعني التصالح مع السجن والتآلف معه وعدم الجزع منه، كأنه شرطنا الطبيعي!) قد يكون الحلاَّن هذان ناجحين؛ بيد أن شرط نجاحهما هو تطويع النفس على عدم توقُّع الكثير من الحياة، وعلى تقبُّل الشرط الميئِّس والامتناع عن السعي إلى تغييره. فكأننا نبتات صحراوية، تنجح في تحمل طغيان بيئتها؛ لكن هذا هو كل شيء تفعله: يستهلك جهدُ البقاء والتكيف كلَّ طاقتها، فلا يترك لها وردًا ولا ثمرًا ولا ظلاً. وقد تتظاهر الهشاشةُ النفسيةُ على شكل عاطفية صارخة، ملونة، تخفي تحتها نزعةً قَدَرية عميقة. ولا تعارُض بين الاثنتين: فهما تشتركان في زوال "الإرادة" volition كطاقة على التخطيط والترتيب والتركيب: تظهر الإرادة، بدلاً من ذلك، في صيغة "إرادوية" عاصفة، مميِّزة لنظام الطغيان النفسي والسياسي، أو في صيغة ركون وخنوع conformity إلى ما هو واقع، مثل النبتة الصحراوية التي أومأنا إليها. من المألوف، لذلك، أن تتناوب النفسيةُ العربية بين إقدام عاصف تتلوه استكانةٌ خانعة. 3 لكن هل ثمة مخرج غير زائف من هذا الوضع؟ نعم بالتأكيد: مقاومة الطغيان والتجرؤ على مواجهته! ليس ثمة شيء سحري أو بطولي حول المواجهة هذه. إنها مغالبة للخوف، وتجاسُر على إرخاء القيود، وتوسيع تدريجي ومتردِّد لمساحة اللعب الحر. وفي هذا الجهد عنصر تجريبي، وعملية صح وخطأ: أي نحاول؛ فإن لم ننجح، نحاول مرة أخرى بطريقة مختلفة. إنه عمل مدني بكلِّ معنى الكلمة: أعني بذلك أنه بلا ضمانات للنجاح، بلا كفالة متعالية من أيِّ نوع، وأنه عملية دنيوية وتراكمية، يسقط فيها ضحايا وخاسرون، لكن فرص النجاح محتملة دومًا. وهي عملية صعبة؛ لكن صعوبتها صعوبة بشرية عادية، بل مبتذلة، لا شيء سريًّا أو بطوليًّا فيها. يتعين أن نحطم أسطورة البطولة من أجل أن نستطيع مقاومة الطغيان. إن تحطيم "البطولية" Heroism و"عبادة البطل" hero-worship هو الضمان الأقوى لقطع طريق الانتقال من طغيان إلى طغيان. فالطغاة، في الغالب، أشخاص بنوا "أسطورة بطولة" حول أنفسهم، أسطورة لا تسمح إلا لقلَّة نادرة أن تنال هذا المجد: فهم لا يحكمون إلا لأنهم "استثنائيون"، "عباقرة"، "خارقون"! إن الطغيان مؤسَّس على ندرة الأبطال. نقاوم الطغيان بالدأب والصبر والسخرية والشجاعة. 4 نعود إلى ربط ما قلنا عن تأثير الطغيان المُفْسِد للسياسة والثقافة. النفسانية السياسية والثقافية التي تتسبب فيها فظاظةُ الطغيان هي بقاء في الطفولة ورفض للنضج. والنُّظُم السياسية التي تعاقب شعوبَها وتضربها كثيرًا وتهينها تحول بينها وبين النضج وتُبقيها في طور الطفولة. والطفل، خلافًا للناضج، قريب الرَّجْع، يتلو ردُّ فعله reaction الفعلَ action مباشرة، دون تدبُّر وعقل و"سياسة". الواقعية النفسانية هي، بالضبط، قرب الرَّجْع والمباشرة، فيما "الواقعية الواعية" Conscious Realism، السياسية والثقافية، هي بُعد الرَّجْع والأناة والصبر والتوسط. ولعل قرب الرَّجْع أو بُعده هو مقياس الهشاشة النفسية – لو استطعنا أن نقيسه. 5 الكلام على إضفاء طابع نفسيٍّ على السياسة والثقافة يعني أيضًا الكلام على إضفاء طابع "شخصي" عليهما – مع ما يعنيه ذلك من نزعة شخصنية personification، أي إحلال الأشخاص محلَّ العلاقات، والمسؤوليات محلَّ الأسباب، والأغراض محلَّ الشروط والإمكانات المتاحة للفاعلين. ومن هنا انتشار "نظرية المؤامرة" conspiracy theory في ثقافتنا الحديثة. إذ يبدو العالم مكوَّنًا من ذوات مديدة، مغرضة، لا من علاقات وتقاطعات والتقاءات عارضة، كثيرًا أو قليلاً. فنظرية المؤامرة هي الابنة الشرعية للمفهوم الشخصني للعالم: الغرب شخص، أمريكا شخص، اليهود شخص، و، في وقت مضى، الشيوعيون شخص، وبالطبع دومًا، نحن شخص – ما يجد ترجمتَه السياسية في بَتْر المختلِف بيننا وردم فجواتنا المحتملة، وفي المقابل، نَصْبِ أسوار صينية بيننا وبين العالم. من هنا أيضا كون "الپارانويا" paranoia (جنون الارتياب والاضطهاد) المرضَ النفسي "القومي" للعرب، أكثر حتى من "الفصام" schizophrenia الذي يشخِّصه دارسو الثقافة العربية الحديثة عادة (برهان غليون مثلاً). من هنا كذلك شيوع نمط التفكير "ضد" فلان أو التيار الفلاني، بدلاً من التفكير في الموضوع كذا أو المسألة كيت، والفعل "ضد" بدلاً من الفعل المتروَّى فيه؛ أي في بساطة، شيوع سلوك ردِّ الفعل. هذا يجعل فكرنا بلا موضوع، بلا أرض صلبة يستند إليها، ويرسخ فعلَنا انفعالاً ومُراغَمة وكيدًا؛ وله الفضل في انتشار الخبث و"الكلبية" cynicism في مجتمعنا واستشرائهما في نفوسنا. النموذج الأقصى للسلوك هذا هو أن تفاعلاتنا الاجتماعية كلَّها ردود أفعال بلا أفعال، أسواء تفاهم بلا تفاهمات، معرفة بلا موضوع – أي بلا مبادرات تأسيسية، وبلا تفاهمات تأسيسية، وبلا ذاتية حقيقية. ذاك أن الذات subject بلا موضوع object للمعرفة ترتد إلى مستوى الشعور، وبلا موضوع للعمل ترتد إلى مستوى الانفعال – ما دون اكتشاف الحرية في الحالين. لكن لماذا المقاومة تحرُّرٌ من النفساني المباشر؟ لأنها، بينما تقاوم الطغيان وتصطدم به، تصنع الموضوع، وتاليًا، الوعي أو الذات؛ لأنها خروج من التذمر إلى الفعل، ومن "النق" إلى النقد، ومن الانطباع إلى تنظيم الإدراك، ومن المباشر إلى المبني والمتروِّي، أي إلى بروز الذات والموضوع فوق تشوُّش الشعور واختلاطه. في ختام هذه التأملات، يبدو الطغيان نظامًا سياسيًّا واجتماعيًّا يعوق ارتقاء الناس إلى ما فوق الشعور والانطباع، أو يردُّهم إلى مستوى الانفعال والعاطفة. لكنه أيضًا شرطٌ للمعرفة والعمل يُبقي الإنسانَ أسيرَ الدائرة الانفعالية، ويأسره في دائرة القصور والطفالة infantilism. الصلة بين الاثنين جلية: حين تضرب الناس أو تتحكم بهم اعتباطيًّا، إنما أنت تأسرهم داخل نفوسهم في دائرة الإحساس والشعور. الألم مضاد للعقل، وألم التعذيب يحطِّم اللغة والمنطق، كما تقول إيلين سكاري. والإذلال المديد يقتل القدرة على التفكير المنظم. واعتيادك القول "للأُحَيْمق يا حليم" (المتنبي) يُفقِدُك السيطرةَ على مصيرك ويُبقيك في دائرة الحمق والطغيان. *** *** *** |
|
|