|
في العولمة والعيش المشترك[*]
لا بدَّ من كلمة في "العولمة" وأخرى في "العيش المشترك" كمدخل إلى الحديث عن الدعوة العالمية إلى التعايش والسلام بين الأديان. فالعولمة وفَّرتْ وسائلَ الاتصال بين الشعوب والأمم، في مشارق الأرض ومغاربها، فوفَّرتِ المعرفةَ عن الأديان والعقائد، وسهَّلت طُرُقَ الوصول إلى هذه المعرفة؛ بل إنها أدخلتْها، من حيث تريد أو لا تريد، إلى كلِّ بيت عبر الشاشة الصغيرة. وهكذا بات الناس يعرفون عن أديانهم وعن الأديان الأخرى أكثر من أيِّ وقت مضى. ومن خلال هذه المعرفة أدركوا أنهم يجهلون أكثر مما يعرفون: ذلك أنه كلما اتسعتْ جزيرةُ معرفتنا تتَّسع شواطئ جهلنا. إن العالم متعدد الأديان والعقائد والمذاهب؛ وهذه التعددية هي ركن أساس من أركان العولمة، بل سبب من أسباب كينونتها. ولكن ليس كل ما يُعرَف صحيحًا! فالإسلام، مثلاً، يعاني من سوء فهم غير المسلمين له، الأمر الذي يعرِّضه للتشويه؛ كما يعاني من سوء استغلال بعض المسلمين، الأمر الذي يزيده تشويهًا. لذا فإننا لا نستطيع أن نتعايش مع الخطأ، ولا أن نعيش معه. لا بدَّ لنا من أن نفهم بعضنا جيدًا حتى نتفاهم جيدًا. فالتعارف – أي تبادُل المعرفة بين الناس – ينطلق أساسًا من الاعتراف بالاختلاف والتباين ومن التعامل مع هذه الحقيقة على أنها ظاهرة طبيعية، بل على أنها تعبير عن إرادة إلهية في أن يكون الناس مختلفين: "ولو شاء ربُّك لَجَعَلَ الناسَ أمَّةً واحدةً ولا يزالون مختلفين" (هود 118). فاختلاف الألسُن والألوان آية من آيات الله البيِّنات. ثم إن التعارف يؤسِّس للاحترام المتبادل على قاعدة هذه الاختلافات والتباينات. إن التعددية في مجتمعاتنا الصغيرة، وفي المجتمع الإنساني الكبير، تحتِّم علينا أن نتعلم احترام بعضنا بعضًا واحترام الآخر. وهذا لا يكون إلا بالمعرفة التي تحرِّرنا، لأن الجهل يعلِّم الخوف ويزرع الشك ويؤسِّس للبغضاء. فانتقاد الآخر المختلف لا يغيِّر من جوهر الأمر؛ وكلما كان الانتقاد مبنيًّا على جهل الآخر ازدادت نتائجُه سلبية وخطورة. ولكن عندما يحلُّ الفهم محلَّ الجهل، والاعتراف محلَّ الإلغاء، يسود الحب والتفاهم، وتنتفي العوامل المحرِّضة للخوف والصراع. من هنا أهمية تقديم صورة صحيحة وسليمة عن الإسلام، ليس لتصحيح الصور النمطية السلبية عنه فحسب، إنما لتصحيح الصورة المرتبكة والمتشنجة أيضًا. وهذا التصحيح ضروري لغير المسلمين بقدر ما هو ضروري حتى لبعض المسلمين! فإذا كان من الخطأ تهميشُ وعزل مليار و200 مليون مسلم، يشكِّلون خمس المجتمع البشري، عن حركة المجتمع الإنساني، فإنه خطأ أكبر استعداء المسلمين العالمَ والانغلاق على الذات. فالعالم ليس منقسمًا إلى فسطاطين، كفر وإيمان، كما أنه ليس منقسمًا إلى معسكرين، خير وشر! المقولتان سلبيتان؛ والسلبيتان لا تصنعان إيجابية. الواقع هو أن ثمة معاناة عالمية من سوء فهم الدين الإسلامي ومن سوء توظيفه إلى حدِّ قتل النفس التي حرَّم الله (الإسراء 33) – وباسم الله! إننا نتحدث عن "التعايش الإسلامي–المسيحي" من دون أن نتوقف بواقعية أمام المعوقات التي يواجهها. العلاقات الإسلامية–المسيحية بخير؛ ولكن في الإمكان أن تكون أفضل إذا عرفنا كيف نتعامل مع المعوقات التي تعترضها. وهذه على نوعين، إسلامية ومسيحية: أ. إسلاميًّا، هناك، أولاً، خطأ الاعتقاد بأن الغرب هو المسيحية، وبأن الخلاف معه هو خلاف مع المسيحية. وهناك، ثانيًا، خطأ الاعتقاد بأن المسيحيين العرب يشكِّلون الخندق الأمامي للغرب المسيحي في قلب العالم العربي، وأنهم يستقوون به على إخوانهم من المسلمين العرب. وهناك، ثالثًا، الحوار الإسلامي مع المسيحية في الغرب (الفاتيكان، الكنيسة الأنغليكانية، "مجلس الكنائس العالمي"، "مجلس الكنائس الوطني الأمريكي"، إلخ) الذي يقفز غالبًا من فوق الكنائس العربية، متجاهلاً دور المسيحيين العرب، خصوصًا دور "مجلس كنائس الشرق الأوسط". وهناك، رابعًا، صعود حركات التطرُّف والغلو الإسلامي، من حيث احتكارُها للإيمان، بإلغاء الآخر غير المسلم وبتكفير المسلم المختلف عنها أو معها. وهناك، خامسًا، خطأ الاعتقاد بأن تعاوُن رئيس أية دولة عربية (يكون على خلاف مع قوى إسلامية محلِّية) مع المسيحيين العرب هو انحياز مسيحي ضد الإسلام. وهناك، سادسًا، هجرة المسيحيين العرب من دول العالم العربي، التي وصلت إلى حدِّ الاستنزاف: هذه الهجرة تؤدي إلى تفسُّخ نسيج المجتمع العربي المتماسك، بخيوطه الإسلامية والمسيحية المتشابكة[†]. ب. أما مسيحيًّا، فهناك الانكفاء عن أداء الدور الوطني، سياسيًّا وثقافيًّا، بكل ما يترتَّب عليه من انعزال وتقوقُع على الذات، تجنُّبًا للاحتكاك مع المتطرفين والغلاة الإسلاميين؛ وهو انكفاء يؤدي إلى مزيد من الهجرة الاستنزافية، التي يؤدي استمرارُها، بدوره، إلى تصدُّع وحدة المجتمعات العربية بمكوناتها الإسلامية–المسيحية. وهناك "مجلس كنائس الشرق الأوسط" المؤهل، بحكم تمثيله لجميع الكنائس العربية والمشرقية، أن يلعب دورًا أساسيًّا وجوهريًّا في إقامة حياة إسلامية–مسيحية مشتركة (حتى إنه لو لم يكن هناك مجلس من هذا النوع لكان من الواجب إيجاده)؛ ولكن حتى يتمكن هذا المجلس من أداء دوره المطلوب فهو يحتاج إلى استراتيجية بنَّاءة للعمل المشترك مع المسلمين بكلِّ انفتاح ومحبة وثقة[‡]. لقد دعا الإسلام إلى احترام الكرامة الإنسانية وإلى المحافظة عليها: بمعنى أن الإنسان في الإسلام مكرَّم في حدِّ ذاته، وليس لإيمانه. فالكرامة الإنسانية ليست الوجه الآخر للإيمان، ولا هي مرتبطة به، سواء كان إيمانًا برسالة "كتابية" (اليهودية أو المسيحية أو الإسلام) أو بأية عقيدة أخرى. ولكن يبقى أن الإنسان "الأتقى" هو الإنسان "الأكرم" عند الله (الحجرات 13). كما دعا الإسلام إلى احترام حق الحياة وإلى تحريم الاعتداء على حياة الإنسان؛ وتؤكد على ذلك الآية القرآنية الكريمة: "مَن قَتَلَ نفسًا بغير نفسٍ أو فساد في الأرض فكأنما قَتَلَ الناسَ جميعًا ومَن أحياها فكأنما أحيا الناسَ جميعًا" (المائدة 32). كما يؤكده الحديث النبوي الشريف الذي قال فيه نبينا محمد – عليه السلام – عندما سئل عن المسلم: "المسلم هو مَن سَلِمَ الناسُ من يده ولسانه." وهذا الحديث لا يعني فقط عدم إلحاق الأذى بالناس – مسلمين أو غير مسلمين، مؤمنين أو غير مؤمنين – بالعمل اليدوي السيئ، ولكنه يعني أيضًا عدم إلحاق الأذى بهم ولو بكلمة؛ فكيف إذا كانوا يؤمنون بالله – أي كانوا إخوة في الإيمان؟ وكيف إذا كانوا تحديدًا مسيحيين: "أقرب [الناس] مودةً للَّذين آمنوا" (المائدة 82)؟ إن في القول السديد صلاحًا للأعمال وغفرانًا للذنوب، كما يعلِّمنا القرآن الكريم؛ ذلك أن "عباد الرحمن [...] يمشون على الأرض هونًا وإذا خاطَبَهم الجاهلون قالوا سلامًا" (الفرقان 63). تبقى هناك إشكالية لا بدَّ من التوقف أمامها، وهي قضية التسامح الديني. إن وصف الإسلام بـ"السماحة" هو وصف صحيح بالتأكيد؛ ولكن وصفه بـ"التسامح" أمر آخر. فالسماحة شيء، والتسامح شيء آخر مختلف: التسامح ميزة كريمة في التعامل الإنساني وفي العلاقات بين الناس، بمعنى أن يتنازل أحد الطرفين عن حقِّه، كليًّا أو جزئيًّا، أو أن يغفر لِمَن أساء له. وبالتالي، فالتسامح، على أهميته، سلبي لجهة المتسامَح معه واستعلائي لجهة المتسامِح. ولكن أيَّ مؤمن – مسلمًا كان أو مسيحيًّا أو يهوديًّا، بوذيًّا أو هندوسيًّا، إلخ – ليس مستعدًا أن يتنازل عن أيِّ ركن من أركان عقيدته استرضاءً للآخر المختلف معه أو مسايرةً له. ولكن في الإسلام تقوم العلاقة مع الرسالات الكتابية الأخرى على قاعدة إيمانية، وليس "تسامحية". ما كان لتعدُّد العقائد الإيمانية أن يكون لولا الاختلافات بين العقائد والاجتهادات الدينية. ولأن إزالة هذه الاختلافات أمر غير ممكن وغير منطقي، فليس أمامنا للعيش معًا سوى تأصيل ثقافة احترام الاختلاف وقبول الآخر كما هو وكما يريد أن يكون. فالله وحده يحكم بيننا يوم القيامة فيما نحن فيه مختلفون (البقرة 113، الحج 69). لقد أرسل الله النبيَّ محمدًا – عليه السلام – "رحمةً للعالمين" (الأنبياء 107)؛ ووصف الله النبيَّ بأنه "أسوة حسنة" للمسلمين (الأحزاب 21). فتأسِّي المسلمين برسول الله يحتِّم على كلِّ واحد منهم أن يحرص دائمًا على أن "يسلم الناس من يده ولسانه"، حتى يكون إنسانًا رحيمًا بنفسه، بعائلته، بمجتمعه، وبالناس أجمعين. *** *** *** عن المستقبل، الاثنين 14 تشرين الثاني 2005، العدد 2098 [*] مداخلة أُلقِيَتْ في "ندوة التعايش الديني" في عمان. [†] أخطر مثال على ذلك ما يحدث في الأرض المقدسة فلسطين عمومًا والقدس خصوصًا. [‡] لعل من المهم هنا التذكير بأهمية وثيقة "الإرشاد الرسولي" التي صدرت عن السينودُس من أجل لبنان والتي تحدثت عن دور المسيحيين في العالم العربي، وليس في لبنان وحده فقط، بصفتهم جزءًا لا يتجزأ من هذا العالم. |
|
|