|
كربلاء أو التأسيس على التجديد[*]
للمرَّة الثالثة أتشرف بالوقوف بينكم ومشاركتكم إحياء ذكرى عاشوراء الكريمة على قلوبنا، [...]. مرة ثالثة أعود إلى ذلك المساء الكئيب، حيث دار صراعٌ بين الحقِّ والباطل، حيث وقف البريء وحيدًا يدافع عن الحق. أقف وأعيد قراءة الأحداث من مفهوم أنثروپولوجي دلاليٍّ يقرأ الحدث في خصوبته ومعانيه ومراميه. سأبدأ من النهاية وأتساءل: علامَ تؤسِّس عاشوراء؟ التأسيس الأول إنَّها تؤسِّس، أولاً، على المحبة بين الإسلام والمسيحية، أي على منطق حوار الأديان والحضارات وقبول حق الاختلاف والتلاقي مع الآخر في مصير واحد تزيِّنه المحبةُ والأمانة والاحترام. إنه حوار المحبة في مقابل صراع النظريات والمعتقدات. وعلى الرغم من المحاصرة الخانقة، فإنها تبقى نافذةً مفتوحة على النور والضياء؛ وهي تقول إن اليأس ممنوع مادامت صَلاتُنا صاعدةً مع بخور المجامر. ونحن في جدلية تلاقي المسيحية والإسلام – على رحمة الله وحبِّه، وعلى الافتتان بوجه عيسى ابن مريم، السيِّد المسيح عليه السلام، وعلى الانبهار باصطفاء مريم، أنقى نساء العالمين – ننخرط معًا في حبِّ الله. نعمة المحبة الإلهية أفاضها الله على البشر أجمعين. هنا يكون لنا الإغناءُ الروحي والإثراء الفكري، فنقيم معًا في المدينة المقدسة التي يضيئها مجدُ الله، ونكون في كنف الرعاية الإلهية والرحمة السماوية، دون تفرقة في الجنس أو العرق أو اللون أو الوضع الاجتماعي أو اللغة أو الدين. تدبير الله هو أخوَّتنا نحن العيال: أي على عيش مشترك يروِّض نزواتِنا وعنفَنا، فنكون في المعايشة والاستحضار في قعر الوجدان والمجتمع، فنزخم التاريخَ بشبكة العلاقات الطيبة مصلوبةً عن الحب، ونعيش معًا بسلوك اللطف والحنان البشري المجبول بالرقة والإنسانية. [...] في ذلك المساء الكئيب، مزجَ وهب المسيحي دمَه ودَمَ عروسه وأمِّه وجون الخادم بدم الحسين في كأس الحق والثورة والحرية في كربلاء. فكان عرس الدم، عرس الشركة في الحياة والموت والخلود. إنه العرس المقدس بأمانة الخدمة. فكانت كربلاء الجمرة المقدسة التي حملها أولادُ كربلاء، حيثما حلوا، ليؤسِّسوا على المحبة والدَّعَة والفداء. التأسيس الثاني التأسيس الثاني قائم على أن المحرومين والبؤساء هم في قلب الله. أي لا حبَّ لله إلا انطلاقًا من حبِّ المظلومين والفقراء وخدمتهم وغسل أقدامهم وتقبيل جراحاتهم وتضميدها. هذا هو الحق الطالع من وجع المستضعَفين المقهورين. والباطل هو هذا الفحش الاجتماعي والأخلاقي والسياسي. الاهتمام بالفقراء اهتمامٌ بالله. هؤلاء الناس جائعون إلى الكرامة، محتاجون إلى الدواء والكساء وإلى حبِّ الله. إنهم القربان الحقيقي الذي نقرِّبه لله، كما قال قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر في أول رسالة له: الاهتمام بالأيتام والمرضى والأرامل هو جزء من مهمة الكنيسة، كما الاحتفال بالقربان المقدس ونشر تعليم الإنجيل. مدينة الله ومدينة أفلاطون ومدينة قيصر والجمهورية الجديدة تقوم على العدالة والحرية والكرامة والمساواة. البناء يؤسَّس على الحق لا على الباطل. التأسيس الثالث: عاشوراء تؤسِّس على التغيير الكياني الفرق كبير بين فعل "الكينونة" وفعل "الامتلاك": فعل الكينونة Être داخلي كياني، جوهري – إنه في الذات؛ فعل الامتلاك avoir خارجي، عارِض – إنه من المتاع والأشياء والأغراض. عاشوراء ليست مشيئة خارجية فقط، تصل أحيانًا إلى أن يرفض مظاهرَها بعضُ علماء الدين عندما تؤسَّس فقط على الخارج، من ضرب سيوف ودماء ولطم ونواح وبكاء وشجن؛ بل هي تؤسَّس على "تطهير" catharsis داخلي كياني، يجدِّد الإنسانَ ويجدِّد وجهَ الأرض والمجتمع. هذا الشجن والنواح والندب والتلوُّع والتفجُّع والتوجُّع يبقى ناقصًا إذا لم يجرفه فرحُ التحول والتغيير والقيامة والانبعاث. يجب ألا نبقى على جوانب القبر؛ بل فلنندفع إلى قيامة إنسان جديد ومجتمع جديد يعطي للألم معناه القياميَّ وللموت ربيعَه البهي. يجب عدم البقاء في رمل ذلك المساء. فالثورة، ثورة الحق على الباطل، والوقفة، وقفة الأولياء أمام الأشقياء – هذه هي المهمة المقدسة للبطل والشهيد؛ هذه هي الرسالة المباركة الينبوعية الطاهرة. وهي متوَّجة بنهاية ممجَّدة مشعَّة. الغرق في الرمال يُنقِصُ الذبيحةَ ساعة المجد والقيامة والانتصار. فعلينا ألا نبقى في مشهدية الانكسار – والمصبوغُ بالدم مليءٌ بالرجاء والبهاء، وقد خرج ليولِّد صدمةً في الضمير، وهو عارف أن قلوب القوم معه وسيوفهم عليه؛ وعلى الرغم من العطش والخيانة، يسير في الصحراء وهو لا يرى الموتَ إلا سعادة، والحياةَ مع الظالمين إلا برمًا؛ وهو عارف أن فاجعته ستتحول ربيعَ عدل وأرضَ حقٍّ مفتوحَين على الحنان والرحمة، فيصبح الزمنُ تواصلاً مفتوحًا ينبسط على التاريخ كلِّه، وإيقاعاتُ الشجن صلاةَ فجر في دير عتيق. هو الإمام بالحق والشرع – وغيرُه الخليفة بالخديعة والغلبة – يخرج للإصلاح في أمَّة جدِّه رسول الله. في قاع الكيان، يحدث حوارٌ داخل الذات وداخل التاريخ وداخل الحدث. عاشوراء زمن بداية مشهدية ملحمية دون نص. إنه الانفعال في الاحتفال الأول بخصوبة العواطف والإحساس في طقوسيَّة دموية لمواجهةٍ صاعقةٍ بين الحق والباطل، بين خسارة الدنيا والفوز بالآخرة، بين الخيار المطلق للسماء أو الغرق في وحول مصالح الأرض والتراب، في انتهازية لا أخلاق فيها ولا شرف. التأسيس الرابع الكائن البشري هنا مشدود إلى النقاء، إلى العري الكامل عن الزائل، وإلى الغرق الدائم المستمر في الأبدية. إنها عملية قربانية كاملة، احتفاليَّة، يقدَّم فيها الحسين قربانًا طاهرًا مرفوعًا إلى الله. ألم تقل السيدة زينب بعد استشهاد أخيها الحسين: "اللهم تقبَّلْ هذا القربان"؟ جسد الحسين أصبح قربانًا لأجل افتداء قومه. إنه الفعل القرباني المؤسِّس لمجتمع جديد، وفكر جديد، وإنسان جديد. من هنا الانطلاق بعيدًا عن الشجن والبكاء إلى فعل قياميٍّ مليء بالرجاء والفرح – وإلا انتفتْ خصوبةُ الحدث. لكن الفاجعة المولِّدة للحضارة اكتفت بحالة جنائزية حزينة، ولم تصل إلى عرس الأمل والفرح والتحول والولادة الجديدة في المجتمع والثقافة والفن والمسرح والموسيقى وباقي الإبداعات. التأسيس الخامس المجتمعات تُبنى على أبطال مؤسِّسين، استشهدوا بعد آلام كثيرة: پروميثيوس، أوديپوس، سقراط، الحلاج... انتصار البطل قائم في انكساره وفي هزيمته، ليكبر هولُ الفاجعة. لكن عليه – كما يقول النشيد: "المسيح قام من بين الأموات وقهر الموت بالموت" – أن "يقوم من بين الأموات" و"يقيم الذين في القبور"، فتولد من الفاجعة الحضارةُ والثقافةُ والمجتمعاتُ الجديدة الحرة الثائرة. البطل مشرقٌ نقاءً، مشعٌّ حقًّا، كما في الإبداع الفني، وحوله أناس لهم أوجُه الحيوانات، وزينتُهم الرذيلة والأذناب الطويلة (جيرنيموس بوش). ألم يكن المشهد كذلك حول الشهيد الحسين؟ التأسيس السادس يطلُّ البطلُ طاهرًا مطهَّرًا. هذا التطهير catharsis هو الذهاب أو الخروج إلى أعلى القيم والمثل، ليصبح البطلُ المثلَ والمثال، الجاذبَ والساحر، الباعثَ فينا كلَّ التأوُّه على موته واستشهاده، لكنَّه المُنبِتُ فينا الرجاءَ بأن يكون كلُّ واحد منَّا مكملاً لمساره، مجسِّدًا لحياته ولثورته – وإلا انتفت كلُّ جاذبية المأساة والفاجعة وسحرهما. عاشوراء دعوة لنا جميعًا لتغيير ما فينا، فنصبح إنسانًا جديدًا، يسكنه عشقُ الله وبهاءُ وجهه الأزلي في تسليم مطلق لمشيئته. ليل البستان هذا هو ليل التسليم لمشيئة الله وشرب الكأس مترعة آلامًا وأوجاعًا. دعوة الذات إلى التنقية والارتقاء، إلى إعادة خلق الذات والانبعاث بخصوبة أخلاقية وروحية ومجتمعية لملكوت جديد، الموت فيه هو الحياة والفناءُ ولادة جديدة. فأهل عاشوراء مولودون من رحم الفاجعة في حالة نقاء، يدفعون الذات والمجتمع إلى عملية تطهير واستعادة زمن البدايات، لأنه زمن الثورة والحرية والتغيير، ليصلوا إلى دائرة المُثُل وخوارق البطولات. مجدُهم هذا التألق في طهارة الذات، وفرادتُهم هذا النجيع الدائم الذي يجعل من الشجن ولادةً جديدة من قبر الرمال. خاتمة لذلك، على الرغم من رفض معظم رجال الدين الشيعة طقوسيَّة عاشوراء العنيفة وما يرافقها من ضرب سيوف للرؤوس حتى الدم ومن لطم صدور في عنف، نرى أن بعضهم لا يستطيع التماهي والتماثُل العاشورائي إلا بالانخراط الدموي في طقوسية واحتفاليَّة ومشهدية عاشوراء، بدلاً من التسامي والانخراط الروحي والنفسي في حالة طُهْر، بغسل القلب بالتوبة والنفس بالندم. هذا الاندراج الصوفي الروحي هو أرقى الترقِّي في جمالية مشهديَّة عاشوراء عندما يصبح الحزن الهادئ هو الطقس الأكبر للأسى والصلاة. الصمت المسكون بعشق الله يرتقي بالعنف المقدس الواقع على الضحية إلى فعل خلاص وتقديس؛ فتتغير شعائر الاستحضار في طقوس استبدال تلجم العنف في مسلكه العدواني، ويصبح تمجيد الحرية في جوهر الإنسان هو الأساس الذي قامت عليه حركةُ الإمام الحسين. العنف هنا يتحول إلى حزن مقدس، حزن هادئ، يدفعنا لأن نربِّي أجيالنا وأولادنا على المغفرة والمسامحة والتراحم والمصالحة والمحبة، فنصلِّي ونقول: اللهم اجعل نصيبنا مع الضحايا، وليس مع الجلادين. تفاعُلنا العاطفي يربطنا عاطفيًّا وكيانيًّا بالحدث والشخص والمعنى، فيصبح بُعدًا سلاميًّا irénisme، وليس ثأريًّا، ونتحول صورة طيبة عن الذي نستنكره ونجعله يعيش فينا: نتناوله قربان حقٍّ بأعمال وسلوك، وليس مجرد تماثُل خارجيٍّ يُنسى مع نهاية الاحتفال. فنقوم نطلب الغفران والمسامحة والمصالحة بعضنا من بعض، ونعود بعضنا إلى بعض في ثقافة المحبة وحضارة المحبة التي يجسِّدها اليوم لبنان. إذا كنَّا صوت سلام، فنحن صوت حق. نحن صوت كائن سلاميٍّ بالحق، بالعدالة؛ ونتحول إلى صوت حسينيٍّ وكيان حسيني. نؤسِّس لإنسان سلاميٍّ ومجتمع سلاميٍّ في حضارة الأيام الآتية، وقد خرَّبها جرحُ الأصولية ووباءُ الرجعية والسلفية والتعصب، إذ رحنا ندمِّر الآخر ولم ندرك أننا بذلك ندمِّر نفوسنا وندمِّر صورةَ الله فينا وفي الآخرين. في النهاية، أفتش في هذا الليل عن وجه حسينيٍّ جديد، عن عمامة إمام موسى الصدر جديد، تضيء ليل هذا الوطن القائم في اعتقادي [...] على هذه الوديعة الحوارية [...]. لن نبني لبنان إلا على الحوار، وعلى العيش المشترك، وعلى الاعتراف بعضنا ببعض متنوعين، تجمعنا محبةُ الله وخوفُه، وبهاءُ وجه عيسى واصطفاءُ مريم، وهذا الجرحُ الكربلائي المفلوش على جنبات الكون كلِّه، حيثما وقع ظلمٌ أو سُفِكَ دمٌ بريء. فأنا وأنتم وجهٌ كربلائي مدمَّى. كلٌّ منَّا بريء. فوق رمال الصحراء أو على صخور الجبال. هذه الآفاق الإنسانية الجديدة تعني الناسَ جميعًا. إنها مادةُ تواصُل فيما بينهم لانتصار المحبة على الحقد. الاختبار المسيحي لا يمتلكه المسيحيون وحدهم، والاختبار الحسيني لا يمتلكه الحسينيون وحدهم؛ بل إنه مدار يتسع للجميع في الانتصار على المحاصرة الإرهابية ضد الحق في تطويق الحرِّ على أرض معزولة. فنتعلم في عِبْرة إنسانية أن الحق سينتصر، وكلما اشتدت الأمور يتألق وجهُنا كوجه الحسين. حبات الرمل هناك صارت مراسيل وتحولت نداءات للحق والحرية. إنه انتصار على الخوف والألم والموت والمحاصرة، انتصار على الذات وتسليم مطلق لله. فهل يمكن لنا أن نُظهِر هذه الصورة فينا، ونمد اليد، على الرغم من الاختلاف والأسى، لنليق بالذي نقيم ذكراه اليوم؟ والسلام عليكم. *** *** *** عن النهار، الخميس 9 شباط 2006 [*] من كلمة ألقاها الأب مونِّس في عاشوراء المصيلح.
|
|
|